ذكرنا فى الجزء السابق (5) عن احتلال بغداد من قبل السلطان التركي العثماني مراد الرابع فى سنة 1638، بعده قفل راجعا الى اسطنبول. وفى طريق عودته اتيح له الوقت الكافي فى ان يفكر فى اضطراب السكان فى العراق، فقرر ارسال ضابط عسكري شديد وهو ( درويش محمد باشا) الذى لم يكن يعرف العفو ولا الرأفة. فكان أول شيء فعله هو محاربة الخزاعل فى السماوة وقتل أكثرهم.
واستتب له الأمر وهدأت الأحوال.

تعاقب على ولاية العراق فى العصرالعثماني الثاني (الأخير) وبلغ عددهم 102 واليا حكموا 278 سنة (من 1638 الى 1917) وبمعدل أقل من 3 سنوات لكل وال. نظرا لطول الفترة وكثرة الولاة فقد رأينا الأكتفاء بذكر الولاة الذين قاموا باصلاحات تستحق الذكر او مشاريع أفادت البلد فى تلك الفترة الحالكة من تأريخ العراق، وهم 1)حسن باشا الجديد 2) أحمد بن حسن باشا 3) سليمان باشا
(ابو ليلة 4) سليمان باشا الكبير 5) داود باشا 5) مدحت باشا

حسن باشا الجديد (1704-1723) م

حسن باشا هو ابن ضابط عسكري وكان قد ترعرع فى جو اسطنبول الرسمي منذ طفولته، ولذلك قد ألف النظام الذى لم تمض برهة على ظهوره حول العرش، وهو استخدام الشراكسة الأرقاء الذين جلبوا أطفالا ثم دربوا تدريبا خاصا على نمط مراتبي ليصبحوا خداما ملكيين. وقد نقل حسن هذا النظام ال بغداد، وبذلك وضع أسس ما عرف بنظام المماليك. وانتهى الآن عهد قيام اسطنبول بتبديل مستدام للبواشية (جمع باشا) فبقيت فى بغداد مائة وثلاثين سنة فى ايدى سلسلة من الحكام مستقلة تقريبا، لا تعترف الا بولاء اسمي للعاصمة اسطنبول. وأسبغ حكم المماليك على بغداد استقرارا وازدهارا، وانقذ البلاد من تهديد فارسي متوقع جديد. ولكن هذا الحكم كان يتعثر بجموده المؤدي الى عجزه عن الانطباع للضرورات المستجدة فى العصر الحديث. فالنكبات التى صحبت سقوطه محقت ذكراه ومآثره أيضا.

أحمد بن حسن باشا (1723-1734) و (1736-1747) م

تولى أحمد الباشوية خلفا لابيه حسن باشا، وقد كان من أقدر الولاة طرا، فقد عم السلام عهده وضم الى ولايته بغداد ولايات: ماردين والموصل وكركوك والبصرة.


وتأصل نظام المماليك ببغداد أيام حكمه وأخذ الصبيان الأرقاء الشراكسة يختلفون الى المدارس وما ان يبلغون أشدهم الا يدفع بهم الى لجان اعداد الموظفين. وعظمت سطوة أحمد الشخصية فى نفس الوقت الذى استعادت بلاد فارس قوتها العسكرية وما قابلها من ضعف اسطنبول المتزايد. وامتد حكم الأفغان فى فارس الوسطى عشر سنوات. آلت القيادة العليا لقوات طهماسب الفارسي الى رجل عصامي من أهل خراسان يدعى (نادر قلي) وكانت على يديه خاتمة الأفغان فى ايران بهزيمتهم الحاسمة فى شيراز. وصرف (نادر قلي) همته الى مناهضة الجيوش التركية التى احتلت همذان وكرمنشاه فقام بهجوم بارع اضطر الترك الى اخلاء همذان وعادت الحدود القديمة بين الدولتين.


وسار نادر قلي سنة 1732م على رأس جيش الى العراق. وعبر الفرس نهر ديالى وهزموا عددا من القوات المستطلعة التى أرسلتها حامية بغداد، وأرسل الفرس قوة أخرى، وعبر الجيش دجلة فوق بغداد وحاصرها. وصل نادر قلي نفسه الى سور بغداد ونصب مدافعه، واستطاع ان يقيم جسرا على النهر. وجرت معركة شديدة فى جانب الكرخ وهزم المدافعون. وعلى ذلك أخلى أحمد باشا الكرخ فاحتلها نادر. وأخذ الجوع يعض البغداديين بنابه وهم محاصرون. ومضى الربيع وجاء الصيف وكانت النجدات التركية آتية على الطريق بقيادة اليوناني الأصل عثمان باشا الأعرج، فانهزم نادر قلي تاركا وراءه مدفعيته كلها وثلاثة آلاف أسير.
أستدعى نادر قلي القطعات من أنحاء فارس كلها وجيش جيشا عظيما على ان يثأر به هزيمته الأخيرة. وانقض نادر على الجيش التركي وأسر جميع أفراده وسقط عثمان باشا نفسه فى ميدان المعركة. وتناهت الى أسماع نادر خبر ثورة استعرت عليه وعلى الملك الصغير الذى كان نادر وصيا عليه، فعقد صلحا مع أحمد باشا، ولكن اسطنبول وبخت أحمد باشا لابرامه الصلح ونقل من بغداد الى حلب. وبعد أشهر قليلة عاد نادر وهزم القوات التركية التى كانت ارسلت لملاقاته واحتل (كرجستان) و (داغستان)، فانعطفت اسطنبول مرة أخرى الى أحمد باشا ومنتحته سلطة عسكرية عليا. قام نادر بخلع ملكه ونصب نفسه ملكا على بلاد الفرس وأطلق عليه اسم (نادر شاه).


وكان نادر سني المذهب على حين كانت بلاده على وجه العموم شيعية المذهب، فلذلك بدأ مذهبا جديدا هو المذهب الجعفري واراد ان يضم العنصر الشيعي الى حظيرة أهل السنة ويعيد توحيد الأسلام، وعقد الصلح مع الأتراك.


وفى سنة 1741 طلب من الأتراك الاعتراف بشرعية المذهب الجعفري ورفضت اسطنبول الاعتراف رفضا قطعيا. وكان جواب الشاه نادر على ذلك سريعا ودقيقا، فلقد غزا العراق بالصيف وعرض أحمد باشا الصلح بشرط ان يسلم العراق برمته الى الشاه، ولكنه ماطل مع ضباط الشاه فى الربيع الى ان آن أوان الحصاد ثم رفض ما عرض عليه الفرس رفضا باتا واستعدت بغداد للدفاع مرة أخرى. واتجه نادر بادىء ذي بدء نحو الصقع الشمالي فاستولى سريعا على كركوك واربيل وحاصر الموصل ولكنه أخفق فى احتلالها. على ان قضية الدين ما زالت همه الشاغل، وبدأ محادثات مستمرة دامت زهاء سنتين، ولكنه خاب فى جعل المذهب الجعفري فى صف المذاهب السنية الأربعة. وختمت حياة نادر شاه فى السنة التالية باغتياله وقتله، وبعد ثمانية أسابيع مات والي بغداد أحمد باشا وهو فى حملة على الاكراد، وجيىء بجثمانه الى بغداد باحتفال مهيب ودفن فى (المعظم)، وكان قد حكم أربعا وعشرين سنة.

سليمان باشا (أبو ليلة) 1748-1761 م

كان سليمان من الأرقاء الكرج الذين ابتاعوهم وهم صبيان لم يبلغوا أشدهم بعد. وقد مثلت منه فى عنفوان العمر مواهب عسكرية رائعة، فأعتقه سيده أحمد باشا جزاء له على خدمة شخصية، ثم زوجه ابنته عادلة. ولما مات أحمد باشا فجأة كما أسلفنا، لم يخلفه سليمان كما كان البغداديون يتوقعون ويرجون لأنه استطاع ان ينقذهم من سلب أبناء العشائر لهم، فقد اسندت اسطنبول الولاية الى الحاج أحمد باشا، الذى استقبلته جماعة من المماليك. وكان رؤساء العشائر، جريا على العادة، يتحينون الفرص، فكانت النتيجة قيام ثورة ونشب العراك فى شوارع بغداد ودخل الناس السراي ونهبوا ما فيه، فاضطر الباشا الى الهرب فعزله المماليك وخضعت بغداد لحكمهم.


وحصلت حوادث كثيرة يطول شرحها، الى ان استقر الحكم لسليمان باشا (أبو ليلة) وفرح بذلك البغداديون، ولم يخالف أحدا رأيه ببغداد لمدة اثنتي عشرة سنة خلت من الهزاهز والفتن.

وبلغ نفوذ كلمة المماليك فى ولاية سليمان القمة. وكان سيل الأرقاء البيض ينحدرون على بغداد من تفليس ماله من انقطاع، واسست مدرسة لمائتي صبي منهم ليصبحوا منشأ منظما لضباط مدربين وموظفين، مثلهم الأعلى خدمة سيدهم وطبقتهم المماليك. وكانت أبواب العمل مفتوحة للصبي الكرجي البارع من يوم تركه للمدرسة الى أن يصبح ضابطا فى حاشية الباشا.

بداية النفوذ البريطاني
تأسست فى عهد أبو ليلة وكالة تجارية بريطانية ببغداد سنة 1755 وكانت فرعا من شركة الهند الشرقية فى البصرة، ورأسها أرمني، وبعد عشر سنوات استبدل الأرمني بانكليزي، وهكذا دخل العنصر الانكليزي فى حياة بغداد وأصبح له مقام فائق. ومات أبو ليلة فى أيار/مايو 1762.

سليمان باشا الكبير 1780-1802 م

بعد سليمان باشا (أبو ليلة) حكم العراق 7 بواشي (باشوات) وكانت فترة اضطرابات وفتن حتى برز المملوك سليمان الذى خدم فى معية بواشية بغداد منذ صباه. كان قد سجن فى فارس بعد احتلال الفرس للبصرة، وكان قد أبلى بلاء حسنا فى الدفاع عن البصرة، وبعد ان اطلق من السجن، عاد ليتسلم مقاليد الأمور فى الميناء. بدأ اتصالاته باسطنبول للحصول على ولايات بغداد والبصرة وشهرزور، وتوسط له فى ذلك الوكيل البريطاني فى البصرة، وكان طلبه مدعوما بأفخر الهدايا، وحصل على ما يريد.

وعند شخوصه شمال بغداد استقبله خارجها الضابط العسكري الحاكم (اسماعيل) وألقى بين يديه خطابا ترحيبيا أسهب فيه، ولكن سليمان باشا أمر بقتله فى الحال. وما ان حلت سنة 1780 الا
استتب السلم فى البلد مرة أخرى. دامت ولاية سلمان باشا الكبير اثنين وعشرين سنة مع انه كان فى الستين من عمره لما ولي الحكم، ولقد مكنه ضعف الدولة العثمانية من الاستقلال الفعلي التام، دون الاسمي. وأعاد حكمه السمح العادل الطمأنينة والرضا الى أهل بغداد، وشيئا من رخاء العيش.


وغشيت أيام سليمان باشا الأخيرة سحابة داكنة، فقد دهم الطاعون الناس بعنف، واصابت الولاية ضربة عدو جديد غير متوقع.

غزو الوهابيين لكربلاء
فى ولاية أحمد باشا الكبير الأولى (1723-1734)م جاء الى بغداد شاب من نجد يدعى (محمد بن عبد الوهاب) فى طلب علم الدين. ثم عاد الى موطنه يبشر الناس بعقيدة تنامت رويدا رويدا فى ذهنه.
انها عقيدة فطرية وعودة الى عقائد الاسلام الأصلية وطرزه الأول، وأعلنها حربا شديدة على الأصنام وتقديس الأولياء. واستطاع الحصول على عون من شيخ نجدي يدعى (محمد بن سعود) ثم تزوج ابنته فيما بعد. وهكذا استندت قوة الوهابيين الى سندين: دنيوي وروحي، وما أسرع ما جاس خلال الأسواق فى جنوبي العراق الدعاة الذين يرون عقائد الحضر من أهل السنة والشيعة معا شبه كفر، ولكنهم أخفقوا فى التغلغل بين صفوف أهل العراق، ولذا أصبحت لهم غارات تترى على عشائر جنوبي العراق.

فى ربيع 1801 وردت الأنباء الى بغداد بأن الوهابيين زحفوا صعدا نحو شط الفرات. وفى مساء أحد الأيام من نيسان 1802 بينما كان أهل كربلاء خارجين الى زيارة النجف، ظهر الوهابيون خارج المدينة واستطاعوا ان يخترقوا تحصينات المدينة الواهنة وغنم جميع ما كان فى مشهد الحسين من الذهب والفضة والجوهر والسجاجيد التى لا تقدر بثمن لنفاستها، وتلك هى مجموع نذور الشيعة الموسرين فى عدة قرون، ومن حالوا دون ذلك، وهم قلة من أهل كربلاء، قتلوا بفظاعة حتى داخل المشهد المقدس ثم تركوا المدينة بعد نهبها واحراقها.


وقال أمين بن حسن الحلواني فى (مختصر مطالع السعود) فى حوادث 1216هجرية (1802م): وفيها غزا سعود بن عبد العزيز الوهابي العراق وحاصر كربلاء وأخذها بالسيف عنوة وغنم جميع ما كان فى مشهد الحسين من الذهب والجوهر التى أهدتها الملوك وشيعة الهند الى ذلك المكان المقدس وقتل أهلها قتلا ذريعا واستباحها ونهب من المال ما لا يتصوره العقل، وبه تقوى واستعد لتملك الحرمين.


وفى آب /اغسطس من نفس السنة 1802 مات سليمان الكبير.

وبهذا ينتهى الجزء السادس الذى أعتذرللقراء الأعزاء على تأخيره، ويليه الجزء السابع حول داود باشا ومدحت باشا والاحتلال البريطاني للعراق سنة 1917م.

الجزء الخامس


عاطف العزي

كندا