الفوقية الحزبية و تقييم الآخرين
كنت منصرفا عن الكتابة عن ذكرى الرابع عشر من تموز، و لكنني كتبت عشية ذلك موضوعا ـ لم يكن توقيته يتعلق بشخصي ـ عن المجتمع المدني أشرت فيه الى أن اللبنات التشريعية الأولى للمجتمع المدني في العراق :
quot; وُضعت..... لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى و سقوط الدولة العثمانية و تأسيس الدولة العراقية من خلال دستور و قوانين اُقتبست جوهريا ـ مع بعض التعديلات ـ من الدساتير و القوانين الغربية، الإنكليزية و الفرنسية منها على وجه الخصوص دون أن تكون هناك قاعدة اجتماعية و اقتصادية لها quot;.
لم يكن يروادني شك في وضوح ما كتبت، فقد أشرت بدون لبس أو ابهام إلى أن اللبنات الأولى التي وُضعت للمجتمع المدني في ذلك الزمان كانت تشريعيةً أي ليست تطبيقية، بمعنى انها تطبيقيا لم تُحترم دائما.
ثم زدت على ذلك ما اعتبرته وضوحا أكثر بأن قلت في نهاية الفقرة :
quot; دون أن تكون هناك قاعدة اجتماعية و اقتصادية لها quot; ( أي للحقوق المدنية ) و هذا يعني لأي قارئ يتوخى الدقة : أن البنية الإقطاعية ـ القبلية لم تكن تتلائم مع حقوق مدنية راسخة و لا تساعد على تطبيقها.
و في سياق المقال أشرت إلى أن هذه العملية ـ أي عملية ترسيخ المجتمع المدني ـ قد توقفت بقيام ثورة 14 تموز من حيث لم يقصد قادتها لأنهم شرعوا العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة فتعرضوا للعنف المقابل كما هو متوقع مما جعل دورة العنف التي ابتدأت في الرابع عشر من تموز تدور بكل قوتها و تصاعديا حتى يومنا هذا.
و على الرغم مما أزعمه من وضوح في الطرح فقد تلقيت من معلق اعرفه سيلا غاضبا و قصيرا من النقد العنيف يقول : كيف انني اقول ان هناك حقوقا مدنية في زمن الملكية ـ رغم انني لم أقل ذلك ـ و أعطاني سيلا من أمثلة أعرفها و حفظتها عن ظهر قلب على انتهاك الحقوق المدنية في زمن الملكية و أشاد بثورة تموز، ثم نعتني باليساري السابق، كثالثةٍ للأثافي.
فوجدت أن الامر، اعتمادا على الخلفية التي اعرفها جيدا، لا يتعلق بتعليق عابر أو فردي. بل هناك سلسلة من الكتابات و الآراء ذات الاتساق تسعى الى كتم أي نقد لثورة تموز أو تسعى إلى جعل النقد متعلقا بالتفاصيل و ليس بالجوهر مما رسخ لدي انطباعين :
الأول و هو جوهري : أن الإفلاس المستقبلي و الفراغ الفكري و فقدان البوصلة يدفع بعضا من كتابنا و معلقينا الى البحث في الماضي عن مجد لا تشوبه شائبة و ذلك بسب التخبط الفكري و عدم القدرة على الاجابة عن أسئلة الحاضر و الأسئلة المستقبلية و طرق الدخول إلى الحداثة و العصرنة تسعى الى التمترس خلف ما هو فكرٌ ماضوي بدون نقد.
ثانيا و هو عرضي : أن العقلية الحزبية تسمح لنفسها أن تقوم بتقييم الآخرين رغم سجلها الرديء الذي لا يؤهلها فتطرد من تشاء من خانة اليسار أو من اية خانة أخرى و تطلق نعت quot; مرتد quot; أو quot; تحريفي quot;.. الخ على من تشاء و هذا شكل من اشكال الفوقية الراسخة و الغاء الآخر و اللجوء إلى النعوت المقيتة التي ظننا أن الزمن قد عفا عليها و التي يقع فيها حتى بعضٌ من أولئك الذين يتجلببون بجلباب الليبرالية شائع الإستعمال في يومنا.

الثورة و العنف، مقارنات غير منطقية
الشيء المثير الآخر أن البعض ممن كتب و بعضا ممن علق قد رفض في نقاش لاحق، كما هم المؤرخون الرسميون لأحزاب سياسية معينة، ادانة العنف الذي قام به بعض من الأفراد أو المجاميع في الساعات الأولى لثورة تموز و العمل الدموي الذي استهدف العائلة المالكة بما فيهم النساء و أفراد ابرياء.
يقوم بعضهم بتبرير العنف عن طريق المقارنة التاريخية التي تحاول أن تعطينا الانطباع بأن العنف و القتل امران لا يمكن تجنبهما مثلا :
1ـ المقارنة بثورات عنيفة مثل الثورة الفرنسية في العام 1789 و قتل افراد العائلة المالكة و الإستنتاج بأن العنف لازمة لا فكاك منها للثورات.
على أن ما لا يرغب هؤلاء تأمله هو أن الفرق بين الثورة الفرنسية و الثورة العراقية هو 169 سنة، خلالها رسخ عالمنا وسائل أخرى غير العنف من اجل التغيير بل و أعطانا الأمثلة الحسية على هذه الإمكانية : غاندي الذي قاد امة كبيرة الى التحرر من الكولونيالية و التي اصر خلالها على أن تكون حركة سلمية و ابتكر اشكالا من النضال غير مسبوقة و رسخ مع ذلك و بدون عُقدٍ أو مزايدة هتافة ما رآه ايجابيا لدى المستعمر : ديمقراطية راسخة و مجتمع مدني أقامها في بلد تتوفر فيه نظريا كل عوامل الفرقة يتكون من المئات من الديانات و القوميات و الاعراق. نتائج هذا الاسلوب السلمي هي ترسيخ النظام السياسي في الهند و قطع الطريق على المغامرين و لا احد يستطيع ان يتصور أن الهند ستشهد انقلابا عسكريا.
المثال الثاني مثال لاحق : مثال قدمه لنا نيلسون مانديلا الذي قاد النضال السلمي ضد اعتى نظام فصل عنصري و اقنع بصلابته الدول المساندة لنظام الفصل العنصري باستحالة الاستمرار على الطريقة القديمة ثم انتصر و أقام نظاما تداوليا فورا و لم يتحجج بالتحديات الامبريالية من اجل البقاء في السلطة و تخلى وعنها بعد تولى المسئولية لفترة قصيرة رغم ان الفترة التي قضاها في السجن كانت أضعاف الفترة التي تولى فيها الحكم و لم يبال بالتصفيق و الاطراء و لم يتحول إلى زعيم اوحد.
أليس الاعتمادُ على مثال يبعد عن 14 تموز قرنا و نصف و نيف، مكلفٍ و دمويٍ مثل الثورة الفرنسية و ترك مثال قريب هادئ و سلس مثال صارخ للانتقائية التاريخية المزاجية؟
و مع ذلك دعونا نحلل نتائج الثورة الفرنسية التي اعتمدها بعض من الكتاب و اعتبرها مثالا يقتدى :
في أعقاب الثورة و بعد شيوع القتل و النهب و السلب و سيطرة اليعاقبة على السلطة بقيادة روبسبير سيق الى المقصلة سيئة السمعة الملك و الملكة و العديد من اتباعهم ثم سيق اليها في فترة الارهاب ستة آلاف فرنسي في 6 اسابيع و تم قطع رؤوسهم و كان من بينهم العديد من رجالات الثورة زملاء روبسبير إلى أن وقع هو نفسه ضحية العنف الذي مارسه حيث سيق الى المقصلة و قطع رأسه مع مائة من اتباعه. و لم تنته الفوضى الا بسيطرة العسكر على السلطة بقيادة نابليون الذي قرر اتباع اسلوب الهروب نحو الخارج و شن الحروب على الجيران للتغلب على الهشاشة الإجتماعية التي ولدتها الثورة فشن الحروب على جيرانه الاقربين ثم تمادى الى ما هو ابعد و حول اوربا الى ساحة صراعات دموية اوصلته الى مصر وحاول خلالها احتلال روسيا الشاسعة التي تحولت الى مقبرة لحوالي 500 الف جندي فرنسي قتلهم البرد و الجوع و المقاومة و تحول نابليون الى طاغية يعتدي على جيرانه حتى ان شعوب اوربا كفرت بشعارات الثورة البراقة quot; الحرية و الاخاء و المساواة quot; التي اعجبت بها ما دفع الموسيقار العظيم بتهوفن الذي كان معجبا بالثورة و شعاراتها الى تغيير اسم الكونشيرتو الخامس للبيانو الذي كان مكرسا لشخصية نابليون بعد ما رأى انه تحول الى طاغية.
لم تستقر فرنسا و أوربا بعد هذه الاحداث الا بحلول عام 1815 بعد هزيمة نابليون في واترلو أي 26 سنة من الدماء و القتل و الحروب و الغزوات.
هذا التشابه الكارثي مع اوضاعنا الكارثية يتم أقصاؤه من اذهان بعض من كتابنا ليُحَلّ محله انتقاء تعسفي تبريري لتاريخ دموي.
2 ـ يقول بعض المحاججين إن الحكم الملكي نفذ حكم الاعدام بفهد ورفاقه و بالعشرات أو المئات من المعارضين فلماذا نتأسف على مقتل العائلة المالكة؟ إنهم يستحقون ما جرى لهم.
هذه هي الحجة الثانية.
إن جميع الذين ادانوا او انتقدوا مقتل العائلة المالكة من الكتاب quot; المطرودين من خانة اليسار quot; قد أدان أي عملية اعدام او قتل قامت بها السلطات في العهد الملكي أو في أي عهد آخر بل و أدان كل عمليات قمع و قتل بسبب الفكر و المعتقد و بذلك كان منسجما مع نفسه.
و لم يقم الكثير منهم بإدانة عملية إعدام فهد ورفاقه فحسب بل و ساروا في طريقهم و ناضلوا لحقبة من الزمن من اجل تحقيق الأهداف التي ناضلوا في سبيلها، و لكنهم في الوقت نفسه كانوا مخلصين للحقيقة و الحق و رفضوا المعايير المزدوجة و بعد مراجعة المعايير الإنسانية وجدوا أن قتل العائلة المالكة في صبيحة الرابع عشر من تموز لا يقل جرما عن قيام السلطات الملكية بإعدام هؤلاء المناضلين.
بل إن جريمة قتل العائلة المالكة بدون محاكمة شمل نساء و اناسا ابرياء آخرين لا علاقة لهم بالشأن السياسي و لم يعملوا ابدا في السياسية.
3 ـ الحجة الثالثة : إن قتل العائلة المالكة لم يكن ضمن مخطط الزعيم عبد الكريم قاسم و لم يقم به الحزب الذي ساند الثورة و انما قامت مجموعة من العسكر أو من قبل الجماهير الغاضبة كما حصل لجثة عبد الإله التي سحبت من سيارة الاسعاف وعلقت و تم التمثيل بها و قطع اعضاءها.
و اذا هذا هو الجواب فإنه سيكون متبوعا بسؤال منطقي : لماذا اذن لم تتم ادانة العمل من قبل سلطة عبد الكريم قاسم في حينها او من قبل الاحزاب التي كانت تؤثر على الشارع اسوة بادانه اعمال القتل الاخرى التي طالت ضحايا العهد الملكي خصوصا و إن الضحايا لم تتوفر لهم فرصة محاكمة عادلة؟
من الواضح بأنه لو كان عبد الكريم قاسم و حكومته و الأحزاب المؤثرة في الشارع العراقي قد قاما بإدانة أعمال القتل و التمثيل في حينها و الإشارة الى أن الطريقة السليمة للإقتصاص من المجرمين هو قاعة المحكمة و أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته و أن له الحق في الدفاع عن نفسه لكان لهذا الموقف دور في تربية الجماهير و تنويرها و لشكل صدعا في ثقافة العنف.
و لكن العكس هو الذي حصل وبدلا من ذلك تم التمادي في ثقافة العنف فقد تم تعميمها حتى على الاطفال في الأغاني المدرسية و لم يعترض حزب مؤثر أو قائد بارز أو مربٍ على بشاعة أغان تغنى بها الأطفال في المدارس مثل :
يا شعب العراقي عهدي بيك باقي
متجوز من مطلبك لو دمك سواقي
أو قصيدة الجواهري
وطن تشيده الجماجم و الدم تتهدم الدنيا و لا يتهدم
و وصفت و لا تزال المشنقة الرهيبة بأنها quot; ارجوحة الابطال quot; التي تم التغني بها بديلا عن اراجيح الاطفال!
و هل نسينا شعار : ما كو مؤامرة تصير و الحبال موجودة
اذن الحبال هي الموجودة و ليست المحاكم و سلطة الدولة و القانون.
هذه الثقافة لم تتم مراجعتها او نقدها حتى الآن من اجل اعادة تربية جيل جديد يؤمن بقيم التسامح و انما يصار إلى الادعاء بانها من صنع العامة و بالتالي هي ليس من شأننا و ليس من واجبنا نقدها!!

الشرعية الثورية بديلا عن الشرعية الدستورية
قامت العديد من الثورات الاخرى بالتحول من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية و اقامت منظماتها التمثيلية و شكلا من اشكال الانتخابات و التداولية، و حتى الثورة الفرنسية، التي يتم الاستشهاد بها كمثال مجتزأ لتبرير العنف فقط، اقامت جمعية تأسيسية.
ثورة تموز لم تقم بتأسيس أي مؤسسة تمثيلية رغم أنها كانت مطالبة بذلك بقوة بحكم أن من ضمن دوافع التغيير و اسقاط الملكية هو انعدام الديمقراطية و تزوير الانتخابات في فترة الحكم الملكي فلماذا لم تقم بذلك؟
كان هناك برلمان فاسد في زمن الملكية و لكن عبد الكريم قاسم لم يؤسس البديل : أي برلمان سليم، بل قام بدلا من ذلك بإلغاء التمثيل و الانتخابات و البرلمان. و من المعروف ان برلمانا رديئا و مزيفا افضل من عدم وجود برلمان حسب نفس قواعد التكتيكات اليسار ( الذي طردت منه ) لأنه يسهل النضال ضد النظام و يستعمل منبرا ضده.
و هنا يطرح نفسه السؤال التالي : ما هو، و الحالة هذه، الأساس الدستوري و الأخلاقي الذي يجعل عبد الكريم يستمر في الحكم العراق؟ ما هو مصدر سلطاته؟ هل تم انتخابه؟
لا شك ان المصدر الوحيد هو القوة العسكرية خصوصا بعد ان انفضت عنه الاحزاب التي ساندته و الجماهير التي صفقت له.
ثم يأتي الى الصدراة سؤال آخر : ما هو الاساس القانوني و الاخلاقي لمحاكمة و قتل و اعدام الذي قاموا بمحاولات انقلابية ضد ثورة تموز مثل قادة حركة الموصل طالما ان ثورة تموز نفسها كانت قد انتصرت حسب نفس القاعدة أي القوة العسكرية و العنف سواء مارسته الجماهير ام القطعات العسكرية و كيف سيمتلك الحاكم القوة القانونية و الاخلاقية لإدانة من يحاول الوصول الى السلطة بواسطة القوة طالما هو نفسه قد وصل اليها بنفس الطريقة.
سيجيبك أحدهم : بحكم ان الانقلابيين يمثلون الثورة المضادة!
ولكن الم يستعمل الانقلابيون المنتصرون في الثامن من شباط نفس التعبير لقمع خصومهم؟ و نعتوا كل محاولة للإنقضاض على الحكم بالثورة المضادة.
أليس تعبير ثورة مضادة تعبير و ذاتي و ارادوي و ليس له اساس قانوني لأنه يمثل وجهة نظر و لا يخضع لاي معيار؟
و أخيراهل معيار الردة هو النية في التراجع عن المكاسب التي حققتها الثورة؟
اذا كان الأمر كذلك فعبد الكريم قاسم كان هو اول المتراجعين حتى أن الشهيد سلام عادل قال بعد انتصار انقلاب الثامن من شباط أن الردة بدأت في زمن قاسم في منتصف 1959.
قام عبد الكريم قاسم بمنح ترخيص بالعمل لحزب داوود الصائغ الذي لم يكن تعداد أعضاءه يتجاوز المائة و أعطيت إجازة لصحيفة المبدأ لتكون لسان حاله بدلا من اتحاد الشعب، ثم منعت اتحاد الشعب من التوزيع في العديد من المحافظات و تم سحب الشرعية من العديد من المنظمات مثل الشبيبة الديمقراطية و اغلاق مقراتها و نواديها في المحافظات و اعتقل العديد من الشيوعيين في زمنه و اعيد الى الخدمة في اجهزة الامن عناصر من المعادين للشيوعية، و نُحّي ضباط يساريون و شيوعيون من الخدمة العسكرية رغم انهم شاركوا بشكل فاعل في الثورة و القائمة تطول.

الاحتلال الأول و الاحتلال الثاني
يبدأ الاحتلال الأول في الحادي عشر من آذار عام 1917 بعد دخول الجنرال مود بغداد، و لكنه يستمر من وجهة نظر البعض حتى صبيحة الرابع عشر من تموز، حيث أن الحكومة و النظام الملكي هما صنيعة للانكليز و شخصيات الحكم هم من العملاء.
و يبدأ الاحتلال الثاني في التاسع من نيسان 2003 و هو مستمر حتى الآن. و لكن المتعاملين معه يجدونه تحريرا و يجدون أن المتعاملين معه ليسوا عملاء و لا صنائع.
و اذا ما كان على المرء أن يبرر أي احتلال، و إذا ما كان أي احتلال يمكن تبريره فإن الاحتلال الأول كان مبررا أكثر من الثاني من الوجهة التاريخية بحكم أنه أعقب حربا كونية انهار فيها النظام العالمي بما في ذلك امبراطورية عريقة كانت تحكم المنطقة هي الامبراطورية العثمانية و حصول فراغ سياسي فيها و حاجة دول حديثة مثل العراق إلى إعادة التأسيس و الأخذ بالتطورات العالمية التي كان معزولا عنها تماما إذ كان يفتقر تماما للمؤسسات، التي قامت الحكومة البريطانية كمحتل ثم كدولة انتداب و دولة حليفة من بعد، بالقيام بالمساعدة على تأسيسها مثل عموم دوائر الدولة و آليات عملها و قوانينها و مستلزماتها و المدارس و الجامعات و نظام صحي و مناهج دراسية علمانية و تشريعات مدنية، دستور و قوانين، مؤسسات تمثيلية برلمانية... الخ حتى انه بحلول الاربعينات حتى نهاية الحكم الملكي كان لدى العراق كوكبة لامعة من الكوادر العلمية و الطبية و العسكرية و الفنية و الادبية. و قد تأسس كل ذلك من الصفر تقريبا.
يقول الصديق إياه : الإحتلال الأول كان يستدعي النضال و تأليب الجماهير ضده و ضد الحكومة الملكية صنيعته.
أما الثاني فلا.. فمقاومة الحكومة و قوات التحالف هو ارهاب!!
لماذا؟
لأن امريكا قد تغيرت بعد الحادي عشر من ايلول ـ سبتمبر و اصبحت تناصر الديمقراطية و تأسيس انظمة تقوم على التعددية.. الخ.
و لكن امريكا قدمت أكثر من مثال قبل الحادي عشر من ايلول ـ سبتمبر على انها ساعدت على هزيمة انظمة ديكتاتورية و اقامة انظمة تأخذ بالديمقراطية و التعددية و التطور الصناعي و الحداثة كما في المانيا و اليابان بعد الحرب و كوريا الجنوبية..
و قدمت لنا الضد ايضا : امثلة مناقضة لهذه الصورة في فيتنام حيث شنت حربا طويلة و مكلفة و إجرامية و رعت انظمة ديكتاتورية سافرة في منطقتنا و في آسيا و امريكا اللاتينية و دعمت الاحتلال الإسرائيلي وساعدته لسنوات طويلة على مصادرة اراضي دول اخرى و مصادرة حق الفلسطينيين في تقرير المصير و دعمت انقلابات على حكومات شرعية منتخبة و اغرقتها بالدم مثل الانقلاب الدموي الذي قاده بينوشيت ضد الرئيس الشرعي سلفادور اللندي... ا لخ.
فما الذي نعتمده من هذه الامثلة المتناقضة لتبرير وجهة النظر هذه او تلك؟
هنا سوف يعمل العقل الانتقائي التبريري المنتفع بكل ما لديه من طاقة للبحث عن المقارنات و الامثلة التي تمس القشر و ليس الجوهر و لكي يقوم العقل الانتقائي ماهر التلون بلي عنق الحقائق بإختيار ما يناسبه من المقارنات التاريخية.
أما الصديق الصامت الذي جلس إلى جانبي و الذي صمت دهرا و نطق كفرا فقد قال :
ـ الا ترون الفرق؟
الاحتلال الاول جلب لنا حكومة سنية، الاحتلال الثاني مهد لولاية الفقيه.

الخلاصة:
لدى العقل الحزبي ممنوعان اثنان :
أن تجد أي شيء ايجابي يستحق الثناء في النظام الملكي.
أو أن تجد أي شيء سلبي يستحق التنديد في حكم عبد الكريم قاسم أو الحكم الحالي.

منير العبيدي