باستثناء قصة حذاء أبي القاسم الطنبوري الشهيرة في التاريخ البدوي، ذاك البخيل الذي حاول التخلص من حذائه بشتى السبل وكان يعود إليه في كل مرة، فإنه لا يوجد كثير ذكر للحذاء، أعزكم الله، في طيات ذاك التاريخ الذي كان ينظر، عادة، بدونية واحتقار للحذاء، باعتباره من مخلفات الإنسان، وسقط المتاع، التي لا قيمة لها في الحياة. غير أن اعتبار وقيمة الحذاء تغيرت مع استقدام quot;قيم الاحتلالquot;، ومنذ قصة نعال أبي تحسين التي حدثت في العراق والذي وصل سعره إلى أسعار خيالية في المزادات نظراً لقيمته المعنوية في ضرب وجه طاغية العراق الأشهر وصنم القوميين الأكبر. ويبدو أننا في طور جديد سيشهد ارتفاعاً كبيراً لقيمة الحذاء في وجدان وقلوب جميع شعوب المنطقة وستتبدل تلك النظرة الدونية التقليدية له، وسيحتل مكانة مرموقة في وعيهم الجمعي العام. والقاعدة الأخلاقية التي تنظر بازدراء للحذاء كانت قد كسرت بطريقة جد مثيرة مساء أمس، في مؤتمر المالكي - بوش الصحفي عقب التوقيع على اتفاقية العار المشؤومة بين حكومة عراق الاحتلال والولايات المتحدة دولة الاحتلال الغازية. فلا شك، البتة، أن حذاء منتظر الزيدي، الصحفي العراقي ذي الثمانية والعشرين ربيعاً، سيدخل هو الآخر، التاريخ من أوسع أبوابه، وبمكانة راقية، وسيـُدخل معه جورج بوش، فقد كان جورج بوش حتى لحظة quot;رشقهquot; بـquot; جوزquot; الأحذية خارج التاريخ، ولا مكانة مهمة له هناك على الإطلاق، غير أن الأحذية تفعل فعلها على ما يبدو وتخلد quot;الصغارquot; وتعيدهم، من حيث لا ينوون، لصدارة التاريخ. لقد أبى هذا الصحفي العراقي البطل إلا أن يصادق على الاتفاقية بطريقته الخاصة جداً، وبالأحرف الأولى من quot;صرمايتهquot;. وقيمة الحذاء في التاريخ البدوي ستتغير نحو الأفضل بعد اليوم، وقد تصل لمكانة السيف والرمح التي تغنى بهما شعراء البدو كثيراً ومجدوهما في أشعارهم. وعلى عكس الطنبوري، فإن كل شخص سيسعى اليوم لامتلاك صورة ولقطة لحذاء الزيدي وهو بمحاذاة، ويكاد يقترب من جبهة بوش. ولو كان أبو تمام بيننا اليوم، وحاضراً في ذاك اللقاء لغير من مطلع قصيدته الشهيرة في فتح عمورية، السيف أصدق إنباءً من الكتب، ليقول ولا شك الحذاء أصدق إنباء من الكتب.
وقد لا يكون من قبيل المبالغة الكبرى، والاسترسال البلاغي المدائحي الإطنابي الحماسي المتعجل، القول أن مجرد حذاء استطاع أن يهزم إمبراطورية كبرى مدججة بالترسانات النووية القادرة على تدمير العالم عدة مرات. فهذا ما حدث فعلاً، وبالضبط، وبرمزية فاقعة. ورمزية تلك الرمية أكبر من أن توصف، وتشكل أكثر من مجرد هزيمة معنوية نكراء لليانكي الذي فشل بكل إرهابه ودمويته على قهر وهزيمة إرادة العراقيين الذين استعملوا، اليوم، حتى سلاح الأحذية في حربهم مع الاحتلال العسكري وزباينته، وشراذمه، وبعث الأمل من جديد من دحر كل الطارئين والدخلاء. وأصبح من الجائز اليوم تصديق أن العراق بات يملك، فعلاً، أسلحة، عفواً، quot;أحذيةquot; للتدمير الشامل استطاعت أن تذل بوش وتمسح الأرض بهامته وبإمبراطوريته الورقية، وتلحق به هذه المهانة والإذلال غير المسبوق في تاريخ الحروب والمعارك العسكرية. ولو لم يكن في تاريخ المقاومة العراقية سوى هذه الرمية لكانت كافية لتسجل نصراً مؤزرا، ومع الاحترام لكافة الأعمال البطولية غير الإرهابية للمقاومة العراقية التي طالت جنود الاحتلال. وإنها لمؤشر على روح التحدي والمقاومة والإرادة التي لا تهزم ولا تكسر وعجز الآلات الحربية الجرارة عن ترويضها، وليست، بالطبع، مؤشراً على وجود حرية كما جاء في تبرير بوش السخيف والسطحي لتلك الحادثة البطولية الرائعة. وهي في ذات الآن دليل على بطولة وشجاعة فردية نادرتين تعكس وجهاً مشرقاً للشخصية الوطنية الحقـّة المتعلقة بحب وتراب الأرض، وهي تعبير صارخ عن إرادة شعب يرفض الذل ويرفض القهر ويرفض الاحتلال.
فهل يطلب بوش اليوم من مجلس الأمن إحياء لجنة هانز بليكس الشهيرة quot; الأنموفيكquot;، للتفتيش وتدمير عن كل أحذية العراقيين التي تشكل تهديداً للهيبة الأمريكية وإصدار قرار دولي جديد بحظر امتلاك هذا السلاح ؟ وسأكون أول المبلـّغين والمتعاونين مع اللجنة والقول بأن العراق ليس خالياً، ويعج اليوم بـ quot;تشكيلةquot; مرعبة من quot;أحذيةquot; التدمير الشامل تشكل تهديداً لجباه، ووجوه المجرمين والغزاة، ؟ فكيف سيتصرف بوش بملف الأحذية الشائك الجديد هذا، وبما تبقى لديه من أيام معدودات في البيت الأبيض؟ وهل سيحله قبل رحيله، أم يتركه لخلفه الرئيس المنتخب المسلم المرتد بركة حسين أبو عمامة؟
فتحية إعجاب للصحفي البطل الشجاع منتظر الزيدي. وتحية قبلها، لذاك الحذاء الذي دخل التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه وإنه لدرس وعبرة كبيرة لمن لا يعتبر، في لحظة لم يبق لنا فيها سوى الأحذية لاستخدامها للتعبير عن الغضب والرأي.
لا خوف ولا ضير، البتة، مادام هناك أحذية باقية في هذا العالم، من الممكن أن تتحول لسلاح قاتل وفتاك حين تنهال بعنف وقوة وغضب، وبأية لحظة غير محسوبة، على جباه الغزاة، والقتلة، والطغاة.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات