لغط كبير متوقع وخصومات حادة منتظرة عقب طلب المدعي العام من المحكمة الجنائية الدولية توقيف رئيس جمهورية السودان عمر البشير لاتهامه بالتورط بارتكاب quot;أعمال إبادة جماعيةquot;.
جزء كبير من الخلاف سيكون ناتجا عن الخلط المتعمد أو غير الواعي بين مستويات ثلاثة يجب التفريق بينها، حتى يكون للخصومات على الأقل فائدة في تعميق حوار سيكون جد ساخن وقد تداخلت فيه كل الملفات الانفجارية لهذا العصر.


المستوى الأول للقضية هو المبدئي.
لو تمعنّا في كل الرسائل المضمنة داخل مذكرة التوقيف في حقّ عمر البشير لاتضح لنا، انتصابها دفاعا عن جملة من القيم الأساسية منها أن كل البشر سواسية أمام القانون، أن لهم جملة من الحقوق المضمونة لا يمكن لأحد أن يتجاوزها، أن للضحايا كرامة ولو كانوا من أفقر الناس وأكثرهم عزلة، أن العدل مفهوم ومطلب عالمي، أن ما يسمى جرائم الدولة ليست إلا...جرائم وستعامل على هذا الأساس.هذه المرة لسان الحال يقول: لست فوق القانون ولو كنت في السلطة، لأنها لا تعطيك الحق في ارتكاب ما تشاء من الأفعال،ومن ثمة أنت مطالب اليوم بالوقوف أمام عدالة الإنسان قبل أن تقف يوما أمام عدالة الخالق حتى تبرّر ما تتهم به من جرائم.
ثمة أيضا طعن ضمني في إحدى الحيل التي يعهد لها الطغاة أي تضمين الدستور المحلي بندا يقضي بعدم محاسبة الرئيس عن أفعاله طيلة حكمه كما فعل بن علي في quot;التنقيح quot;الدستوري لسنة 2004 الذي ضمن به لنفسه أيضا الرئاسة المؤبدة.
مما يعني أنه يمكن للدكتاتور أن يطمئن نفسه كما يريد، لكن هناك مستوى أعلى للقضاء يراقب ويمكن أن يتهم ويدين.
لنلاحظ هنا أن الوثيقة المثيرة للجدل ليست إدانة وإنما لائحة اتهام وأن عمر البشير مثل كل متهم،برئ إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة.
بطبيعة الحال كل المبادئ بما هي مبادئ، تنتصب كخيارات مطلقة لا تخضع لتقلبات الطقس.لكنها شاءت أم أبت تتحرك وسط عالم،المثالية فيه أندر من الثلج في الصحراء، ومن ثم هي مطالبة حتى تفرض نفسها بالتفاعل مع واقع له اسم:السياسة.


المستوى السياسي
تفاعل السياسي مع المبدئي محكوم دوما بثلاث ستراتجيات : التعرّض والتفويض والانتقاء.
سيكون التعرّض السياسي في قضية البشير بربط قضيته بسيادة السودان وكرامة الشعب السوداني، وهذا ما سيؤدي بالكثير من المثقفين العرب،حتى الديمقراطيين والحقوقيين، للوقوف بجانب الدكتاتور، والحال أنه لا علاقة مطلقا بين كرامة الشعب السوداني وسيادة دولته ورجل جاء للحكم بالقوة ويتواصل فيه بالقوة ونظام ساهم كثيرا في خراب السودان وليس فقط دارفور.
كذلك ستستنفر كل الدكتاتوريات الصديقة والشقيقة للدعم، والكل مهدد بنفس الخطر الماحق، إذ ماذا سيبقى من لذة الحكم المطلق والواحد مهدّد بهذه اللعنة الجديدة المسماة المحكمة الجنائية الدولية تضاف لبقية المصائب الأخرى من منظمات حقوق إنسان وهوائيات وانترنت.
يبقى أن أهمّ تعرّض سياسي لإعمال المبادئ جاء من أكبر الدول الديمقراطية التي رفضت المصادقة على معاهدة روما، والتي لا تستحي مع هذا من تفويض هذه المحكمة في أغراض سياستها الخاصة.
أخيرا ثمة الانتقائية وهي واضحة في قرار المدعي العام. لماذا التركيز دوما على الحيتان الصغار؟ إن ما يحدث في دارفور شيء مروع بالتأكيد لكن ما يحدث في فلسطين والعراق لا يقل فظاعة. لماذا لا تصدر المحكمة الدولية لوائح اتهام بجرائم دولة في حق بوش ورامسفيلد وتشيني ورايس وأولمرت وجنرالات بورما وبعض المسئولين الصينيين. هنا سيفتح باب النقاش والإدانة واسعا أمام الدول التي لم تصادق على معاهدة روما وبالتالي ليست ملزمة بقرارات المحكمة وعلى رأسها بالطبع الولايات المتحدة.، الشيء الذي يؤدي بنا للحديث عن المستوى الثالث للإشكالية.


المستوى القانوني
ستفتعل بعض الأطراف التوقف عند الصبغة القانونية للملف وكأنه بمعزل عن المبدئي والسياسي.من جملة اللغط الذي سنسمع كل ما يتعلق بتعلق القانون بصنف دون آخر من السلطات ناهيك عن بالاخلالات القانونية الفعلية أو الوهمية التي تطعن شكليا وإجرائيا في قرار الحال.
ما يجب أن يكون حاضرا للأذهان أن مثل هذا النقاش سحابة دخان أو طريقة لتعويم السمكة ودفع الصراع الفكري في الاتجاه الخاطئ.
الموضوع في هذه القضية الإشكالية الأزلية للقانون ولمحاولة إعماله : هل هو أداة لإيصال الحق لأصحابه ( في قضية الحال الضحايا وشعب دارفور عموما)، أم هل هو تشريع للظلم.؟


إذا كان الردّ نحن أمام مبادرة قانونية هدفها تعويض الضحايا،على الأقل معنويا،وكفّ الضرر، فيجب دعمها حتى ولو كانت محدودة ومعزولة وعدم الغرق في تفاصيل إجرائية ستستعمل فقط كشكل من أشكال التعرّض السياسي الأهداف.
لكن هذا لا يلغي نقطة الضعف الأساسية في المبادرة وهي الانتقائية. حتى قانون في خدمة الحقوق مطعون فيه، إذا لم يكن في خدمة كل البشر دون تمييز سلبي أو حتى إيجابي. هل يعني هذا أن نرفض قرار إحالة البشير على المحاكمة. نتيجة الانتقائية وإفلات الحيتان الكبار؟.طبعا لا.


لا يمكن لأي عربي يعاني ما نعاني من الاستبداد ومؤمن بحقوق الإنسان وبالسلم وبحق الشعوب في تقرير المصير ومواطني ( لا أقول وطني لتقادم هذا المصطلح وتفويضه البغيض)...إلا أن يثمّن قرار المدعي العام وأن يقف معه بكل وضوح وأن يشجع المضي في هذا الطريق إلى الآخر لعلّ هؤلاء الطغاة الذين ابتلينا بهم والذين يخافون ولا يستحون،يفهمون أخيرا أن للتعذيب والتقتيل الجماعي عيون وقضاة.


إن مطالبة المدعي العام بتوقيف رئيس دولة في الحكم ثورة بأتمّ معنى الكلمة. فلأول مرة في تاريخ البشرية تطالب هيئة قضائية دولية بمحاكمة حاكم والقاعدة كانت لحدّ الآن انتظار سقوطه من ظهر الأسد للمطالبة بالحسابات.أمر كهذا سيكون له مفعول ردعي هائل، وإن لم يحصل وكنا مبالغين في تفاؤلنا فعلى الأقلّ سيساهم تسميم حياة من سمموا حياة الملايين،هذا عندما لم يمنعوا تواصلها.
بجانب هذا الدعم الواضح والرافض للانخراط في أي عصبية قومية أو دينية، يحب أن نرفض بنفس الوضوح التفويض السياسي والانتقائية، وأن نواصل النضال من أجل محكمة جنايات دولية لها كامل الصلاحيات في متابعة كبار الحيتان وصغارهم.
ما يجب أن نعي به جميعا أننا بهذه القضية أمام منعطف هام في تاريخ الأنظمة السياسية.فهذه الأنظمة منخرطة دون وعي منها في تجربة تاريخية جبارة هي بحث البشرية عن أنجع الطرق واقلها تكلفة من الدم والدموع لإدارة المجتمعات.
ما تعلمته لحد الآن أن الدكتاتورية المحلية و التسلط العالمي أنظمة بدائية وخطيرة على الإنسان... ويجب تصفيتها ولو في إطار زمن الشعوب، أي للأسف بالنسبة للمناضلين طوال عقود وقرون قد تؤتي أكلها وهم عظام رميم،وهم أيضا.بذور الحصاد الذي قد تعيش عليه أجيال تحررت من الحكم بالخوف.


هذه الخطوة الناقصة المرتبكة المطعون فيها للمدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية هي تواصل مسيرة آتية من أعماق التاريخ ولن يوقفها أحد لأن الرهان فيها بقاء الإنسان وتحرره وكرامته.

د. منصف المرزوقي