إنْ صار الدستور المدني التركي المزمع في خبر كان.. فمتى تصبح تركيا لكلِّ شعوبها؟!.

لا تكاد تخرج تركيا من أزمة، حتَّى تجد نفسها في معمعة أزمة أخرى أكثر عمقاً وخطورة. وحصيلة الأزمات العاصفة بتركيا، يمكن اختزالها بالقول: إن حاضر ومستقبل هذا البلد، وهوِّيته وعلمانيَّته وديموقراطَّيته هي على المحكّ. فوسط الانزياحات السياسيَّة التي تنتظر تركيا، على خلفيَّة المكاسرة الضارية الناشبة بين حكومة حزب العدالة والتنمية من جهة، والعارضة، ومراكز quot;الدولة الخفيَّةquot;، من جهة أخرى، في قاعة المحكمة الدستوريَّة، خفَّ الحديث عن الدستور المدني الذي يزمع حزب العدالة والتنمية على إنجازه وإعلانه على الرأي العام، نهاية العام الجاري. ومع ظهور مؤشِّرات تفيد أنَّه ربما يصبح حزب العدالة والتنمية في خبر كان، قبل نهاية العام، يصبح الدستور المدني، أضغاث أحلام، ذرته رياح العسكر، ومساومات وصفقات أردوغان معهم.

حاول الدستور الأول لتركيا سنة 1924 في بداية العهد الجمهوري بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، إنتاج دولة قوميَّة من مخلَّفات وبقايا التركة الجغرافيَّة والبشريَّة للإمبراطورية العثمانيَّة. وعد أتاتورك الأكراد بأن الدولة الناشئة هي مشروع شراكة كرديَّة _ تركيَّة. بيد أنَّ تفسيره للقوميَّة جاء فضفاضاً، واستناده نظرياً على quot;المواطنةquot;، مهَّد لتفسيرها بالمنطلق الاثني، وحصرها في quot;الانتماء التركيquot;. ما دفع الأكراد للانتفاضة عام 1925 ضد التفسير الكمالي، وانتهت بالسحق الدموي وإعدام زعيمها الشيخ سعيد بيران. فالتطبيقات العمليَّة للدستور الأول، بغية خلق أمَّة تركيَّة، ارتكزت على السعي لإذابة وصهر كافة الأقليَّات القوميَّة في بوقة العنصر التركي. وتمَّ تعديل الدستور سنة 1937، بتثبيت المبادئ الستة لحزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك، فيه، وهي: quot;الجمهوريَّة،القوميَّة، الشعبويَّة، الدولتيَّة، العلمانيَّة، الإصلاحيَّةquot; كمبادئ مقدَّسة. وطزاجة الجمهوريَّة، والهالة التي أحيطت بالنخبة العسكريَّة المؤسَّسة لها، جعلت نقد هذه المبادئ فعلاً لاوطنياً، وضرباً من الخيانة!.

غداة انقلاب 1960، طالب العسكر القضاة والمشرعين إعادة صياغة الدستور، بما ينسجم وضمان استمرار دورهم المحوري في الحياة السياسيَّة. فجاء الدستور الثاني مفرزاً لنتيجتين:
الأولى، الاستمرار في سياسة خلق quot;أتراك جددquot;، عبر عمليات الصهر والتذويب القومي، بخاصة الأكراد. وبهذا الخصوص، يشير الدستور إلى أن quot;كل مواطن في الدولة التركيَّة هو تركيquot;.


الثانية: ضرورة التخلي عن سياسة الاعتماد على حزب الدولة quot;حزب الشعب الجمهوريquot;، بإيجاد أكثر من حزب لها، على خلفية تنامي نشاط اليسار التركي، فظهر حزب العدالة الذي أسسه سليمان ديميريل على أنقاض الحزب الديموقراطي عام 1961 تتويجاً لهذا المسعى. والجدير ذكره أن الفصل بين السلطات توضَّح أكثر في هذا الدستور. خاصة، ما يتعلق بالسلطة القضائيَّة، فضلاً عن تشكيل المحكمة الدستورية العليا، التي غدت الذراع القضائي للعسكر بغية تصفية الحركات اليساريَّة، من ثمَّ الإسلاميَّة والكرديَّة سياسياً. إلى درجة، باتت تركيا تنعت بمقبرة الأحزاب السياسيَّة.

انقلاب 1971 لم يأتِ بدستور جديد، إنما استهدف تصحيح المسار السياسي المنحرف للطبقة السياسيَّة الحاكمة، برأي قادة الانقلاب. أمَّا الانقلاب الثالث في 12/9/1980، بقيادة قائد الجيش كنعان إفرين، الذي نصَّب نفسه رئيساً للدولة، إلى أن خلفه الرئيس الراحل تورغوت أوزال، كان نتيجة الفلتان والفوضى الناجمة من أحداث العنف الطائفية بين الأتراك السنّة والعلويين، إضافة إلى تصاعد التيار القومي _ اليساري، الكردي (حزب العمال الكردستاني)، يمكن اعتبار الدستور الثالث الذي أنتجه هذا الانقلاب، إحياءٌ لهيبة العسكر في مواجهة المخاطر والأزمات الداخليَّة التي تستهدف بنية الدولة. وهو الدستور المعتمد في تركيا حالياً. حيث عُرِضَ على الاستفتاء، لينال 92 % من أصوات الشعب، ما عزز موقف الانقلابيين، وأضفى شرعية على دمويتهم حينئذ.

ورغم أن دستور 1982 تماهى وبنية دستور 1961 بيد أنه اشتمل على تغييرات هامة، كإلغاء مجلس الشيوخ المؤلَّف من 150 عضو. واتخاذ إجراءات دستورية فعَّلت أداء البرلمان، كانتخاب رئيس الجمهوريَّة بالأغلبية المطلقة، في حال عدم تحقق غالبية الثلثين في الجلستين الأولى والثانيَّة. (وقد انتخب الرئيس الحالي عبدالله غُل بموجب هذه المادة من الدستور). ولم يلغِ الدستور الثالث الاستناد على مفهوم الإثنيَّة التركيَّة، ولم يعترف بالتنوّع العرقي أو الديني في البلاد. حيث جاء في المادة الثالثة من المبادئ العامة: quot;الدولة التركية، بأرضها وأمتها، كيان غير قابل للقسمة، لغتها التركيةquot;. ودعم المادة الثالثة بالمادة الرابعة، معتبراً إياها (الثالثة)، غير قابلة للتعديل، وليس من المسموح اقتراح تعديلها مستقبلاً، باعتبارها من المواد التي تتمتع بالحماية خارج الدستور. كما أن التعديلات التي أجريت على هذا الدستور حتى يومنا، لم تمس المواد الثلاثة الأولى. وحين أراد حزب العدالة والتنمية التنويه للتنوع القومي والديني، بشكل غير مباشر سنة 2004، فإنه أضاف تعديلاً للمادة العاشرة، تحت بند المساواة أمام القانون، جاء فيه: quot;كل الأفراد متساوون أمام القانون، بغض النظر عن اللغة والعرق واللون والجنس والمعتقد السياسي والفلسفي والديني والطائفيquot;.

فتح هذا الدستور والتعديلات المُدخلة عليه، تحت ضغط الاشتراطات الأوروبيَّة، المنافذ أمام إدخال الإسلام في الحياة السياسيَّة، بشكل رسمي، في خطوة لمواجهة التيارات اليساريَّة الكرديَّة والتركيَّة. وورد في المادة 24: quot;تعليم الدين والأخلاق سيكون تحت الإشراف والسيطرة الرسميَّة. تعليم الثقافة الدينيَّة والتربيَّة الأخلاقيَّة إلزامي في مناهج المدارس الأساسية والثانويَّة. ولا يسمح لأحد باستغلال أو الإساءة إلى الدينquot;. أمَّا في تعريف المواطنة، فلم يُنهِ الالتباس الحاصل فيه، فالمادة 66 عرَّفت المواطن بـquot;كل شخص يرتبط بالدولة التركيَّة برابطة المواطنة هو تركيquot;. ما يعني تأطير المواطنة بالانتماء للقوميَّة التركيَّة. كما أن كل أحكام الدستور تكون خاضعة للمحكمة الدستوريَّة، للنظر في إصدار الأحكام بحق منتهكيها، وخاصة الأحزاب السياسيَّة التي يرتبط قرار حلَّها بأمر منها، في حال انتهاك أحد المواد الثلاثة الأولى المذكورة أعلاه.

يبدو أن الوقت لن يسعف أردوغان في إماطة اللثام عن فحوى دستوره المدني. والتفاؤل المفرط إزاء المسعى الأردوغاني ذاك، لم يكن في محلِّه. فالصفقات التي قيل عن إبرامها بين العسكر وأردوغان، وتصريحاته عن الدستور الجديد، والتي تشير بأنه سيبقى دستور الهوية الملتبسة، والتحايل على الأزمات الداخلية، ويكتفي بتحصين وتدعيم خنادق انقلاب الإسلام السياسي على العلمانيَّة، على طريقة الانقلابات السابقة في صياغة الدساتير، كل ذاك، لم ينقذ أردوغان ودستوره. فحتَّى لو أنه لن يتعدَّى كونه صدى للنسخ الثلاث التي سبقته؟، ولم يتمّ صياغته بعيداً من ثكنات العسكر؟، ليكون دستور التعدديَّة الحقيقيَّة، المرتكز على الموزاييك الحضاري التركي واستحقاقاته الوطنيَّة الديموقراطيَّة، ويغدو المعبر العريض نحو المستقبل الأوروبي، معلناً بذلك ميلاد الجمهوريَّة الثانيَّة في تركيا، فإن مراكز quot;الدولة الخفيَّةquot; لم ترضَ عن أردوغان. فأثناء زيارته مدينة ملاطية لحضور مؤتمر جناح الشباب لحزبه في 6/4/2008، كرر نفس تصريحاته التي تغازل العسكر والأحزاب الأتاتوركيَّة، فيما يتعلَّق برفض الحقوق الكرديَّة، حيث قال: quot;يوجد في تركيا 36 مجموعة قوميَّة وعرقيَّة، ولن نسلِّم الدستور الجديد للأقليَّات القوميَّة والأثنيَّة المحليَّة. لقد قلنا: لا للعنصريَّة الاثنيَّة. لن نتيح فرصة للنعرات الانفصاليَّة بالانتعاش في تركياquot;. وبديهي أن هذا الكلام موجَّه للأكراد الذين يطالبون بتضمين الحقوق الثقافيَّة في الدستور، من جهة، وللقوى التي تتهم أردوغان بأنه quot;مساند للحقوق الكرديَّةquot;، من جهة أخرى.

علَّق محرر صفحة الشؤون الدوليَّة في صحيفة quot;آزاديا ولاتquot; الكرديَّة الصادرة في ديار بكر، حقّي بوطان، على ما بدى من أردوغان وقتها بالقول: quot;لقد انكشفت كل أوراق أردوغان. في البداية، استمال الأكراد بالوعود، والدين الإسلامي، وبعض المغريات الماديَّة، كمنحهم القروض الميسَّرة. وسيطر على خيارهم الانتخابي لصالحه في انتخابات تموز. والآن يقول: خصصنا 12 مليار دولار لمشاريع التنمية في المنطقة الكرديَّة. هذا الأموال ستصرف لزيادة شعبية أردوغان وليس لخلق الاستقرار في تركيا. بدليل، أنه يتنكَّر حتَّى لحقِّ تعليم اللغة الكرديَّة في المدارس والمعاهد الحكوميَّةquot;. وأردف بوطان: quot;يبدو أن أردوغان قد اتخذ قراره بوضع القضيَّة الكرديَّة على طاولة المقايضة مع خصومه من الأتاتوركيين، لإثبات أنه أكثر منهم أتاتوركيَّة، لكن، بنكهة إسلاميَّة. في مسعى لإنقاذ حزبه من الحظر. فالأزمة بين أردوغان والقوى الأخرى، هي أزمة سلطة وليست أزمة أفكار ومشاريع. والقضيَّة الكرديَّة هي بيضة القبَّان في هذه الأزمة. لذا، فهذه المقايضة خاسرة برأيي. لأن أردوغان، إنْ خسر الأكراد، فسيخسر السلطةquot;.

من جهة أخرى، كشفت بعض المصادر الإعلاميَّة التركيَّة مؤخَّراً، أن قبل ثمانية أعوام، وبطلب من مجلس الأمن القومي MGK، تمَّ إجراء دراسة حول المجموعات الاثنيَّة التي تكوِّن النسيج الاجتماعي التركي. والجدير بالذكر أن تلك الدراسة أجريت من قبل لجنة ترأسها البروفيسور شعبان كوزغون، وبدعم من جامعات؛ أرجيس، آلعزيز، وملاطية. وقد شَملت هذه الدراسة قرى وقصبات وبلدات تابعة لـ68 مدينة كبيرة في تركيا، وخلُصت للنتائج التالية:
bull;الأتراك؛ يتشكَّلون من مجموعات؛ الـquot;يورك، التتار، تاتنتاجي، تارَكَمة والغجرquot;. ولم يعد لهذه المجموعات أيَّة آصرة بجذورها. بمعنى، صاروا أتراكاً. وإجمالي عدد هذه المجموعات التي تؤلِّف حاليَّاًَ العنصر التركي، هو 55 مليون.
bull;الأكراد؛ وفق هذه الدراسة، يعتبرون المجموعة العرقيَّة الثانية في البلاد، من حيث الحجم والتعداد. وأشارت الدراسة إلى أن عددهم هو 12،6 مليون نسمة. وذكرت، أن ما مجموعه 2،5 مليون كردي، من أصل المجموع المذكور، هم حاليَّاً في مرحلة التتريك.
bull;الجورجيون؛ ويتوزَّعون على مدن عدَّة كـquot;أوردو، آرتفين، صامصون، ومرمراquot;. ويبلغ عددهم مليون نسمة. وما عدى الموجودين في مناطق البحر الأسود، فإن غالبيتهم قد نسي أصوله. لكن، بعد استقلال جمهورية جورجيا، على خلفيَّة انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، رويداً، بدأ يتصاعد الحسُّ والنزوع القومي الجورجي في تركيا.
bull;البوشناق؛ ويتوزَّعون على مدن quot;أدابازاري، إزمير، مانيساquot;، ويبلغ تعدادهم مليونين نسمة.
bull;الشركس؛ ويتوزَّعون على مدن عديدة، ويبلغ تعدادهم 2،5 مليون نسمة. 80 بالمائة منهم، قد نسوا أصلهم ولغتهم. ودائماً بحسب الدراسة.
bull;العرب؛ يتواجدون في مدن quot;سيرت، شرناخ، ميردين، دياربكر، روها، اسكندرون، أضنا، اسطنبولquot;. ويبلغ تعدادهم 870 ألف نسمة.
bull;الألبان؛ ويبلغ تعدادهم 1،3 مليون نسمة. ولم يعد لغالبيتهم أيَّة علاقة مع أصولهم الألبانية، على خلفية عمليات الصهر والتتريك.
bull;لاظ؛ رغم أن الذي يعيشون في مناطق البحر الأسود، يعتبرون من الـquot;لاظquot;، إلا أنه مجموعهم في عموم تركيا يصل لـ80 ألف نسمة. والذين يعيشون في منطقة مرمرا، هم وحدهم الذين يتحدَّثون باللغة الـquot;لاظيَّةquot;.
bull;همشين؛ يتواجدون في مدينتي ريزة وآرتفين، يبلغ تعدادهم 13 ألف نسمة.
bull;بوماك؛ لا زالوا مجهولي العرق. بعض المصادر، تعتبر أصولهم تركيَّة، وبعض المصادر الأخرى تشير إلى أن أصلوهم سلافيَّة. يبلغ تعدادهم 600 ألف نسمة، تحوَّلوا إلى أتراك، جرَّاء عملية التتريك.
bull;وثمَّة مجموعات أخرى في تركيا، منها: الغجر، وعددهم 700 الف. الأرمن، وعددهم 60 ألف. اليهود، وعددهم 20 ألف. الروم، وعددهم 15 ألف نسمة. واعتبرت الدراسة السريان، الأقليَّة العرقيَّة الأقلّ عدداً في تركيا.

وتشير الدراسة إلى أن 90 بالمئة من الجورجيين، و80 بالمئة من البوشناق والشركس، وغالبيَّة البوماك والألبان، قد صاروا يعتبرون أنفسهم أتراكاً، على خلفيَّة عملية التتريك والصهر القومي التي تعرَّضوا لها، بعد تأسيس الجمهوريَّة التركيًَّة الحديثة. وذكرت أن عملية الصهر والتتريك، تتصاعد بين العرب في تركيا. وتلفت الدراسة الانتباه إلى أهميَّة ازدياد الكثافة السكانيَّة لدى الأكراد، في حين أنها تشهد لدى الأتراك تناقصاً ملحوظاً. ولا يمكن التأكُّد من دقَّة نتائج هذه الدراسة، كونها ليست صادرة عن جهة حياديَّة وحسب، وبل تتنافى مع أرقام أخرى، تلعنها بعض القوميات الأخرى في تركيا. فالأكراد، يشيرون أن تعدادهم يزيد عن 20 مليون نسمة، فيما العرب، يتحدَّثون عن 3 ملايين. أمَّا الأرمن، فيعزون تناقص أعدادهم في تركيا، نتيجة حملات الإبادة الجماعيَّة والتهجير والصهر القومي التي مورست عليهم مطلع القرن المنصرم. لكن، ما هو في حك المؤكَّد بأن تركيا تضمُّ أقليَّات أخرى كالبلغار واليونان والأذريين، إلى جانب وجود أتباع الديانات والطوائف التالية: quot;الإسلام؛ شيعة، سنَّة، علويين، أهل حقّ. المسيحيَّة؛ بكنائسها الثلاث. اليهوديَّة، الإزيديَّةquot;.

على ضوء ما سلف، المبدأ الأتاتوركي القائل: quot;تركيا للأتراكquot;، الذي تتخذه صحيفة quot;حريّتquot; شعاراً لها، يتنافى مع حقائق التاريخ والجغرافية البشريَّة في تركيا، ولم يكن صالحاً لا ماضيَّاً، ولن يكون صالحاً لا حاضراً ولا مستقبلاً. وإن لن تصبح تركيا لكل شعوبها، ستبقى حقلاً مفخخاً بالألغام والأزمات القوميَّة والسياسيَّة وتفاعلاتها.

هوشنك أوسي