نشرت ايلاف مقالتى (لماذا يكره العالم امريكا) فى يوم 29 كانون الأول2007، ومن تعليقات القراء الأعزاء فهمت ان بعضهم ظن بأننى أكره أمريكا. وأود ان اوضح اننى لا أكرهها ولا أحبها. كرهتها يوم شن بوش الأب هجومه الفظيع على العراق ودمر بنيته التحتية، وترك العراقيين الذين ثاروا على الطاغية بدون حماية بعد ان أوهمهم بأن أمريكا ستحميهم وتساندهم، ولكنه بقي فى الكويت لا يتقدم ولا يتأخر، وعاد صدام وشدد قبضته على رقاب العراقيين، وانتشر عملاؤه السريون يعتقلون ويعذبون ويقتلون ويدفنون من يشكون باخلاصهم لهم وهم أحياء.
ثم جاء دور بوش الابن الذى أكمل ما بدأه أبوه ودخلت القوات الأمريكية بغداد وفر الطاغية. صفقنا فرحا بسقوط حكمه الأسود الذى جثم على صدور العراقيين قرابة أربعة عقود من الزمن. صفقنا وفى قلوبنا غصة على من فقدوا أرواحهم وممتلكاتهم، وقلنا ان للحرية ثمنا، ولم تمض الا فترة قصيرة حتى ادركنا فداحة الثمن. الأمريكيون لم يعرفوا العراق سابقا مثل ما عرفه الانكليز، فارتكبوا سلسلة طويلة من الأخطاء المميتة كان نتيجتها ان عم الخراب والدمار وتمزق الشعب شر ممزق، واخترق الحدود كل من هب ودب، ودخلت معهم البهائم الانتحارية لتزيد فى آلام الشعب المسكين المغلوب على أمره، ولعبت دول الجوار دورا أثيما من ارسال الاموال الى من أطلقوا عليهم اسم (المقاومة الشريفة) وزودوهم بالسلاح والمتفجرات، بحجة مقاومة جيوش الاحتلال، ووصلت نسبة القتلى الى مئة من العراقيين مقابل كل أمريكي قتلوه. اغتنم البعثيون فرصة انفلاتالامن مستفيدين من الأموال الطائلة التى هربوها وهربتها عائلة صدام قبل سقوط حكمهم، وبدأوا باعادة تنظيم صفوفهم والتخطيط للعودة الى الحكم بأي ثمن حتى ولو كان ابادة ثلثي الشعب العراقيكما كان يقول لهم صدام. لقد أوهموا الناس ان الأمريكان انما جاؤوا لنصرة الشيعة على السنة، بينما الواقع هو ان حكم صدام قد أرهق الشعب العراقي كله بدون استثناء، فقتل من السنة مئات الالوف كما قتل من الشيعة ضعفي عدد من قتل من السنة بحسب نسبة تشكيلة السكان من الطائفتين.
دعونا نتساءل عن سبب هذا التدهور الفظيع فى الحالة الأمنية، بالاضافة الى التدهور فى كافة نواحي الحياة. ومن المسئول عما وصلنا اليه من تعاسة وشقاء ومن دفعنا الى هذه الكارثة. لا أظن ان المسئولية تقع على عاتق الأمريكيين وحدهم، ولكن بالدرجة الأولى تقع على صدام حسين وحزب البعث، فهم الذين زجوا بالعراق فى حرب السنوات الثمان مع ايران، ثم غزوا الكويت وتسببوا فى مجيء الأمريكان الى المنطقة لحماية منابع النفط التى هى بمثابة شرايين الحياة لهم.
عاصفة الصحراء
فى بداية الحرب العالمية الثانية وصلت القوات الألمانية الى مشارف باريس، واجتمعت الحكومة الفرنسية وقررت تسليم باريس من غير قتال حفاظا عليها وعلى ارواح أهلها، اذ لا قبل لهم بمقاومة الألمان، وسلمت باريس.
وماذا فعل صدام؟ رفض انذار بوش الأب الذى هدده بقصف العراق واعادته الى العصر الحجري.
نصحه اصدقاؤه السوفييت بالانسحاب من الكويت فلم يستمع الى نصحهم. نصحه حسنى مبارك والملك حسين وغيرهما ولم يستمع لأحد ونعت كل من ينصحه بالانسحاب بأنه غير عربي وانه عميل وخائن. (علما بأن الاثنين لم ينصحاه بعدم مهاجمة ايران بل وقفا الى جانبه).
ما يحير هو كيف ظن صدام ان العراق الدولة الصغيرة التى خرجت من حربها مع ايران مهشمة مفلسة، ان تقف بوجه أمريكا أقوى دولة فى العالم، وقد حصلت على تخويل من الأمم المتحدة باخراج العراق من الكويت ووقفت الى جانبها 35 دولة من بينها ست دول عربية حشدت قواتها على الحدود العراقية واشترك بعضها فى قتل العراقيين؟ وماذا فعل العراق؟ طارق عزيز رفض استلام الانذار الأمريكي فى مدريد قائلا ان ما جاء فيه من تهديد لا يتفق مع النهج الدبلوماسي الصحيح!!! وأعاده الى جيمس بيكرالذى كاد ان يرقص من الفرح، فقد ضمن بذلك تدمير الجيش العراقي.
ويعرف الجميع نتيجة حرب الخليج الأولى، ونتيجة القصف المركزالمدمر الذى استمر ثلاثة أسابيع، تبعه حصار اقتصادي شملت أضراره كل العراقيين الا صدام وصحبه المقربين الذين استمروا على بناء القصور فى العراق وبناء الفلل فى الخارج. ولا ننسى ساجدة زوجة صدام التى كانت فى اليابان واشترت مجوهرات فرح ملكة ايران السابقة بالمزاد بأزيد من 230 مليون دولار فى الوقت الذى كانت فيه القنابل والصواريخ تتهاوى على رؤوس العراقيين.
حرب الخليج الثانية
مرأكثر من عقد من الزمن على تلك الحرب التى اعتبرها صدام نصرا له، وهو يناور ويخادع المفتشين الدوليين، حتى استلم بوش الابن الحكم وقرر وضع حد لحكمه. عندنا مثل يقول: (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ولكن صدام اثبت انه غير مؤمن، فلم يتعظ مما حصل فى حرب الخليج الأولى من تدمير لشعبه وبلده، وأبى الا مقاومة أمريكا، ظانا ان بوش الابن سيفعل مثلما فعله أبوه،
فيقصف العراق بالطائرات والصواريخ دون ان يدخل البلاد، و يبقى هو على عرش العراق، ويعلن النصر على أمريكا. واشيع انه قال فى وقتها انه لو بقي ثلث العراقيين على قيد الحياة فان ذلك سيكون كافيا، وبعد ذلك يملأ (الفراغ) بالمصريين والفلسطينيين العاطلين. وحتى بعد العثور عليه فى الحفرة وتقديمه الى المحكمة فانه كان يوجه اوامره (بالشيفرة) لأعوانه لمواصلة القتال، وهو يدرك ان ذلك يعنى زيادة مصائب العراقيين الذين اضحوا فى حالة يرثى لها.
دخل الأمريكان بغداد والناس بين مصدق ومكذب. هل حقا سقط صدام وحزبه؟ هل سيصبحون أحرارا ولا يعودوا يتلفتون وراءهم خشية المخابرات والاستخبارات والأمن وغيرهم من عملاء البعث؟ كيف ستشكل الحكومة الجديدة ومن سيرأسها؟ وكيف سيعاد تعمير العراق المخرب؟ كل هذه الأسئلة وأكثر كانت تدور فى رؤوس العراقيين العاديين الذين يشكلون الأكثرية الساحقة من السكان والذين كانوا يتوقون ان يعم الأمن والسلام ويحيون حياة طبيعية كما تحياها الشعوب الأكثر حظا. ولكن للأسف بدا هذا الحلم اللذيذ يتبخر بعد بضعة أيام من سقوط تمثال الطاغية.
كان الأمريكيون قد وضعوا خططا كثيرة وطموحة لأعادة اعمار العراق، وقامت الشركات الأمريكية والعالمية بمسح العراق لمعرفة احتياجاته لتقديم عروضهم ومقترحاتهم. بعثت شركات اخرى بخبرائها لدراسة امكانية استثمار الأموال الطائلة فى العراق. لم يكن هؤلاء يحبون العراق لأجل سواد عيون أبنائه، ولكنهم وجدوا فيه بلدا غنيا بموارده الطبيعية وشعبا مثقفا وعمالا مهرة وأرضا زراعية خصبة، والمستثمر لا يطمع بأكثر من ذلك. ولكن كما هو معروف فان رأس المال جبان، يخشى الاضطرابات ويهرب منها كما يهرب السليم من المجذوم. وحصل المحذور. بدأت مجاميع مختلفة تتهيأ للوثوب على الحكم،
منهم دعاة دين مزيفين ومنهم من ادعى بأحقيته فى الحكم لأسباب تأريخية او عرقية، وأخطرهم فى البداية كانوا البعثيون الذين يتقنون مهنة الانقلابات والاغتيالات ونشر الأكاذيب والاشاعات الكاذبة ويفعلون اي شيء للعودة الى الحكم. يضاف الى هؤلاء آلاف اللصوص والقتلة الذين اخرجهم صدام من السجون قبيل دخول الأمريكان. واغتنم اسامة بن لادن الارهابي العالمي الفرصة وقرر ان يدخل المعمعة من باب الدين ليؤسس دولة الخلافة الاسلامية. بدأت الاغتيالات والاختطافات والتفجيرات وانتشرت الحرائق المفتعلة ونهبت البيوت والمحلات التجارية ودمرت مصادر الماء والكهرباء ومحطات الوقود وأنابيب النفط والغاز، و تدهورت الأوضاع الى درجة لم تكن فى حسبان احد. البعثيون يدمرون ويقولون للناس ألم يكن وضعكم احسن ايام حكم صدام؟ والقاعدة الأرهابية تقول لهم بأن لا حل الا بدولة اسلامية تطرد المحتلين. ان تشكيل الحكومة على أساس طائفي لم يكن له من بد، ولكن المغرضون اتخذوا ذلك ذريعة لتأجيج الطائفية ونجحوا بذلك الى حد بعيد.
أما دول الجوار فحدث ولا حرج. سوريا البعثية احتضنت البعثيين الهاربين وسهلت دخول الانتحاريين. الأردن ومصر مصالحهما متشابهة فى العراق، فكلاهما بحاجة الى نفط العراق والى تشغيل عمالها العاطلين فيه من فلسطينيين ومصريين. دول الخليج تخشى حكومة عراقية موالية لأيران فتدخلت لحماية ابناء السنة كما ادعت، وسهلت دخور الارهابيين الى العراق وزودتهم بالأموال الطائلة. ايران بعثت بالأسلحة والمتفجرات الى الارهابيين بحجة حماية الشيعة. تركيا وايران قلقتين من قيام حكومة فدرالية فى العراق وما يتبعها من قيام حكومة كردية على حدودهما مع العراق. الأكراد غايتهم الاساس هى كردستان الكبرى، وقد ضحوا بالملايين على مرالسنين من ابناء شعبهم سعيا وراء تحقيق هذا الحلم البعيد، ولكن بسبب معارضة تركيا وايران وباقى الدول المحيطة بهم سكتوا على مضض بانتظار الفرصة المؤاتية. حاليا، يظهرون رضاهم بما حصلوا عليه لحد الآن، ولكن أفعالهم ومنها مطالباتهم المستمرة بضم اجزاء من العراق الى (اقليم كردستان) تدل على ان كل خطوة يخطونها هى باتجاه الاستقلال التام متخذين من فتك صدام بهم ذريعة للانفصال.
من جنى على العراق؟
بعد كل هذا السرد من ترون المجرم الحقيقى الذى دمر العراق؟ الأمريكان الذين غايتهم استمرار تدفق النفط الى الأسواق ليشترونه بالأسعار العالمية، ام صدام الذى تمسك بكرسي حكمه بغض النظر عن ملايين القتلى من العراقيين ودمار العراق؟ ام البعثيين الهاربين الذين يطمحون الى عودة حكمهم الدموي، ام المعممين الذين يريدون الحكم الديني تقليدا لايران؟ أم دول الجوار التى تخشى من نظام ديموقراطي قد يزعزع نظام الحكم فيها؟ ام الارهابيون من السنة والشيعة من الذين نصبوا من انفسهم اوصياء على بنى طوائفهم، وهم فى الحقيقة لا يبتغون الا الجلوس على كراسي الحكم وما بتبع ذلك من سلطة وثروة. ومن ذا الذى سيدفع الثمن غير العراقيين الذين لا رأي لهم ولا حول ولا قوة؟
عاطف العزي
كندا
التعليقات