لم يكن مستغرباً، أبداً، ما حصل في غزة من مجزرة دموية وحشية وبشعة تفوق الوصف والخيال. وليس من قبيل الصدف العابرة أن نرى هذا الكم المفجع من الموت المجاني المتقاطر تباعاً، وبفزع محبط، على كل الشاشات. فلقد كانت قد كثرت السفرات، قبلاً، وتعددت الزيارات، وتنوعت المؤتمرات، واشتطت التصريحات، وأرعدت وأزبدت الشمطاوات، وانزوى، خجلاً، نحو الزوايا المعتمة والمظلمة فحول الصمت، وquot;التسهيلquot; العربي الكبار.

وخيوط اللعبة وطقوس الذبح quot;الحلالquot;، لم تكن مغيـّبة عن العيون، وكانت تـُنسج في العلن، وعلى مرأى من ناظري الملايين المشدوهة ببلادة الأداء، وسماجة الوجوه، وترهل النظرات، وكيد الأخوة الألداء المستعجلين ليوم النحر العظيم الذي سيغسل لهم quot;عارquot; مقاومة أسياد الاحتلال. وقد بدا كل شيء مرتباً له بعناية، ومعداً مسبقاً، وبتصريح، وتواطؤ، وquot;تسهيلquot; ورضا، من الأشقاء القابعين في بروجهم السياسية، وقصورهم الخرافية الحبلى بالحرام وبقصص مخزية لا تنسى عن غدر هنا، وطعن وخداع وتضليل وخيانة هناك، في انتظار مكالمة هاتفية راضية قانعة مرضية من قيصر الموت، quot;المتعولم حذائياًquot;، والرابض فيما وراء البحار، تحمل بشائر التهنئة على الصمت، والمباركة بالمساهمة quot;الخيرةquot; والنخوة النشمية في مواسم الذبح المبارك والحلال، المشرعن بفتاوى مـُلاّ السلطان الذي اندفع، وquot;هوىquot;، غير عارف، ويا حرام، حباً، وتودداً، وولهاً، وتملقاً وتشوقاً إلى مصافحة السفاح بورع وتقوى يوحي بفيض دافق من عطر الإيمان بأسفار التوراة وليس بقصص القرآن. فهل هناك أروع من مشهد رسول الفرعون الأكبر، وكبير الحاخامات، والحبر الأعظم حين يخر متعبداً مستغفراً، ومبسملاً ، متشكراً، متحمداً لله على عطاياه الجزلاء بحرارة العناق؟ فهل كانت تلك المصافحة الشهيرة سوى صفحاً، ومباركة شرعية وتأشيرة الانطلاق quot;الحلالquot; لبداية ترنيم مقدس تتلى فيه صلوات الاستسقاء quot;المقبولةquot;، والحمد لله، لوابل الموت القادم من السماء في فصول البرد والشتاء وطقوس الاحتماء، كي يفعل فعلته في رقاب أطفال غزة الذين كانوا في انتظار بارقة أمل، وبادرة سلام وquot;تهدئةquot; ما، من زكاة البيوت السياسية الفاعلة في المنطقة وكهنة سلالات النظام العربي ، تعيد لهم طفولتهم وفرحهم المسروق، وتجلب لهم هدايا الأعياد والميلاد، فاستبدلوها لهم، quot;بروتوكولياً، وكرمى لعيون وحسناوات الموساد بأمطار غزيرة من لهب، وحمم ونار.

ولم تكد طائرة تلك الحسناء الفاتنة التي تحولت لوحش كاسر، آمرِ، ناهِ، تحط رحالها قادمة من أرض الكنانة، مقر جامعتهم حتى انطلقت طائرات جنرالات الاحتلال ومجرمي الحرب الدوليين، وسفاحي العصر الكبار، حاملة معها حمم الموت القاتل التي انهمرت بلا هوادة، أو رحمة وتمييز، على رؤوس أطفال غزة الأبرياء، زارعة الموت والأحزان في كل ركن من أركان القطاع المنكوب، ومخلـّفة وراءها مشاهد مروّعة من دمار وخراب.

لقد فضح دوي القنابل ورائحة الموت، ومناظر الجثث المتفحمة إنكار ذاك الشيخ quot;المسكينquot; بوجود الحصار، وانكشف له، الآن، ما اعتراه من جهل. وكل ما نأمله اليوم، وهو أضعف الأيمان، أن يكون سماحته، وعساه، طبعاً يعكر صفو سريرته، قد سمع بشيء اسمه غزة، يتعرض اليوم، للإبادة ، والهولوكوست، والحصار.

ما جرى، ويجري في غزة من محرقة بشرية فظيعة ومروعة وقودها النساء، والشيوخ، والأطفال العزل، أمام آلات الموت الرهيبة، هو أولاً، وقبل أي شيء، وصمة عار سوداء، في جبين هذا النظام الرسمي العربي المتداعي. وهذا الإصرار المحموم، والتشفي، والرغبة في إيقاع أكبر عدد من الخسائر والضحايا والأرواح، المُغطـّى عربياً، ودولياً، هو، ثانياً، مجزرة ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية وجريمة الحرب، بحق الإنسانية جمعاء. ويجب أن يقدم مرتكبوها إلى العدالة الدولية فوراً ودونما إبطاء جرّاء ما اقترفته أياديهم الملطـّخة بالدماء من ويلات وجرائم وآثام. وإن وصف ما يجري، بأنه نوع الدعارة السياسية مؤسس على تداع وانهيار أخلاقي رهيب يصبح فيه الأخ والشقيق والولي والوصي هو المسهـّل والمروج والصامت والمتاجر البغي أمام انتهاك حرمة العهد والعرض والأرض والدماء، هو، ولعمري، أمر فيه الكثير من الأدب، والتشريف، والدبلوماسية واللباقة والمحاباة، فكل ما يوجد في قواميس العالم، من مفاهيم، ومصطلحات، لا يمكن أن يعبر، مع هؤلاء القتلة والأشقياء، عن واقع الحال.

نضال نعيسة
[email protected]