لماذا يتمادى الحنين، يحاصرنا، أبن الحيوان، يرغمنا على العودة إلى ما هو قديم ؟ العمر يعدو لكن السنوات ثابتة مثل الأعمدة، والمدينة التي تنعس معي، منذ عرفتها، باقية على حالها. حتى السماء مصلوبة في مكانها... قبل أسابيع أبكاني ما سمعته عن نهايتك، وعن الرسالة التي رموها فوق جثتك ومطروك بالرمال، لا لم يكن ثمة وجود لملاك بأجنحة عربية إسلامية، فالسلام العربي يجهل الملائكة، كما لا يبال بمقتل الأطفال.. فقط تنادوا فيما بينهم من بين القبور المتراصة : لقد انقضى كل شيء!
بلا أثر تفضي الأشياء على اللاشيء، بينما كنا وحدنا، أنا والشجرة والكرسي مجتمعين في لوحة زيتية. كنت ألمح اللوحة في عينيك، تتماوج في هذيان سراب منعكس هو الأخر في المرآة، وبمحاذاة السراب صليبا من القش علق على جدار مغطى بأوراق عنب يخرسها جفاف الهواء.
لا أملك أخبارا لإسعادك. لا أعتقد.
غرفتي مبتسمة هذا الصباح، ولجتها الشمس مبكرا. لم أتوقع ذلك حينما أغلقت ستائرها، بينما كان المطر هائلا بجلبته ليلة الأمس. التفكير أحيانا بالطبيعة يجعلني أسعد حالا من انشغالي بالبشر، لاسيما الأوغاد منهم. ألم تسمع بالأهازيج، في لبنان ثمة quot;عرس وطنيquot; يزفون فيه ثلة من القتلة أسموهم quot;الأبطالquot;، مع صناديق لمجموعة من الأموات، يدورون راقصين حولها منتشين في فرحة، يهزجون بأن الأموات هم quot;مفخرة الوطن!quot;.
بينما أشعر بالخزي أمام موت الطفلة اليهودية التي حطمت جمجمتها ذات الأربع أعوام بعقب بندقية المجرم quot;قنطارquot;، الذي لم يعبر عن أسفه حيال قتله عمدا طفلة بعمر الورد! بل صرح أنه لا يشعر بأي ندم حيال ذلك!؟
نعم، لقد قتل الطفلة وأبيها باسم الأمة العربية، يا للخزي على روحي، يراودني ذالك الشعور نفسه، العصيب الذي يوم شاهدت مقتل الصبي الفلسطيني وهو في أحضان أبيه المفزوع. أنا في هزيمة آدمية عربية مستفحلة ودائمة! من سيأخذ بيدي ليخلصني من هذا الكابوس.
قضيت ساعات لترتيب وحفظ الظلمة ورتابتها في دفتر صغير للمسودات، غلافه بني اللون، من الخارج يبدو أنه قديم العمر. من أسرار الظلمة أنها مشتعلة، ويزدحم فيها السواد! أمي أيضا، المسكينة، لبسها الحداد طوال العمر، بسبب المستهترين بأرواح البشر. وكان أسود قانيا يضاهي الزفت.
في الخارج، يأتي صدى نزول السماء وهي تدنو من الرصيف، تلامس رؤوس المارة، صياحهم يختفي مع عدوهم نحو أللااتجاه.
لم تفزعني يوما رؤية الغيوم وهي تتناثر فوق الأمكنة كالقطن. في حلمي المتكرر، أختي الصبية، كانت تبتسم لوجهي الميت، وهي ترش فوق كفني المفتوح رذاذا يتوارى قبل أن يلامسني.
نسيت أن أوضح، في صباي، ومن دون أخوتي وأخواتي، كانت أمي تعتمد عليّ بقضاء بعض انشغالاتها المنزلية، ومرات ترسلني إلى سطح الدار: quot;روح يمه نزلي الطشت!quot;، وتطلب مني مرات أن أجلب لها ما تبقى من رقية، متروكة، أو القارورة التي برد فيها الماء طوال الليل.. في بداية الصباح البغدادي، كم هي منعشة الشهادة على موت الليل العسير في ابتسامة الأم الطيبة.
من أجل حضور لحظة دافئة وذكية، تعيد لكَ وجه الأم الجنوبية، لا مأخذ عليك يا صلاح من التشبث بأجنحة الشيطان، واترك إلى الأبد انتصارات القتلة.
مد النور قدر المستطاع، أهمل من يرث المآسي والمأتم، وأصنع من وهم الحضور بديلا لهذا الضياع العربي، لهذا العار، لهذا الغثاء.
صلاح الحمداني
التعليقات