العروبة في نشأتها تنطلق من مفهوم الجامعة، وإزالة ما يُشرذم ويُقسّم دائرة العرب، كون ذلك فواصل طارئة وصناعة خارجية لتفتيت مكونٍ واحدٍ أحد، لا يأتيه التقسيم من بين يديه ولا من خلفه.
لكن وفي خلال تأريخ طويل، وحقبات متلاحقة ظلت العروبة ثاغرة الفاه، تفرّق أكثر ما تجمع، وتفتت إلى أصغر الوحدات، ما كانت منقسمة أساساً من أجسام عروبية، تناهشت في أجوافها من إنكسار، وتهاوت مظاهرها من بؤسٍ بلغ حد الإشمئزاز العام مبلغاً يناقض جوهرها ـ جوهر العروبة ـ، وينفي خصوصيتها في إنقلابٍ مُعاكس، وجد نفسه في غمار الجريان في خندق الخصومة!
والخصومة بدأت من جماعات عربية أولاً، بسم العروبة أحياناً!، ثم من قبل جماعات أخرى من الأعاجم (كناية عمن ليسوا بعرب) وفق تعريف أصولي إصطلاحي.
وللعروبة تعاريف مختلفة أساساً، تختلف وتتفق، على الكلَيات والتفاصيل في ما بينها.
ما يهمنا هنا في هذا التناول، هو العروبة السياسية ذات النزعة العرقية العنصرية المطعمة بأيديولوجيات متنوعة، وجدت العروبة منهن لباس المرحلة للإستحواذ، كلّ منها في زمان!
الإسلام كان ومازال، والشيوعية والإشتراكية في حقبة ما، والوطنية الإقليمية ماضياً وحاضراً، والديموقراطية أحياناً وحتى العولمة!، شكّلت مساحات عمل للجماعات العروبية، لبلوغ ضفاف حلمت بها، لكنها لم تترجم ذلك إلى واقعٍ قائم!
وهي بذلك، العروبة، كررت الطورانية التركية التي خرجت من أحشاء العثمانية من أصول شبه غامضة، والفارسية الآرية بقيادة الشاهنشاهية الإيرانية، وكذلك نماذج أخرى في العالم الغربي إتسمت بالكوارث والحروب والإنكسار، كالنازية والفاشية وشاكلاتها.
في هذا المسار خاضت العروبة مخاضاً صعباً، وخلّفت الكثير من الفشل والإحباط للأجيال، وهيّأت لحالٍ أصبحت تمُدنا على الدوام بالإنكسارات على أعتاب أي مرحلة جديدة من مراحل التأريخ، وحركة المجتمعات العالمية.
الجماعات العروبية ظلت مشدودة العصب نحو العظمة والإنتفاخ، فنسيت طرائق البلوغ إلى الأسس/ المرامي كالوحدة والإنماء، فكانت العاطفة والمشاعر المجبولة بالأحلام، الأرضية الوحيدة التي تروي فيها زرعها القومي الذي لم يأت بثمر.
والمفارقة العجيبة في شد العصب العروبي إزاء ما ترسم هي الآخرين على شكل عناصر مختلفة، خارج المركز العروبي، أن العرب ليسوا أمة ذات تجانس عرقي ونقاء قومي. فضلاً أن العربية الثقافية في جلّها تراكمت صناعةً وبناءاً على يد العجم كالكُرد، والفرس، والترك، والأمازيغ والأقوام الأخرى الأبعد!
وفي ظل إندماج حضاري هائل إختلطت أعراق كثيرة في هذه المنطقة، حتى صار أمر الحديث عن القوم النقي كالحديث عن طائر العنقاء.
لكن العروبة فطنت لذلك، فادّعت أن دعواها هي الجامعة الثقافية العربية للعناصر المختلفة. لكن في الواقع كانت العروبة ولم تزل بعيدة عن هذا المسار، ولم تتخذ من طرائق الجامعة المذكورة أدوات عملٍ لبناء صرح حضاري منشود!
فالعروبة منذ تشكيل الكيانات الإقليمية/ القومية في أعقاب إنهيار الجامعة العثمانية، ومنذ تململ تيارات سياسية كالناصرية والبعثية والقومية السورية وغيرها، كانت ولم تزل واجهة عدوانية غليظة أمام مكونات المنطقة المختلفة.
وفي هذا المخاض أمسى الضيق بدل الإتساع، والتشرذم بدل الإجتماع، والخسارة مكان الفوز وإخراج الناس من الألفة أفواجاً عكس إدخالهم في المشترك التأريخي طواعية.
فما يرويه quot;سيباستيان سميثquot; في quot;جبال اللهquot; أن الشيشانيين الذين واجهوا الإبادة والموت على يد روسيا القيصرية، والنظام الشيوعي الروسي لأماد طويلة، لم يتترسوا، وظلوا محافظين على هويتهم. لذلك فبعد عقود من فرض الثقافة الروسية، كانت الكلمات العربية وحدها التي سمعناها من مئذنة الجامع في الجبال النائية في الشيشان!
الثقافة العربية امتدت من دون فرض من الهند إلى الأندلس. لكن اليوم تكاد محصورةً في نطاق دول إقليمية منهكة ضعيفة، وبكثير من الإختناق والخجل في ظل هيمنة ثقافات أخرى أكثر قوة وإتساعا كالإنكليزية والفرنسية.
وما قضى على هذا الرحب والإتساع في الجامعة العربية الثقافية سوى عوامل نكدة، كانت العروبة والعصبية القبلية جزءا من ذلك منذ الأمويين الذين أقصوا أهل بيت رسول الإسلام من الملك بعنف دموي، ومن ثم النزاع بين القبائل العربية من جانب والعرب والأمازيغ من جانب آخر فضلاً عن المولّدين في الأندلس، ومن ثم حركة الشعوبية المضادة للعروبة في السلطة العباسية، وظهور عثمانية شعوبية غير قرشية، وصفوية مزدوجة مذهبية وعرقية، كلّ ذلك وكثير غيره، دفع بكرة مجتمعاتنا نحو أسفل الهاوية.
والعروبة في الوقت الذي فشلت في توحيد كيانين مثل سوريا ومصر، أو العراق وسوريا، أو لبنان وسوريا، أو العراق والكويت وأمثلة أخرى كثيرة أمست محاصرة ومحاطة بقوى إقليمية ترد العروبة على أعقابها، إلى حيث تعتقد أنها خرجت من رمال الصحراء وخيم البداوة!
إسبانيا في شمال مغرب العرب، وأثيوبيا وأريتريا في الجنوب فضلاً عن جماعات إثنية جنوب السودان، وإيران وكُردستان من جهة الشرق، والأمازيغ في دول المغرب العربي، وتركيا في الشمال الشرقي للجغرافية الثقافية العربية، وإسرائيل أيضاً، فضلاً عن أساطيل وقواعد عسكرية خارجية غربية في مياه ويابسة العرب، تحيط بالعروبة إحاطة السوار بالمعصم!
ولكن أي إحاطة مأساوية هذه التي تنزفنا جميعاً؟!
لنضرب الأمثلة القريبة. أثيوبيا التي خاضت حروباً كثيرة مع الشماليين العرب، إجتاحت الصومال قبل شهور بدعم أميركي وإسرائيلي مباشر، تاركة الصومال في فوضى مازالت مستمرة.
ليس من مقارنة بين وضع إسرائيل والفلسطينيين، والأمر واضحٌ للعيان. وإسرائيل تفرض قوة قاهرة على الدول العروبية التي تستكين إلى ذلٍ مُخجل دوماً!
معادات تركيا ضد جيرانها العرب، وإحتلالها للواء إسكندرونة، وتحالفها مع إسرائيل وأميركا، ليس بخاف على أحد، حتى لو إستثنينا الهجمات العسكرية التركية على شمال العراق، لأن ذلك يُعد في نظر العروبيين هجوماً على جيب كُردي إنفصالي!
إيران وهيمنتها على العراق بالتمام، وسيطرتها على الخليج وجزرٍ متنازعٍ عليها، بينها وبين الإمارات، لم تعد فقط أقلاقاً تقض مضجع العرب، وإنما إختراقٌ أمنيٌ وعسكري في الصميم في دولٍ عربية كثيرة بالإزدواج نفسه الذي كان قائماً في العهد الصفوي وأشرنا إليه قبل برهة.
رسوخ الجماعات الإثنية في جنوب السودان، وتقوية مركزها بدعم إقليمي ودولي، جعلت الحكومة السودانية ترضخ لشروط مذلة كثيرة.
إسبانيا لا تملك سياسة ودية تجاه جيرانها العرب في الجنوب، وقضايا الحدود المائية والنزاع على سبتة ومليلة ومضيق جبل طارق، وإستغلال قضايا داخلية كقضية الأمازيغ والصحراء الغربية بالإشتراك مع فرنسا، يسير في سكك الإستنزاف العربي!
نزوح الأمازيغ نحو الخارج ثقافياً وسياسياً، وتكوين ذهنية معادية للعرب في أوساطهم كردة فعل قاسية تجاه العروبة، يُعد هزيمة تأريخية وأمنية ذات أبعاد وخيمة على التأريخ المشترك بينهم وبين العرب، في ظل ماضٍ مشرق!
الكُرد خاضوا صراعاً مريراً على الهوية والوجود مع النظام العروبي في العراق وسوريا، في معادلاتٍ معقدة ومتشابكة تتخللها سياسات دولية وإقليمية، عجزت العروبة عن إحتوائها، بل ودفعت بالقومية الكُردية إلى جبهة معادية ترى في القوى الخارجية صمام الأمان قبالة العدوان العروبي الإلغائي القديم، الذي يسبق ظهور الفيدرالية، وقضية كركوك بزمن طويل!
وفوق هذا كله، ومن سوء الحظ وجلل الكارثة، مازالت العروبة ماضية في نفقها المظلم، في طرح أهوائها وأحلامها المدمرة للتأريخ المشترك بين مكونات المنطقة.
لذلك ليس غريباً أن تعيش الشعوب العربية أفقر حالٍ وأحلك ظرف، فيما بنوكها الطبيعية تحت الأرض تموّج المليارات من الدولارات إلى تخوم أعدائها، وأعينها آبقة تستجدي الحياة!!
عروبة تدور خارج فلك التأريخ، لم تلحق بركب القافلة المعاصرة، فبقيت مكمناً للأحقاد والضغينة والشعارات الجوفاء، تدفع بجماعات مسلحة فتح شرارة إنتحارها وهزيمتها على داخلٍ ضعيف، للمزيد من إذلاله، لتبقى الأشواط بين مكوناتنا والعالم الغربي المتقدم أكثر تباعداً في إنفصال مسارين: عالمنا المنحدر نحو الأسفل بإستمرار، وعالمٍ آخر نعاديه دون جدوى، يبحث لنفسه عن إستراتيجيات مستقبلية للحفاظ على الصدارة!
علي سيريني
التعليقات