أنفقنا،وما زلنا ننفق، الكثير من الحبر والكلام على الخلاف المزمن بين الثقافي وبين السياسي الذي صاحب تأسيس الدولة العراقية ومن ثم تشكيل أحزابها السياسية، ولم يدر بخلدنا أننا سوف نترحم على ذلك الخلاف بل ونتغزل به أحيانا، ونحن نشهد دخول الثقافي نفق الطائفي لتزيين سفك الدماء وسفك الكلام وهدم الوطن لإنقاذ الطائفة. فمنذ الأعراض الأولى لظهور المحاصصة الطائفية على هيكلية الدولة العراقية بعد الاحتلال بدأت الثقافة الوطنية في لملمة أسمائها وحروفها ومعاناتها وquot;صرايرهاquot; والانكفاء إلى الداخل تاركة مواقعها لثقافة غريبة، قلقة، وقد تمترست خلف مطلقات وبداهات وحادثات لها وقع المقدس الذي لا يمسه الخطأ. وأصبح الصراع بين مفهومي quot;الثقافة للثقافةquot; وبين quot;الثقافة للجميعquot; من الماضي الجميل، وانشغل quot;الهؤلاءquot; في البحث عن الأصول الهندية للشاعر العراقي مظفر النواب وعن الأصول الأفغانية لشاعر الريادة بدر شاكر السياب وعن الأصول التركية لصاحب نصب الحرية الفنان التشكيلي جواد سليم، وما زال بعضهم ينبش بيمينه قبور الجواهري الكبير وغائب طعمة فرمان والبياتي وبلند الحيدري ويشير بسبابة يده الأخرى إلى فؤاد التكرلي وعبد الرزاق عبد الواحد وسعدي يوسف وغيرهم ممن ضج بهم المنفى. فهل هي مصادفة أن يتوجع أحد quot;هؤلاءquot; لتضييعه ربع قرن في قراءة قصائد سعدي يوسف بعد أن تبين له أنه سنيّ؟، ولا أدري ماذا سنفعل بكل هذا الشعر لو عرف هذا quot;المتوجعquot; أن سعديا من أصول غير عراقية!!.


لن آتي بالجديد لو قلت أن من أكثر الأشياء قسوة وإساءة للثقافة الوطنية في العراق هو دخولها كمفردة في ميدان المحاصصة الطائفية، بل هي أكثر إساءة من تلك المرتبطة بالديكتاتورية السابقة، وهو ما أدى بالتالي إلى إلهاء المثقف بأسئلة الطائفة ومظلوميتها ودهاليزها. فالدولة العراقية الحديثة التي تأسست في الربع الأول من القرن الماضي لم تبن مؤسساتها أو تصدر قوانينها على أساس ذلك، وحتى الطوائف العراقية لم تتمتع تاريخيا بالاستقلال على الرغم من الصراعات التركية الفارسية التي حدثت في القرون الثلاث الماضية وما تركته من فراغات في نسيج المجتمع العراقي. وهذه البدايات تقول لنا أن الثقافة العراقية لم تكن على علاقة محددة وثابتة بالطائفة لا على مستوى النص ولا على مستوى النشاط العام لمنتجي الثقافة. ولم يصل إلى أسماعنا وعيوننا أن الثقافة العراقية كانت متعددة الطوائف أو أن المثقفين العراقيين، أفراد وجماعات، قد تم تصنيفهم في يوم ما طائفيا أو هم استجابوا عن وعي لمتطلبات الطائفة، وهذا على العموم يحسب لهم فيما لو جرى تأريخ العلاقة بين الثقافة المبدعة وبين الطائفية الجديدة. ثم أن الثقافة الوطنية ليست من مهامها المباشرة إبراز دور هذه الطائفة أو تلك ولا حتى التوفيق بين الطوائف وتوزيع الرضا على وجوه رجال الدين والابتسامات على وجنات القوميين ورؤساء الأحزاب والعشائر، بل هي ليست قادرة على ذلك بعد أن أمست quot;الثقافةquot; اليوم من آخر احتياجات الشارع الطائفي المشغول بمفردات المال والسلاح والسلطة، وأصبح الهم الأساسي للمثقف العراقي ليس الإبداع وحسب بل البقاء على قيد الحياة وبأي شكل، وهو ما دفعه إلى الخوف والانطواء والعزلة والهجرة والمداهنة أحيانا. من جهة أخرى لا يمكن التعويل على الفكر الطائفي في إنعاش الثقافة والديمقراطية والروح الوطنية، خصوصا وأن هذا الفكر أنتج صراعا مشوها تقف خلفه وتغذيه إرادات سياسية ومصالح اقتصادية لأفراد وعائلات وأمراء حروب في وضع جديد وهش للعراق ولم يعبر عن إرادات لمجموعات وكيانات مستقلة تاريخيا. حتى أن وضع الطائفية في جملة واحدة مع مفردات كالثقافة والديمقراطية والوطنية لا يتسق بسبب اختلاف الآليات التي تعتمدها الطائفية في الحياة عن تلك التي تعتمدها الثقافة والديمقراطية والوطنية، ناهيك عن أن هذه المفردات الأخيرة ليست لها دور أو قيمة في حضور الطائفية.


الطائفيون الجدد قادرون (أشهد لهم بذلك) على تعيين مجلسا للمدينة وهم يتسامرون في الجامع أو في الحسينية وكذلك قادرون على تشغيل مئات العاطلين عن العمل في سلك الشرطة وهم يشربون الشاي في محل لبيع الساعات وليست في وزارة الداخلية وقادرون على إقامة ندوة أسبوعية في مبنى اتحاد الأدباء عن معركة quot;الطفquot; واستشهاد الحسين بن علي وجعل ذلك تقليدا أسبوعيا، ولكنهم غير قادرين على تحويل مبنى الاتحاد الذي ضم الجواهري والبياتي والحيدري وغيرهم، إلى حسينية وغير قادرين على تضييع واستغفال ثقافة وطنية مبدعة ومستمرة ومرتبطة بحضارة وتاريخ معروفين لبسطاء العراقيين وتتجلى في كلامهم وملابسهم وأحزانهم وأفراحهم.


الثقافة العراقية كعادتها لم تواجه بشكل مباشر لا الديكتاتورية القومية البائدة ولا الطائفية الجديدة، ولكنها واجهت النتائج التي أفرزتها سياستهما التخريبية وأفكارهما الإقصائية والساكنة التي تغذي دوام السلطة والطائفة والتخلف. ولكي لا نكذب على التاريخ القريب فإن الطائفية الجديدة في العراق ليست صناعة الاحتلال الأمريكي، بل أنها خيارات ومواقف سياسية اتخذتها مجموعات من المعارضة العراقية قبل الاحتلال، ووثائق مؤتمرات المعارضة في لندن وبيروت وكردستان تشهد على ذلك. ثم حاولت بعض الأحزاب والعائلات الدينية المعروفة مأسسة الطائفة في أحزاب ومنظمات وميليشيات ووزارات ونقابات وفيدراليات على الرغم من وجود المرجعية الشيعية في النجف الأشرف واعتراضها على المبالغة في مأسسة الطائفة.
إن الطائفة التي ركبت الديني للوصول إلى السياسي جرجرت معها وخلفها قطعان من المثقفين والسياسيين الذين ضيعوا فرصا كانت بأيديهم أو سبق وأن تعرضوا لقمع مفرط في الوحشية أو داهنوا الديكتاتورية البائدة وطبلوا لصنمها. هؤلاء يقبلون بأي دور، صغير أم كبير، حتى لو لم يكن يمثلهم أو يستجيب لطموحاتهم الحقيقية. أفرز هذا الوضع الجديد أسراب من الكوادر والقيادات السياسية غير المتمرسة ومهرجانات لشعراء شعبيين لم نسمع بهم من قبل وأمراء حرب مدججين بخبرات من لبنان أو إيران ومقاولين صغار بخبرات أوربية مشبوهة وقرّاء حسينيين لطموا في قم ومشهد ولم يألف الشارع العراقي أساليبهم وإيقاعاتهم. وهذا يعني باختصار أن الطائفة الشيعية في العراق لم تدخل مجال الاستقلال الطائفي بعد ومرجعياتها متصارعة، وهي ما زالت خائفة،قلقة،غير متراصة،وغير متفقة على حصتها من السلطة والمال والنفوذ، وغير منسجمة في علاقاتها بمموليها عبر الحدود، ولا تملك أرثا مثل الذي تملكه الثقافة الوطنية العراقية، وهذا كله مبعث أمل للعراق والثقافة العراقية والوطنيين العراقيين.

نصيـر عـواد