فى عهد الحكم الملكي كنا (ننعم) بالحماية البريطانية، فلم تكن تركيا تجرأ على مهاجمة العراق من موقعها فى الشمال، ولم تكن ايران بقادرة على ذلك أيضا من موقعها فى الشرق، وكل من الدولتين أكبر بكثير من العراق مساحة وسكانا. وفى الغرب سوريا التى كانت أضعف من أن تهاجم العراق حتى ولو كان بدون حماية بريطانية. وفى الغرب أيضا مملكة (شرق الأردن) تحكمها نفس العائلة الهاشمية التى كانت تحكم العراق.

قامت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وقضت نهائيا على كل نفوذ استعماري فيه. ومع أنها كانت ثورة عسكرية ولكن الغالبية الساحقة من الشعب العراقي التى كانت تتوق اليها، أيدتها بكل حرارة وقوة. وبالرغم من بعض العنف الذى رافقها فى البداية، فسرعان ما عاد الأمن والاطمئنان يعودان الى البلد. ولكن العراق أصبح وحيدا بدون مدافع عنه من أعتداءات الجيران الأقوياء. فحاول شاه ايران التدخل فى شئون العراق، فوجه الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مدافعه نحو مصافى النفط فى عبدان، فكانت تلك الحركة اضافة الى تحذير الاتحاد السوفييتى عاملا قويا فى ايقاف الشاه عند حده. ولم ينعم العراق بالحكم الجديد طويلا، فان سوريا التى كانت قد انضمت الى مصر تحت حكم عبد الناصر الذى حاول أن يفرض الوحدة على العراق، اتفق مع بعض أنصار الوحدة فى العراق، وساعد العقيد الشواف فى محاولته الانقلابية التى فشلت وانتهت بفراره جريحا الى سوريا وموته هناك. ولكن ذلك لم يفت فى عضد ناصر ولم يتوقف يوما واحدا عن التآمر على اسقاط الزعيم عبد الكريم قاسم.

وقام الجهلاء من العراقيين الحالمين بوحدة عربية، يقودهم عبد السلام عارف الرجل الثانى فى ثورة تموز، بمحاولة انقلابية على صديقه وزعيمه، وفشلت تلك المحاولة، ولكنها مزقت الشعب العراقي شر ممزق، واستطاع البعثيون المدعومون من ناصر ومن أمريكا أن يقوموا بانقلابهم الأسود فى 8 شباط 1963 وقتلوا الزعيم، كما قتلوا الآلاف من العراقيين ممن حاولوا مقاومتهم واستولوا على الحكم. ولم تمض أشهر قلائل حتى انقلب عليهم عبد السلام عارف ndash;الذى عينوه رئيسا شكليا- وقضى عليهم. وهرب منهم من هرب وبينهم صدام حسين الذى احتضنه ناصرفى القاهرة. وبعد أن قتل عارف فى (حادث) طيارة، جاء أخوه عبد الرحمن الى الحكم، وكان ضعيفا مسالما، فأطاح به البعثيون فى تموز 1968، وأقاموا حكما دمويا لم يشهد له العراق مثيلا.

وكانت العلاقات فى مد وجزر بين بغداد ودمشق، وبصورة عامة كانت الكراهية مستفحلة بين الحكومتين البعثيتين. وفى عام 1979 قام صدام حسين نائب رئيس الجمهورية بتنحية رئيسه (صوريا على الأقل) أحمد حسن البكرواستولى على منصب الرئاسة. وكان أول عمل قام به هو تصفية زملائه من البعثيين الذين كان يشك فى انهم يتآمرون عليه بالاتفاق مع البعثيين الذين كانوا يحكمون سوريا، وتم تنفيذ حكم الاعدام فيهم دون محاكمة أصولية. فكانت تلك بداية النزاع بين صدام وحافظ الأسد حيث بدأ الاثنان فى تبادل المتفجرات التى راح فيها ضحايا أبرياء من البلدين. فقد قام السوريون بتفجيرات فى مطار بغداد وشارع الرشيد.
وفى هذه الأثناء قامت الثورة فى ايران بقيادة السيدالخميني الذى كان يحقد على صدام لطرده من العراق، وخيل لصدام أن باستطاعته اغتنام الفرصة لغزو ايران والاستيلاء على منابع النفط فيها. وبتشجيع من الأمريكيين، قام بشن حرب دامية حمقاء على ايران فقد فيها العراق مئات الألوف من خيرة شبابه، ودامت ثمانية أعوام ودمرت البنية التحتية للبلد.

وخلال حكم البعثيين كانت الخلافات تشتد مع سوريا التى هددت بايقاف تدفق البترول العراقي الى الموانىء السورية، كما هددت بقطع ماء الفرات عن العراق. وتوسطت السعودية بين الطرفين بعد ان حشد العراق قواته على الحدود السورية وهدد بقصف وتدمير سد طبقة السوري. واضطر العراق الى مد أنابيب البترول خلال تركيا بدلا من سورية.

وبعد سنتين من انتهاء الحرب مع ايران، قام صدام بغزو الكويت ودمرها وأباحها لأتباعه وأعوانه، وأخرجه منها الأمريكيون الذين اصطف الى جانبهم معظم العرب بما فيهم سوريا. وعادت قواته المهزومة لتضرب العراقيين شمالا وجنوبا.

وباءت بالفشل كل المحاولات التى قام بها العراقيون للتخلص من حزب البعث وقائده صدام حسين، حتى أسقطته قوات التحالف الدولي حين دخلت بغداد فى نيسان 2003 بعد ان انطلقت من قواعد فى بعض الدول العربية. وبطبيعة الحال فان لكل شيئ ثمنا، وثمن تخليصنا من حكم الطاغية الأحمق هو دخول قوات أجنبية الى بلادنا. ان تلك القوات لم تخلصنا من ذلك الحكم الدموي محبة بنا، وانما كان حماية لمصالحهم النفطية. ولكن الأمريكان لم ينهبوا النفط عند دخولهم كما يحلوا للبعض التشدق به كذبا، بل يشتروه بالسعر الذى تحدده السوق العالمية. كما انه ليس من مصلحتهم اطالة مدة وجودهم فى البلد لأن ذلك يكلفهم خسائرطائلة بالأرواح والأموال، ولكن الذى أطال بقاءهم الكريه فى بلدنا هو تشرذم الشعب العراقي ما بين متسنن ومتشيع وعربي وكردي ومسلم ومسيحي، واشتد بينهم الصراع الطائفي، وأخذوا يقتلون بعضهم البعض الآخر فأعطوا الحجة للأمريكيين بالبقاء.


واتيحت الفرصة للمعارضين العراقيين الهاربين من طغيان صدام للعودة، ومنهم من انضم الى أحزاب دينية وطائفية، ومنهم من تشبث ببقايا حزب البعث النافق. واستفادوا من الحرية والديموقراطية التى أطلت عليهم، فأسسوا عشرات الأحزاب وأصدروا مئات الصحف. كما وبرزمن بينهم نكرات ممن يدعون الدين والقومية والسياسة، وتدخل بعض الأغنياء من دول الخليج ومدوا السنة فى العراق بما يحتاجونه من أموال وسلاح عن طريق بعض العراقيين المقيمين فى الأردن وسوريا من أمثال حارث الضاري. وغضت سوريا الطرف عن آلاف الانتحاريين الذين وصلوها وعبروا من حدودها الى العراق. وفعل الأيرانيون الشيء نفسه بالنسبة الى شيعة العراق، بواسطة عملائهم من أمثال مقتدى الصدر الذى فتك بالسنة والشيعة على السواء.

وكما يحدث للضعيف الخائر القوى، فقد انقض الجميع على العراق من كل حدب وصوب بمختلف الحجج والأسباب، ومنها : الدينية والطائفية، وهي فى حقيقتها سياسية انتهازية محضة.

ايران لا تريد القوات الأمريكية فى العراق، لأن وجودها يسبب خطرا مباشرا عليها. وهناك آبار نفط غنية فى العراق بالقرب من حدودها، وقد تستطيع الاستيلاء عليها بعد (تعديل) الحدود مع العراق الضعيف.

تركيا تريد ايقاف تسلل أفراد حزب العمل الكردستانى اليها من العراق، وتريد عوائد أكبر من النفط العراقي الذى تمر أنابيه عبر أراضيها، وقد تستطيع ضم الموصل اليها بعد (تعديل) الحدود مع العراق الضعيف.

سورية البعثية تحتضن بعثيي صدام وتحلم باليوم الذى يعودون فيه الى حكم العراق وتوحيد الدولتين البعثيتين، وذلك لن يتاح لها الا أن يكون العراق ضعيفا وبدون حماية.

الأردن يحتضن عائلة صدام حسين وبعض البعثيين كورقة مساومة، لتحصل على النفط العراقي بأقل سعر ممكن، وتحتفظ بالأراضى العراقية التى منحها اياها صدام حسين. وقد يصبح العراق الضعيف مؤهلا للعودة تحت حكم العائلة الهاشمية.

السعودية لا تشعر بالاطمئنان بوجود حكومة عراقية شيعية قوية ممالئة لأيران، وكذلك الدول العربية الأخرى. والسبب الحقيقي ليس طائفيا دينيا مطلقا، فعندما كانت ايران ممالئة للغرب تحت حكم الشاه، كانت علاقاتها جيدة مع الجميع، ولم يكن هناك أحد يتحدث عن غزو شيعي، ولكن الأمر تغير بعد سقوط الشاه وباتت ايران تحت حكم رجال الدين.

الكويت ومنذ أن خطط البريطانيون حدودها مع العراق وهم فى خوف دائم من دولة قوية تهدد كيانها فى العراق. كما أن الأراضى العراقية الغنية بالنفط والتى ضمتها الكويت اليها بعد القضاء على حكم البعث، وادعت بعائديتها اليها، لا يمكنها ابقاء سيطرتها عليها بوجود دولة عراقية قوية.

أما العراقيون ndash; وهذا ديدنهم دائما وأبدا- لا يرضون عن أية حكومة تحكمهم، فقد ينتخبون اليوم وبحرية تامة حكومة ويعارضونها فى اليوم التالي. صفقوا لكل حكامهم وانقلبوا على كل حكامهم. وأتساءل دوما عما اذا كان هناك غريب ألحق الأذى بالعراقيين مثلما الحقوه هم بأنفسهم؟.

عاطف العزي