تحل علينا الذكرى الخامسة لسقوط الطاغية صدام حسين ونظامه الدموي في العراق وفي نفس الوقت الذكرى الأليمة لغزو العراق واحتلاله وهو الحدث الذي لايقل دموية وطغياناً وانتهاكاً لحقوق الإنسان العراقي بعد كل ما ذاقه العراق وشعبه من بطش وقتل ومعاناة وحرمان طيلة أربعة عقود هي من أسوء ما واجهه في تاريخه الحديث ومايزال هذا الشعب المنكوب يدفع الثمن غالياً من دم أبنائه ويستنزف في وجوده وتنهب ثرواته وخيراته من قبل المحتلين وعصابات السراق واللصوص.


منذ أشهر قليلة صارت الأنباء القادمة من العراق أقل دموية وكارثية مما كانت عليه في السنوات الأربعة والنصف التي أعقبت الحرب وإطاحة نظام البعث، على الأقل على الصعيد الأمني، وشلل الحياة اليومية للمواطن إثر انخفاض عمليات العنف والقتل الطائفي والتفجيرات الإرهابية وعمليات التهجير الطائفي القسري تحت تهديد السلاح والتي انخفضت إلى النصف تقريباً، وهذا مايحسب لحكومة السيد نوري المالكي الذي تعهد بذلك وأوفى بعهده ولكن بقي الشطر الثاني من الوعد الذي قطعه السيد رئيس الوزراء على نفسه منذ تسلمه زمام القيادة العليا في البلاد ألا وهو الاهتمام بالمواطن العراقي ورعايته وتوفير الخدمات الأساسية له ومنحه وسيلة العيش الكريم والحفاظ على كرامته وانتشاله من الفقر والحاجة والبطالة وسوء المعاملة، وإنقاذه من وباء الفساد الذي يمتص دمه ويطبق على أنفاسه فلا شيء ينفذ في العراق بدون رشوة وهذا معروف للقاصي والداني.
أمام العراق أولويتان وهما إنهاء الاحتلال بأسرع وقت ممكن من خلال جدولة انسحاب القوات المحتلة بالتدريج كلما تحقق تأهيل قوات الجيش والشرطة الوطنيتين وتدريبهما وتسليحهما لتأمين حماية البلد وفرض النظام والقانون وهيبة الدولة. وفي نفس الوقت وبشكل متوازي القضاء على الإرهاب والفكر التكفيري والعصابات والميليشيات المسلحة بكل أطيافها وألوانها وانتماءاتها وإخراج العراق من الوصاية الدولية وتخليصه من البند السابع لمجلس الأمن والأمم المتحدة لكي يستعيد سيادته الكاملة وبلا نقص.لقد حان الوقت بعد خمسة أعوام من الصير والانتظار، الالتفات لهذا الشعب المسكين الذي يفتقد لأبسط مقومات الحياة الطبيعية والذي يسحق يومياً تحت طاحونة الخلافات السياسية والعرقية والقومية المذهبية والدينية، فالعراق غني وشعبه فقير وهذه هي الطامة الكبرى.


مايزال لدى الأمريكيين نحو 160000 جندي داخل العراق والقادة العسكريون الميدانيون حذرون من ترديد أناشيد النصر كما سبق لرئيسهم أن تسرع وأعلن بنشوة سنة 2003 عن انتصار قواته وكان متسرعاً في تحمسه في إعلان انتصاره الزائف فقد ربح معركة لكنه لم يربح الحرب بعد ومازالت الأبواب مشرعة على كافة الاحتمالات. فهو وجنرالاته ومعهم قادة العراق الحاليين يعرفون اليوم أن انخفاض مستوى العنف يعتمد على رهان سياسي وعسكري خطير وهش وحساس لا أحد يمكنه أن يتكهن بمداه ونتائجه. فطريق المصالحة الوطنية الحقيقية مازال محفوفاً بالمخاطر وطويل جداً،وأزمة الثقة القائمة بين أطراف العملية السياسية، ومختلف مكونات الشعب العراقي وممثليهم الذين فرضوا أنفسهم بالقوة، مازالت عميقة وبلا قرار.فالأمريكيون يلعبون بالنار بخلقهم ميليشيات مسلحة إضافية في الآونة الأخيرة ( أغلبها سنية وقوامها حوالي 80000 مقاتل) أغلبهم من عساكر جيش صدام حسين المنهار ممن أعلنوا تمردهم المسلح ضد العملية السياسية الوليدة والبديلة لنظام الحزب الواحد حتى أن بعضهم لم يتوان عن التحالف مع تنظيم القاعدة الإرهابي وينسق معه ثم انقلبوا على ذلك التنظيم الإجرامي تحت تأثير الإغراءات الأمريكية بالمال والسلاح ووعود وقد انجر إليهم عدد من رؤساء العشائر الذين كانوا الحاضنة الاجتماعية للجماعات المسلحة وكان بعضهم من المقربين من صدام حسين ويتمتع بحظوة لديه.


لقد نجح الفرقاء في تمزيق العراق، والعاصمة بغداد بالذات، إلى كانتونات وأحياء ومدن ومحافظات ذات لون واحد إما سنية خالصة أو شيعية خالصة أو كردية خالصة أو عربية خالصة أو تركمانية خالصة، ووضعوا لها القوانين والضوابط الصارمة في الدخول والخروج والإقامة. بل حتى التكسيات في العاصمة صارت إما سنية أو شيعية، فالتاكسي الشيعي لايذهب إلى منطقة سنية والعكس صحيح، واندثرت المواطنة وضاع الولاء للوطن وحل محله الولاء للحزب أو المذهب أو الطائفة أو القومية، لكننا نتمنى ألا يكون الهدوء النسبي الحالي وهمياً أو كالهدوء الذي يسبق العاصفة، وإنه سيتبخر مع أول إطلاقة نار استفزازية. فالحرب لم تضع أوزارها بعد. فالتوتر والارتياب ما يزلان طاغيين على الشارع العراقي. وباعتراف أحد ضباط صدام حسين السابقين تم بفضلهم تحقيق أمن نسبي وسحق تنظيم القاعدة واستئصالها وإنهاء هيمنتها وطردها من مناطق نفوذها:quot; فلا الأمريكيون ولا الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط صدام حسين، مع كل ما لديهم من أسلحة وأموال ومعدات وإمكانات وجواسيس وجنود، لم يستطيعوا توفير الأمن ولو نسبياً داخل الأحياء السنية في بغداد وغيرها من المدن خلال السنوات الأربع المنصرمة الأمر الذي نجحنا نحن في تحقيقه في ظرف ساعات قليلةquot;.


السؤال المطروح والذي يثير قلق العراقيين هو إلى متى سيبقى هؤلاء الذين يطلق عليهم اليوم تسمية الصحوات ومجالس الإسناد ولجان الأحياء الشعبية، يلعبون اللعبة الأمريكية في عقد التحالفات التي يتقنها أبناء العم سام؟ من الواضح أن الأمريكيين يدفعون لهم أكثر مما دفعت لهم القاعدة مع تقليل المخاطر التي يتعرضون لها عندما كانوا في معسكر القاعدة والإرهابيين فهم اليوم مع معسكر الشرعية وليس المعسكر الخارج على القانون كما اعترف بذلك ضابط أمريكي في ريبورتاج بثته قناة فرنسا 24 الدولية الفضائية عن العراق في 26 شباط حيث أردف الضابط الأمريكي قائلاً:quot; أرجو ألا يكون المال هو حافزهم الوحيد للتعاون معنا وآمل أن يكون هؤلاء الأشخاص صادقون في نواياهم في مقارعة تنظيم القاعدة ولكننا دائماً في مواقع القتالquot;.


ماهي حصيلة السنوات الخمس من الإحتلال المباشر للعراق وتأجيج بؤرة الإرهاب الإسلاموي والعنف المسلح بذريعة مقاومة الغزو وطرد المحتل من أرض العراق quot; الإسلاميةquot; على حد تعبير قادة القاعدة والجماعات الإسلاموية التكفيرية؟


صحيح أن تدخل الأمريكيين والبريطانيين عسكرياً في العراق قد أسفر عن سقوط صدام حسين وإطاحة نظامه الوحشي المثير للتقزز، وأن صدام كان بمثابة الوباء المسلط على رقاب الشعب العراقي الذي كان يقوده بقوة النار والحديد والقسوة والبطش والإبادة الجماعية ويرعب هذا الشعب في أدق تفاصيل حياتيه اليومية والحميمة حتى في سرير الزوجية، وقد قاد صدام حسين العراق بصورة سيئة ومأساوية لامثيل لها في أي بلد آخر في العالم، وقد جلب لبلاده الخراب والدمار وزجه في حروب عبثية بلا مبرر وهاجم جيرانه وإن لم يكونوا أبرياء تماماً مما أقدم عليه من عدوان، لكنه كان بحق عنصر خطر وتهديد للسلام الإقليمي والمحلي ومصدر رعب ضد شعبه وشعوب المنطقة وحول بلده إلى جمهورية من الأيتام والأرامل. وقد أخفق حتى في مشاريعه التنموية سواء أكانت العمرانية والتحديثية التي بدأها في مطلع وصوله للسلطة سنة 1968 لكنه مسح آثارها وطمس بقاياها بسياساته العدوانية الرعناء وجنون العظمة الذي سيطر عليه، أو تلك المتعلقة بقوة العراق ومنعته. وبدلاً من تحقيق شعار الوحدة العربية الذي رفعه وتبجح به قاد سلوكه الإجرامي إلى تمزيق أوصال الأمة العربية. وبدلا من محاربة الأمريكين وعرقلة تغلغلهم في العالم العربي تسبب في وصولهم بجحافلهم المسلحة ومعداتهم الجبارة وسهل إقامتهم داخل العالم العربي لعقود طويلة ويكفي أن ننظر إلى قواعدهم العسكرية القائمة اليوم في قطر والبحرين والكويت والسعودية والعراق.


من محاسن التغيير القسري الذي حدث في العراق( لو اعتبرنا أن هناك ما هو إيجابي في هذا المشروع الحربي) أنه خفف أو ألغى نسبة هائلة من الديون الخانقة التي أورثها صدام حسين للشعب العراقي بسبب حماقاته، وأنهى الحصار المفروض عليه منذ 15 عاماً والذي لم يؤثر على النظام السابق بقدر تأثيره الكارثي على الشعب العراق وإرجاعه إلى نمط الحياة البدائية التي أنهكته وسلبته قواه وقدرته على المقاومة. بيد أن الحصيلة النهائية لهذه الحرب الأخيرة التي اندلعت في 20 آذار 2003، ماتزال سلبية إذ أنها هي التي أدخلت العراق في دائرة العنف والاقتتال الداخلي الذي اقترب من حافة الهاوية والحرب الأهلية ـ الطائفية المدمرة والفوضى الشاملة لكن حكمة بعض السياسيين وبراغماتية البعض الآخر منهم ووعي بعض الشرائح الاجتماعية الواعية جنب البلاد مغبة الوقوع في الهوة العميقة حيث اختار هؤلاء طريق الحوار والديموقراطية والاستقرار والمصالحة الوطنية ساحبين البساط من تحت أقدام المتطرفين والمتشددين المتربصين ببعضهم البعض الآخر للفتك به وإبادته. لكن الطريق لتحقيق السلام والاستقرار الكامل ليست معبدة أو مزروعة بالورود بل مليئة بالأشواك والأفخاخ والعبوات الناسفة والدماء الزكية. من المؤكد أن الديموقراطية ستنمو وتزدهر في العراق وسوف تنتصر إرادة الشعب العراقي في الحرية والاستقرار والعيش بكرامة وأمن ولكن متى سيتحقق ذلك؟.


الفريق الذي أيد الحرب للتخلص من صدام حسين يقول أن ما سيتحقق في العراق في المستقبل القريب أو المنظور هو نتيجة طبيعية لهذه الحرب. أما المناهضين للحرب فيقولون أن مبررات وذرائع تلك الحرب كاذبة ومفبركة وأن هدف الاحتلال المباشر للعراق هو إذلال شعبه والهيمنة على خيراته ونهب ثرواته وأن إيجابيات الحرب التي كانت مرجوة لاترقى إلى سلبياتها ولم يتحقق ما كان مأمولاً من هذا التغيير الاستراتيجي والتاريخي الذي حصل في العراق واندثرت إيجابيته المفترضة فالجراح مازالت مفتوحة ومؤلمة.


شنت الحرب باسم مبدأ أخلاقي نبيل هو إحلال الديموقراطية في العراق وإنهاء الحكم الديكتاتوري فيه بيد أن هذا البناء الجديد شيد على كذبة خرقت وانتهكت القواعد والقوانين والأعراف الدولية السائدة والمتبعة في القانون الدولي الذي يحكم العلاقات بين الدول. وكانت هناك هوة شاسعة بين الخطاب الأخلاقي لقادة الحرب وممارساتهم الدنيئة التي لم تخف على أحد. لهذا السبب عارضت العديد من الحكومات الأوروبية والرأي العام الغربي والعالمي سياسة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش. واستطاع المعارضون للنزعة العدوانية والحربية التي نادى بها الرئيس الأمريكي اليميني أن يقدموا للعالم صورة للغرب تختلف عن صورة غرب مهيمن ومتعجرف ومتعطش للدماء والمحتقر للشعوب الأخرى لا سيما شعوب العالمين العربي والإسلامي ودحضوا ذريعة جورج بوش بوجود صلة بين صدام حسين وهجمات الحادي عشر من أيلول 2001 والادعاء بوجود ترسانة من أسلحة التدمير الشامل العراقية يخفيها صدام حسين عن المجتمع الدولي الذي حرمها وانه سيستخدمها في أول فرصة تتاح له ضد المجتمع الدولي، والحال أن الجميع يعرفون أن العراق لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل ومع ذلك صدق البعض تلك الادعاءات الأمريكية وأيدوا قرار بوش بشن الحرب في حين أيده آخرون لأسباب ودوافع وأهداف أخرى. بينما لجأ بعض رجال السياسة والخبراء والمختصون بالشأن السياسي والعسكري والاستراتيجي إلى تفنيدات وتوضيحات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السي آي أ التي تنفي وجود صلة بين صدام حسين وبن لادن وأحداث أيلول الدامية وتنفي وجود هذا النوع من الأسلحة المحظورة أو المحرمة دولياً أي أسلحة الدمار الشامل ولم يعد ممكناً الأخذ بعين الجدية اتهامات واشنطن المماثلة ضد أية دولة أخرى من الدول التي تسميها الدول المارقة كسورية وإيران والذين باتوا يخافون من المصير الذي حل بالعراق من جراء التدخل العسكري الأمريكي فيه لأنهم صاروا يعتقدون بأنه لو كان العراق يمتلك حقاً أسلحة دمار شامل لما تجرأ أحد على ضربه ودليلهم على ذلك نمط التعامل الذي اختارته واشنطن مع كوريا الشمالية التي تمتلك السلاح النووي.


أما حجة مكافحة الإرهاب العالمي فلم تصمد هي الأخرى. لقد جاءت شهادات من أشخاص مقربين من إدارة بوش تفضح وتدين نواياها تجاه العراق حيث كان بلد الحضارات هدفاً محدداً في مرمى الإصابة الأمريكية قبل أحداث هجمات أيلول الدامية حسب ما كشفه وزير الخزانة الأمريكي السابق بول أونيل في كتابه:quot; الرواية السوداء للبيت الأبيض quot; وكذلك ما ذكره الرئيس السابق لشعبة محاربة الإرهاب في البيت الأبيض رشارد كلارك في كتابه quot; ضد جميع الأعداء: محاربة الإرهاب من داخل البيت الأبيضquot;، يضاف إليهما ما ورد في تقرير لجنة التحقيق القومية حول الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية في 16 حزيران 2004 والذي جاء فيه أنه:quot; على عكس ما جاء في تصريحات الحكومة الأمريكية لايوجد أي دليل مقنع حول تعاون ما بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة الإرهابي من أجل مهاجمة الولايات المتحدة الأمريكية بينما كانت هذه الحجة تردد بلا انقطاع في وسائل الإعلام وعلى لسان المسؤولين الأمريكيين في إدارة بوش والتي أقنعت أكثر من نصف الأمريكيين بمشروعية مهاجمة العراقquot;.


إن فقدان الرصيد الأخلاقي هو الذي لعب دوراً في إخفاق حملة محاربة الإرهاب الدولي، بل إن العكس هو الذي حدث وتفاقم الإرهاب من بغداد إلى لندن ومدريد وعمان والرياض والرباط والجزائر والباكستان وأفغانستان وغيرها من دول وعواصم الدنيا حتى أن المسؤول والرئيس السابق عن شعبة محاربة الإرهاب في البيت الأبيض ريشارد كلارك قال في كتابه المشار إليه أعلاه:quot; ربحت القاعدة على كل الصعد لاسيما بعد إعادة انتخاب جورج دبليو بوش. لقد أصبح هذا الرئيس أحد أفضل عملائها المجانيين لأنه ومنذ وصوله إلى سدة الحكم والإسلام السياسي بخير وانتعاش وفي تقدم مستمر والإرهاب يتقدم وينتشر ويتوسع إذ توفرت للقاعدة ملاذات آمنة إضافية في العراق إلى جانب أفغانستان والباكستان quot;. في حين علق أحد عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في كتابه النزعة الإمبراطورية مستنداً إلى خبرة 22 عاماً من العمل داخل الوكالة:quot; لايمكن لبن لادن أن يأمل بأفضل من غزو العراق واحتلاله لإدامة وتوسيع نشاطه الإرهابي فهذه هدية أتته جاهزة من قبل جورج بوشquot;.


ليس من حق الديموقراطيات الكذب مثلما تسمح الأنظمة الشمولية لنفسها بالكذب على شعوبها خاصة إذا أرادت تلك الديموقراطيات ممارسة مسؤوليات دولية وبالتالي يتعين عليها أن تقدم الأنموذج الأفضل والمثل الأعلى غير القابل للوم والنقد والطعن في مصداقيته أكثر مما يتوجب على دول ليس لها مطامح قيادية وطموحات عالمية. لقد دنس جورج دبليو بوش صورة بلده وأفقده رصيده الأخلاقي وسمعته الجيدة التي كانت لديه في الماضي، وهذا الحكم لم يطلقه أوروبيون معادون للعولمة أو يساريون تروتيسكيون كما تدعي الإدارة الأمريكية عادة في دحض مثل هذه الاتهامات الموجهة إليها، بل هي انتقادات صادرة من شخصيات أمريكية مهمة من أمثال جورج سوروس الذي ألف كتاباً بعنوان:quot; من أجل أمريكا وضد بوشquot; وزبجنيف بريجينسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس جيمي كارتر الذي ألف كتاباً بعنوان:quot; الاختيار الحقيقي: أمريكا وبقية العالمquot;. فالأول يعتقد أن حلم أمريكا بالهيمنة على العالم ليس فقط غير قابل للتحقيق فحسب، بل وأيضاً يتناقض مع المباديء التي تعلنها الولايات المتحدة الأمريكية وكذلك فإن هذا الحلم الإمبراطوري يعرض العالم برمته للخطر وربما لحرب عالمية ثالثةquot;. أما بريجينسكي فيعرب عن أسفه بأن جورج بوش لم يستوعب دروس العولمة ولم يتعظ بتبعاتها والتي تعني اعتماد العالم كله على جهة واحدة في كل شيء. كانت مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية ورئيسها لايمسها خدش في الماضي حتى أنه في عام 1962 عندما جاء مبعوث الرئيس الأمريكي جون كنيدي يحمل صور مواقع الصواريخ النووية السوفيتية في كوبا ليعرضها على الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول آنذاك لم يعرها هذا الأخير الاهتمام المتوقع ولم يكلف نفسه بالنظر إليها وقال للمبعوث الرئاسي الأمريكي يكفيني كلام الرئيس كنيدي كدليل على صحة المعلومة، وقد ضاعت مثل هذه الثقة الثمينة في عهد الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة أي جورج دبليو بوشquot;.


في حزيران 2004 كان دبلوماسيون وعسكريون أمريكيون من رتب عالية في الحزبين الجمهوري والديموقراطي يتحدثون عن quot; حرب مكلفة وغير محضر لها جيداً ولم تكن مدروسة بعناية وغير معروفة النتائج مسبقاًquot; واعتبرواquot; أن إدارة جورج دبليو بوش قد فشلت في مسؤولياتها الأساسية وعلى رأسها ضمان أمن المواطن الأمريكي وحماية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية والمحافظة على دور أمريكا كزعيمة للعالمquot;. بينما وصف آل غور نائب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون والمرشح الخاسر للرئاسة أمام جورج بوش، الرئيس الحالي بأنه:quot; الرئيس الأكثر خبثاً وعدم استقامة منذ ريتشارد نيكسون وتسبب بإثارة أكبر موجة غضب واستنكار وكرهية وسخط ضد بلدنا أكثر من أي رئيس سبقه خلال 228 من عمر دولتناquot;. وفي الوقت الذي دافع فيه بعض المثقفين وكتاب الافتتاحيات في الصحف والمجلات عن بوش وأدانوا نزعة كراهية ومعاداة أمريكا في العالم وبشكل غريزي أحياناً، تصدى عدد كبير من المثقفين الأمريكيين الذين لايشك أحد بوطنيتهم وإخلاصهم لبلدهم، لإبداء النقد الشديد اللهجة تجاه سياسة رئيسهم الثالث والأربعين. فإلى جانب الصعوبات الكثيرة الناجمة والمرافقة لأي احتلال أضيفت فضيحة التعذيب وسوء معاملة السجناء والمعتقلين في السجون الأمريكية في العراق كسجن أبو غريب وغيره. فكيف يمكن أن نقيم مدى تدهور وانحدار صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي وماهي كلفة الضحكة المستهترة للمجندة الأمريكية ليندي إيغلاند أمام سجناء عراقيين عراة يتعرضون للإهانات والابتزازات بالاغتصاب الجنسي والتهديدات بإطلاق الكلاب المسعورة عليهم؟ لقد غدا المسؤولون عن تجاوزات حراس السجون الأمريكية ضد السجناء العراقيين أفضل العملاء وأهم عوامل الجذب لتعبئة وتجنيد الشباب للانخراط داخل تنظيم القاعدة للانتقام من الأمريكيين وكان للصور التي نشرت في وسائل الإعلام عن تلك الحادثة وقتل الأبرياء والفتك بعائلات كاملة انتقاماً لمقتل جندي، تأثيرات وانعكاسات سلبية هائلة وبعيدة المدى تتعدى حدود العالمين العربي والإسلامي. ولن تختف تلك الصور والوثائق المصورة بهذه السهولة من أذهان الناس وذاكرتهم الجماعية وأن تلك الأحداث جاءت لتعزز فكرة معاداة الأمريكيين للمسلمين وكذلك لتدعيم أطروحة ومفهوم quot; صدام الحضاراتquot;. فالخسائر البشرية والعسكرية والمادية التي تكبدتها أمريكا ومن معها لاتعد شيئاً بالمقارنة بانحدار وتلوث سمعة أمريكا وفقدان هيبتها واحترام شعبية ومصداقية الولايات المتحدة في نظر العالم. الأطروحة الأمريكية الرسمية التي تبنتها إدارة بوش لتبرير تلك التجاوزات غير الحضارية، والقائلة أن ماحدث ما هو إلا نتاج تصرفات وأفعال افراد قلائل ومعزولين سيعاقبون عليها من قبل قياداتهم العسكرية، لم تقنع أحد ولم تصمد أمام سيل هادر من الوثائق والبراهين والصورة والأفلام ونتائج التحقيقات وما ظهر منها ليس سوى قمة جبل الجليد البادية للعيان عن تصرفات وممارسات وتجاوزات ممقوتة ومثيرة للتقزز مارسها حراس السجن ضد السجناء العزل ومنهم أبرياء لم تثبت عليهم أية تهمة. فأمريكا التي ادعت تحرير العراقيين ولو بثمن قصفهم ووضع أبنائهم في السجون والمعتقلات اللاإنسانية واعتقال الناس بصورة عشوائية ولو ممن لم يحمل السلاح ضدها وإنما شاء حظه التعس أو قدره أن يتواجد في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب.لم يختلف الجيش الأمريكي عن أي جيش احتلال آخر عبر التاريخ حتى عن جيش الاحتلال النازي، إلا بالدرجة، لكي ينزلق إلى مثل تلك الممارسات الإجرامية ويسير ضمن سياق المنطق المتلازم مع أية عملية احتلال في إقامة معسكرات اعتقال وممارسة التعذيب واستخدام القسوة والبطش والقتل العشوائي والاستهتار بالقيم والأعراف والعادات والتقاليد وخرق المواثيق والقوانين الدولية وإقامة معسكرات اعتقال غير قانونية وغير إنسانية وإن معتقل غوانتانامو ليس استثناءاً يمارس فيه في الظل والخفاء كافة أنواع التعسف وانتهاك حقوق الإنسان وخرق المواثيق الدولية. المستشار القضائي ووزير العدل لاحقاً البرتو غونزاليس أوضح للرئيس جورج دبليو بوش في مذكرة رسمية بتاريخ 25 يناير 2002:quot; بأن الحرب الجديدة ضد الإرهاب جعلت القيود القضائية والقانونية التي تفرضها اتفاقية جنيف بشأن معاملة واستجواب السجناء والمعتقلين والأسرى والتحقيق معهم لأخذ المعلومات، تعتبر لاغية ومتهالكة وغير مناسبة quot; ثم تصور البنتاغون ووزارة العدل الأمريكيتين المبرر القانوني القائل:quot; أن الرئيس الأمريكي غير ملزم بالقوانين الأمريكية والمعاهدات الدولية التي تمنع اللجوء للتعذيب في استجواب السجناء إذا كان الأمر يتعلق بحماية الأمن القومي. والحال إن استخدام العنف ضد المعتقلين ليس مجدياً وإن ما يحدث داخل المعتقلات الأمريكية هو إذكاء الحقد والكراهية وروحية الانتقام. وبمجرد خروج المعتقلين من السجون فسوف يكونون أكثر خطراً مما كانوا قبل اعتقالهم. وقد وردت أخبار موثقة أن أتباع القاعدة في السجون الأمريكيين في العراق هم الذين يملون ويفرضون قوانينهم وكيفية إدارة الحياة داخل السجون ويضطهدون المعتقلين غيرالمنتمين لتنظيمهم أو غير الملتزمين بقواعد الشريعة وغبر مطبقين للشعائر التي يفرضها الخط التكفيري حيث يقيمون الحد على باقي السجناء لأتفه الأسباب وأبسطها ويرعبونهم تحت أنظار الأمريكيين الذي لايقتربون منهم داخل المعتقلات ويكتفون بالحراسة الخارجية لبوابات المعتقل ولا يهتمون بما يجري داخل قاعات وزنزانات السجن.


أسوء ما جلبه الأمريكيون للعراق هو سياسة المحاصصة السياسية والطائفية التي خلقت بصورة آلية ومنطقية التنافسات على الزعامة بين مختلف الكتل والتشكيلات السياسية حتى داخل الطائفة الواحدة وقصص الصدامات المسلحة والتهديدات باللجوء إلى السلاح لحل النزاعات والخصومات بين القوى السياسية تزكم الأنوف فالتيار الصدري وذراعه المسلحة المسماة جيش المهدي يخوض مجابهات دائمة مع قوات بدر التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى ومع قوات الحكومة من جيش وشرطة في الكوت والبصرة والديوانية وأماكن أخرى. وعشائر الدليم تهدد باستخدام القوة ضد الحزب الإسلامي السني في الأنبار والعراق كله ساحة لكيانات سياسية وشبه عسكرية تنبعث من الصحوات والفصائل المسلحة التي تتهيأ من الآن، بعد تصفية تنظيم القاعدة، للتصدي للمد الإيراني ومن يدور في فلكه حسب تعبيرهم، وهذا تهديد مبطن لمواجهة ميليشيات شيعية مثل الجماعات الخاصة المنشقة عن جيش المهدي وعناصر بدر المحسوبة على إيران والموالية لطهران حسب اعتقاد القوى السياسية والعسكرية السنية التي لم تكتف بتشكيل المجلس السياسي للمقاومة الإسلامية بل صارت تفكر حالياً بالتخلي عن أطروحة محاربة جيش الاحتلال الأمريكي الذي تحالف معها وصار يمولها ويرفدها بالسلاح والتدريب والمعلومات الاستخباراتية مفضلة التركيز على مصالح السنة في مواجهة النفوذ الإيراني المتعاظم يوماً بعد يوم لذلك قاطع السنة زيارة الرئيس الإيراني محمد أحمدي نجاد بتشجيع من الأمريكيين كما قال أبو عزام وإسمه الحقيقي ثامر كاظم التميمي وهو قائد صحوة أبو غريب وقيادي سابق في الجيش الإسلامي، بالرغم من تحفظات أمين الجنابي أمير الجيش الإسلامي اللاجيء في سورية. وهناك هيمنة صحوة أحمد أبو ريشة وتأسيسه للحركة الوطنية للتنمية والإصلاح وهو كيان سياسي تدعمه الأردن ويحبذ الدخول في العملية السياسية ليتبوأ مكانه في المحاصصة السياسية ويرشح وزراء عنه للحكومة وهذا لايناسب الحزب الإسلامي الذي يعمل على احتكار التمثيل السني سياسياً بالتعاون مع أطراف أخرى في جبهة التوافق. وتهدديات شيخ عشائر الدليم أحمد الهايس للحزب الإسلامي وإنذاره له بالخروج من الأنبار قبل طرده بقوة السلاح باتت معروفة للجميع.والكل بانتظار انتفاض الحاضنة الاجتماعية التي تضم الصحوات بين جناحيها بسبب تجاوزات أعضاء الصحوات للقانون وفرض هيمنة غير مقبولة من قبل الأهالي الذين يعانون منها ومن جورها والكل بانتظار تدخل الحكومة لحسم الأمر ومجيء مرحلة مابعد الصحوات حيث ليس أمام الصحوات سوى خيارين لاثالث لهما فإما العودة إلى حمل السلاح ومواجهة القوات الحكومية الشرعية والقوات الأمريكية المساندة لها وإما الانخراط بالعملية السياسية ولكن بدون شروط مسبقة بانتظار تنظيم الانتخابات المحلية أو البلدية في أكتوبر 2008 لمعرفة ثقل وشعبية وتأثير كل فصيل وكل قوة من تلك القوى المسلحة وغير المسلحة سواء امتلكت ميليشيا خاصة بها أم لا. وتبقى كتائب ثورة العشرين التي تتبع أوامر حارث الضاري زعيم هيئة علماء السنة التي تصر على مواصلة قتال الأمريكيين ومقاطعة العملية السياسية لكنها في موضع حرج إزاء الصحوات التي قد تصطدم معها في وقت لاحق لأنها أقرب للقاعدة منها للصحوات، ونفس الشيء ينطبق على جيش الراشدين الذي يرفض التعاون مع الصحوات ومع الأمريكيين رغم عدائه السافر للإيرانيين وحلفاؤهم من العراقيين.فإلى أين يسير العراق في الأشهر القادمة التي ستكون بكل تأكيد أشهر حاسمة؟

د.جواد بشارة
باريس
[email protected]