مما لاشك فيه أن إيران دولة إقليمية كبيرة ومهمة وفاعلة ومؤثرة في الشرق الأوسط. فهي أول من أنجز ثورة دستورية سنة 1906، وأول من أمم مصادر الثروة النفطية الوطنية سنة 1951، وأول من أسس جمهورية إسلامية سنة 1979، عبر انتفاضة شعبية تتوجت بانهيار النظام الشاهنشاهي، وبالتالي يمكن اعتبار إيران ميدان للتجارب السياسية والاجتماعية على امتداد القرن الماضي، وهي الدولة الشيعية الوحيدة وسط بحر من الدول السنية العربية وغير العربية، وبسبب طموحاتها الإقليمية ينظر لها جيرانها المباشرين والدول الأخرى القريبة منها باعتبارها مصدر خطر وتهديد لأمنهم واستقرارهم، سيما وأنها ترفع لواء معارضة الوجود الأمريكي والإسرائيلي في المنطقة الأمر الذي وفر لها بعض الشعبية لدى الأوساط الجماهيرية العربية والإسلامية.


ومنذ انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً لإيران سنة 2005، بدا جلياً أن هذا البلد عاد إلى ممارسة الدبلوماسية الراديكالية والثورية المتطرفة بعد فتور نسبي دام بضعة أعوام قليلة في فترة رئاسة الرئيس المعتدل محمد خاتمي. فإستراتيجية المواجهة والتحدي فيما يخص الملف النووي، والتصريحات النارية والاستفزازية تجاه إسرائيل، قادت إلى عزل إيران على المسرح الدولي في حين كان بإمكان طهران استغلال فرصة التحولات الدولية المتمثلة بسقوط جدار برلين وانتهاء الحرب الباردة، وتصفية عدوين لدودين لها بعد إطاحة نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق، بغية تكريس وتأكيد دورها كلاعب إقليمي مهم لا يمكن تجاهله في المعادلة اٌلإقليمية بالتنسيق والتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وباقي الدول المتقدمة كروسيا والصين واليابان. بيد أن إيران اختارت الطريق المعاكس وتبنت أسلوب المناكفة والتحدي دون الأخذ بالحسبان التداعيات الكارثية المترتبة على هذه الإستراتيجية على مختلف الصعد العسكرية والسياسية والاجتماعية فضلاً عن التبعات الاقتصادية المدمرة.


فعلى نقيض سلفيه في الرئاسة الإيرانية، الشيخ هاشمي رفسنجاني البراغماتي والسيد محمد خاتمي الإصلاحي، اللذين نجحا في تحسين صورة إيران نسبياً في الغرب، تماهت شخصية الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد مع إيران الثورة الدائمة ومعاداة الغرب والسامية، وممارسة سياسة عدائية واستفزازية لا تأبه بردود الأفعال الدولية. فشخصية الرئيس نجاد وسلوكه شوهت الدبلوماسية الإيرانية. وهو، عكسا لسلفيه، ينحدر من أصول متواضعة، وتربى كمناضل في صفوف الحرس الثوري، ويعتبر نفسه مخلصاً وأميناً لخط الإمام الخميني، وهو من أتباع خط الشهادة ومستعد للتضحية بنفسه وبالآخرين من أجل مبادئه الثورية المتطرفة، كما أن لديه نزعة خلاصية ميسيانية نابعة من إيمانه بعقيدة عودة الإمام المهدي المنتظر وفق الإيمان الشيعي الإثني عشري. لقد كان محمود أحمدي نجاد أشد المعارضين لسياسة سلفيه الخارجية لأنه يعتقد أن خيار الانفراج والتهدئة والتقارب مع أوروبا لم يحقق شيئاً لإيران لذا أخفقت برأيه سياسة هاشمي رفسنجاني وفشلت فشلاً ذريعاً بينما أبعدت سياسة محمد خاتمي الخارجية البلاد عن أهدافها الثورية وقلصت دور إيران في العالم الإسلامي. لذلك ارتأى محمود أحمدي نجاد إتباع سياسة مغايرة تماماً مبنية على المسلمات الثورية وعلى رأسها معاداة الغرب وإسرائيل ومعاداة السامية والصهيونية ومواصلة البرنامج النووي الإيراني بشقيه المدني العلني والعسكري السري مهما كانت العواقب، وأول خطوة قام بها بعد انتخابه بهذا الصدد هي استدعائه في شهر نوفمبر عام 2005 لأربعين سفيراً ورئيساً لبعثة دبلوماسية إيرانية إلى طهران واستبدالهم بعناصر موالية لسياسته وتوجهاته ومؤدلجين مثله ويمتلكون نفس الرؤية.


المسألة الشائكة الأكثر تعقيداً أمام دبلوماسية الجمهورية الإسلامية هي العلاقات مع واشنطن التي تطرح إشكالية عويصة حتى على الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ جيمي كارتر إلى باراك أوباما مروراً برونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الإبن. فحجر الأساس للسياسة الخارجية الإيرانية تجاه إيران هي المواجهة والعداء والاستفزاز والتحدي. وكان من نتائج هذه السياسة المتشددة رفع وتيرة الشك والارتياب والكره والنفور بين الجانبين مما قاد الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقديم دعمها ومساندتها إلى بغداد إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية في 1980 ـ 1988، وبعد حرب تحرير الكويت 1990 ـ 1991، قامت واشنطن بوضع بغداد وطهران في مستوى واحد من خلال سياسة الاحتواء المزدوج وفرضت عليهما قانون منع انتشار وتصنيع أسلحة التدمير الشامل في 28 أكتوبر 1992، وكذلك قانون آماتو في 1996 الذي يمنع الدول الأخرى والشركات غير الأمريكية من الاستثمار في إيران في مجال الصناعة النفطية. أما العلاقات مع أوروبا فلم تكن أسعد حالاً بالرغم من كون أوروبا الشريك التجاري الأول لإيران ومع ذلك لاقت أوروبا صعوبات جمة في إدارة علاقاتها بإيران خاصة في السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية الإسلامية وأزمة الرهائن الأمريكيين والحرب مع العراق والرهائن في لبنان والتصفيات الجسدية للمعارضين الإيرانيين في الخارج وعدم احترام المباديء الأساسية لحقوق الإنسان وقضية فتوى قتل الكاتب البريطاني سلمان رشدي التي أصدرها الإمام الخميني بسبب رواية آيات شيطانية، مما أعاق لزمن طويل تطبيع العلاقات بين الجانبين الإيراني والأوروبي. احتاج الأمر انتظار سنة 1992 من اجل صياغة مقاربة سياسية أوروبية جديدة تجاه إيران والتي عرفت باسم الحوار النقدي وقد فشلت هذه السياسة أيضاً واصطدمت بصخرة الملف النووي. فكيف سيتم التعامل مع هذا الملف الحساس؟


في الأسبوع الأول من شهر آذار سنة 2005، إجتمعت القيادة العسكرية الإسرائيلية بكاملها، من وزير دفاع ورئيس ألأركان وقائد سلاح الجو وقائد البحرية ورؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، داخل مقر القيادة العامة لأركان جيش الدفاع الإسرائيلي، ومن بينهم بالطبع رئيسا جهازي الموساد والشن بيت، ورئيسا المخابرات العسكرية في القوة الجوية والقوة البحرية، وقائد القوات الخاصة، ورئيس مركز الأبحاث السياسية والاستراتيجية المكلف بتقديم المشورة والتحليل للأوضاع السياسية والاستراتيجية العالمية ونصح أصحاب القرار فيما يتعلق بالاستراتيجيات الطويلة الأمد الواجب اتباعها. أما موضوع الاجتماع فيتلخص بكلمة واحدة على جدول الأعمال هي quot; إيرانquot;. وأما سبب الاجتماع فهو دراسة تبعات وانعكاسات إعلان إيران عن قدرتها على تخصيب هكسافليوريد اليورانيوم Heacute;xafluorid drsquo;uranium(UF6) في مفاعل نووي يقع بالقرب من المدينة التاريخية القديمة أصفهان وفي ضاحيتها الشرقية بالتحديد وهو موقع وضع تحت الحراسة المشددة حسب تقرير للمخابرات الإسرائيلية الموساد. وقد أشار التقرير ذاته إلى تمكن إيران من إنتاج ثلاثة أطنان من غاز الـ (UF6 ) وهي كمية كافية لتخصيب اليورانيوم لأغراض الطاقة المدنية التي تحتاجها إيران كما يمكن لها توفير القدرة لمجمع ناتانز Natanz النووي لصنع قنبلة نووية كما ورد في التقرير الاستخباراتي الإسرائيلي. وقد أورد التقرير المذكور قائمة بالمواقع المتخصصة بإنتاج الصواريخ الباليستية البعيدة والمتوسطة المدى وأكبرها مصنع دارخوفان Darkhovin الواقع في جنوب مدينة الأهواز الخاضع هو الآخر للحراسة المشددة من قبل حراس الثورة الباسداران ويستخدم ثلاثة آلاف عالم ومهندس يعملون جل وقتهم تحت الأرض في صنع محركات الصواريخ، إلى جانب مواقع أخرى في الجبال الواقعة قرب قزوين أو في الصحراء مثل Saghand في شرق طهران ونيكا Neka القريب من بحر قزوين المدفون تحت الأرض والمجهز بمفاعل نووي من صنع كوريا الشمالية. وخارطة كاملة ودقيقة لجميع المعامل العسكرية التي تصنع الصواريخ والعبوات والقنابل والذخيرة التقليدية وغير التقليدية. فالجميع في إسرائيل يتذكرون سنوات التوتر التي فرضتها عليهم الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979 وإطاحة حليفهم الشاه وتتلخص تلك السياسة بالراية التي ترفرف على مدخل وزارة الخارجية الإيرانية والمكتوب عليها باللغة الفارسية quot; ينبغي أن تحرق إسرائيلquot;.

منذ ذلك الوقت اختارت إيران طريق معاداة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها إسرائيل، وتبنت مقولة عدو عدوي صديقي، وعملت على تمويل ودعم وتسليح وتدريب قوى وجماعات مسلحة مناوئة للغرب ولإسرائيل وجعلت من ذلك سبباً لوجودها مثل حزب الله في لبنان الذي تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية منظمة إرهابية وحركة المقاومة الإسلامية حماس التي وضعت في نفس الخانة من قبل أمريكا وإسرائيل. من هنا سعت إسرائيل بكل ما تملك من قوة إلى استئصال هاتين القوتين المسلحتين المستعدتين للتضحية والموت فهاجمت حزب الله سنة 2006 لكنها لم تفلح في تدميره إلا أنها حدت من قوته على الحركة فلم يعد بإمكانه توريط الشعب اللبناني برمته في عمليات مقاومة يمكن أن تثير غضب إسرائيل وردة فعل عنيفة من جانبها تدمر البنى التحتية للبنان بأسره. ونفس الشيء مع حماس التي تتعرض اليوم لحملة عسكرية قاسية ودموية لتلقينها درساً لن تنساه عندما تسعى لخرق الهدنة مع الجانب الإسرائيلي واستئناف إطلاق الصواريخ على المستوطنات اليهودية وهي رسالة غير مباشرة لإيران الداعم الأساسي لهاتين المنظمتين في ألا تعتمد عليهما في ردها الانتقامي المفترض والمتوقع في حالة تعرضها لهجمات عسكرية مسلحة ضد منشآتها النووية سواء من جانب أمريكا أو إسرائيل نفسها. تتفق جميع التقارير الإستخباراتية الأمريكية بأن بعض مراكز القوى المتشددة في إيران تقف وراء أغلب العمليات الإرهابية والتخريبية لزعزعة وإضعاف الديمقراطية الفتية في العراق وإفشال التجربة السياسية الديمقراطية في بلاد الرافدين بالرغم من وجود حلفاء لها على رأس السلطة في بغداد ومع ذلك لم تتوان في تسليح وتدريب وتوجيه ميليشيات خارجة على القانون كجيش المهدي التابع لمقتدى الصدر المقيم في إيران، وعدد كبير من الجماعات الخاصة المسلحة التي تتلقى أوامرها مباشرة من فيلق القدس التابع للحرس الثوري وكذلك بعض الجماعات السنية المسلحة المتمردة على السلطة المركزية ومنها من يرتبط بعلاقات سرية مع حزب البعث الحاكم سابقاً في العراق.

وبالرغم من كل ذلك اعتقدت بعض الجهات الدبلوماسية في الخارجية الأمريكية والخارجية البريطانية خاصة، وعن قناعة راسخة، بأن هناك في إيران بعض العناصر المعتدلة، حتى داخل النظام الحاكم، تسعى لتطبيع العلاقات مع الغرب ونزع فتيل التوتر القائم ويمكنها، إذا وصلت إلى أعلى هرم السلطة في طهران، أن تكبح جماح حلفاء إيران في المنطقة كحزب الله وحماس وغيرهم. واستناداً لمثل هذه الرؤية ذهب وفد من جهاز المخابرات البريطانية mi6 للتحاور مع حماس بغية إقناعها بإطالة أمد التهدئة والتخلي عن أسلوب المقاومة وفتح حوار صريح وجريء مع إسرائيل على غرار المفاوضات التي تجريها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بقيادة محمود عباس، الأمر الذي أثار غضب إسرائيل لأنه لم يتم بالتشاور والتنسيق المسبق معها. لقد اطلع المشاركون في الاجتماع الأمني في تل أبيب على صور عالية الدقة التقطها قمر صناعي تجسسي إسرائيلي للمواقع النووية الرئيسية الإيرانية الستة الموزعة في جميع أنحاء البلاد ومنها ما يوجد بالقرب من المواقع السكنية، والمخفية تحت أطنان من الكونكريت المسلح غير القابل للاختراق حتى بواسطة قنابل بلو BLU 109 التي باعتها أمريكا لإسرائيل مؤخراً لهذا الغرض بالذات. كما أشار التقرير ألاستخباراتي الإسرائيلي إلى أن روسيا كانت قد أرسلت 150 خبير وتقني نووي لزيادة قدرة مفاعل بوشهر النووي الروسي الصنع بعد أن كان قد تعرض لأضرار جسيمة إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية، وتفاصيل مذهلة عن باقي المفاعلات وأجهزة الطرد المركزي وأجهزة تخصيب اليورانيوم Les Centrfugeuses بكميات صناعية داخل الأراضي الإيرانية كالمفاعل النووي التابع لجامعة طهران وذلك الواقع بالقرب من مدينة يزد Yazd وهي كافية لصنع قنبلة نووية في كل عام إبتداءاً من سنة 2008 أو 2009 على أبعد حد. كما ذكر تقرير استخباراتي آخر إلى اتصالات أجراها علي شمخاني وزير الدفاع الإيراني سنة 2005 ـ 2007 مع سوريا بهدف جلب أحد عشر عالماً نووياً من دمشق إلى طهران وهم علماء عراقيون إلى سوريا قبل سقوط النظام الصدامي بفترة قليلة ومعهم وثائقهم وأقراص السي دي التي تحتوي على جميع أبحاثهم وتجاربهم في إطار البرنامج النووي العراقي وفور وصولهم إلى دمشق تم إخفائهم في قاعدة عسكرية وتبديل هوياتهم وأسمائهم. وقد اشترط الرئيس السوري بشار الأسد على طهران إطلاع سوريا على كافة الانجازات التي سيحققها هؤلاء في مجال البحث النووي وتزويدها بجميع النتائج التي سيتوصلون إليها في مجال البحث النووي العسكري والمدني ويشاع اليوم أن جزء من هؤلاء العلماء هم في طليعة الفريق العامل في الحقل النووي السوري التجريبي حيث كان يعد لهم موقع مناسب للمباشرة في منطقة ألبو كمال الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية ودمرته كلياً والذي تطالب وكالة الطاقة الذرية الدولية بالكشف عنه والتحقق من حقيقته كما ورد في مضمون التقرير الاستخباراتي الإسرائيلي المشار غليه أعلاه. وقد أرسلت البحرية الإسرائيلية منذ سنة 2005 ثلاث غواصات نووية ألمانية الصنع من طراز دولفين DOLPHIN إلى المياه الدولية في الخليج تحسباً لأية مواجهة محتملة مع النظام الإسلامي في طهران قيمة كل واحدة منها 300 مليون دولار ومجهزة بأحدث تكنولوجيا المعلومات والكومبيوترات الجبارة والحاسبات المتطورة التي تعمل ببرنامج برومايس PROMIS الفائق القدرة على تحديد الأهداف بدقة متناهية على بعد 1500 كلم وهو من صنع أمريكي والتقط أي اتصال في الكرة الأرضية ومعرفة مصدره، وكل غواصة مجهزة بـ 24 صاروخ عابر للقارات مزودة برؤوس نووية تكتيكية وإستراتيجية، وأن القوة التدميرية لكل منها تزيد عشر مرات على قنبلة هيروشيما، وقد أجريت تجارب لها في المحيط الهندي بنجاح. الذي يمنع إسرائيل من مهاجمة المواقع والمنشآت النووية الإيرانية في الوقت الحاضر هو عوائق تقنية وتكنيكية وميدانية وسياسية وعلى رأسها الضوء الأخضر الأمريكي والتعاون التركي والأردني أو العراقي في السماح باختراق الأجواء للوصول إلى إيران، إلى جانب عدم معرفة القدرة الحقيقية لإيران على الرد الانتقامي وردود أفعال المجتمع الدولي حيال عمل عسكري غير مشروع وغير مرخص له دولياً.

د. جواد بشارة
[email protected]