أندلس الأكراد!!
يتحدث الكثيرون من القادة الكرد خلال هذه الفترة عن وجود ثلاث خلافات أساسية مع الحكومة العراقية. وتتمحور تلك الخلافات، حول المادة 140 من الدستور العراقي المتعلقة بتطبيع أوضاع كركوك وإنهاء سياسة التطهير العرقي التي مارسها النظام الدكتاتوري السابق ضد كركوك فشوه بها واقعها الديموغرافي،والخلاف حول العقود النفطية التي وقعتها حكومة إقليم كردستان مع عدد من الشركات الأجنبية للإستثمار النفطي في الإقليم، وخلاف حول البيشمركة وأوضاعها المستقبلية..
ويتمسك القادة الكرد بحقهم الدستوري الذي حدد معالجات لهذه الخلافات، ولكن الحكومة العراقية ترفض الإلتزام بتلك الحقوق، وتفسر النصوص الدستورية التي يعتبرها الأكراد ضمانة لهم على غير هوى القيادات الكردية، ولذلك فقد إستمرت هذه الخلافات الى يومنا هذا من دون أية حلول معقولة.
سأحاول من خلال ثلاث مقالات أكرسها تباعا للحديث عن الخلافات الثلاثة، أن أوضح قناعاتي الشخصية حول تلك الخلافات التي أعتقد أنها لا تستحق كل هذا الإهتمام والإصرار، وأعتبرها قنبلة موقوتة ستنفجر في لحظة من اللحظات إذا لم يتدارك الطرفان حلولا منطقية لها، وأعتقد أن الإصرار على الإبقاء على تلك الخلافات من دون حلول لها، إنما يهدف الى تحقيق غايات إنتخابية ليس إلا ؟!.
فلو أخذنا مسألة المادة 140 المتعلقة بالخلاف حول كركوك، وهو الخلاف الذي سأكرس له هذا المقال، فأنا أعتقد أن هذه المسألة أستخدمت بشكل جلي وواضح كورقة إنتخابية خلال السنوات الماضية.
وأستذكر بهذه المناسبة قولا لأحد أقربائي وهو رجل أمي أعتقد أنني أشرت اليه في إحدى مقالاتي ردا على سؤال سألته، عندما أبدى تذمره وغضبه على القيادة الكردية بسبب الأزمات المعيشية المستفحلة في كردستان خلال السنوات المنصرمة،وسألتهquot; إذا كنت غير راض عن هذه الحكومة، فلماذا صوتت لها في الإنتخابات البرلمانيةquot;؟. فأجابني قائلا quot; ماذا أفعل،لقد خوفونا حد الرعب، قالوا في دعاياتهم الإنتخابية، إذا لم تنتخبونا للبرلمان فإن كركوك سيضيع منا، وأن العرب سيركبوننا quot; ؟!.
وقد صدق هذا القريب، فقد كانت الدعايات الإنتخابية للحزبين تتركز بشكل أساسي على قضية كركوك،ورفعت آلاف الشعارات حولها،وكان الحزبان الكرديان يعزفان بإستمرار على الوتر القومي، وإعتبار مسألة كركوك مسألة مصيرية تتعلق بمستقبل الكيان الكردي برمته، وهو كذلك، ولكن ليس الى هذا المستوى، خصوصا في الوضع العراقي الراهن المتحول نحو الديمقراطية ودولة المؤسسات.
ورغم نجاح القيادة الكردية في إدراج هذه القضية الشائكة في قانون إدارة الدولة العراقية تحت البند 58، ومن ثم تعزيزها بالإدراج في الدستور العراقي تحت المادة 140، ولكن أي تقدم بإتجاه تنفيذ هذه المادة الدستورية لم يحرز، وبقيت المادة مجرد حبر على الورق، على رغم إدعاءات القيادة الكردية بأنها تشكل مسألة مصيرية؟!..
لقد كانت مشكلة كركوك العقدة الأكثر إستعصاءا على الحل بين قيادات الثورات الكردية مع جميع الحكومات العراقية المتعاقبة منذ إكتشاف منابع النفط فيها.
ولو سلمنا بحق الحكومات العراقية بمعارضتها تسليم هذه المحافظة الى الأكراد بسبب الثروات النفطية الهائلة التي تحتويها والتي تعتبر الشريان الأبهر للإقتصاد العراقي، وهي التي وفرت وتوفر الجزء الأكبر من قوت الشعب العراقي، لا بد أن نعترف بالمقابل بالحق الكردي فيها، خصوصا وأن الأكراد كانوا ينظرون الى تلك الثروات بإعتبارها المغذية للآلة الحربية لجميع الحكومات العراقية التي قاتلت الشعب الكردي وثوراته التحررية.
ومكمن الخلاف الأساسي في القضية ليس سياسيا حسب إعتقادي، بقدر ما هو خلاف إقتصادي إذا جاز التعبير، فما يغري الأكراد في هذه المدينة، هي ثرواتها النفطية، خصوصا وأن الدستور العراقي يجيز لسلطات الأقاليم أن تستفيد من الجزء الأكبر من مواردها المحلية للتنمية والإعمار والبناء، وهنا يتبدى بوضوح الإصرار الكردي على إلحاق المحافظة بإقليم كردستان.
ولا ينكر أحد الحق الكردي في المحافظة،فالوجود الكردي فيها تاريخيا وجغرافيا لا يمكن إنكاره مهما حاولت الحكومات أو الأحزاب والقوى السياسية ذلك، ومن هنا فأنا أعتقد أن الشعب الكردي ليس بحاجة الى تزوير أية وثائق لإثبات الهوية الكردستانية لكركوك، ولا الى إرسال مئات الألوف من غير أبنائها من مناطق أخرى الى المدينة لتغيير التركيبة السكانية فيها لأسباب إنتخابية.
وكانت كركوك سببا في فشل الكثير من الإتفاقات بين قيادات الثورة الكردية والحكومات العراقية، إبتداءا من إتفاقية 11 آذار عام 1970 مرورا بمفاوضات الإتحاد الوطني الكردستاني مع الحكومة العراقية عام 1984، وصولا الى مفاوضات الجبهة الكردستانية مع النظام السابق عام 1991. كانت كركوك العقبة الكأداء أمام نجاح كل تلك الجولات التفاوضية لعدم إستعداد القيادات الكردية بالتنازل عن الحق الكردي فيها.
وهناك قول مأثور عن طارق عزيز نائب رئيس الوزراء الأسبق الذي قال في مناسبة ماquot; أن للكرد حقا واحدا في كركوك، وهو البكاء عليها عند مرورهم بها مثلما يبكي العرب على الأندلسquot;. ويقصد بذلك ضياع الأندلس من يد العرب؟!.
لقد إنتعشت آمال الشعب الكردي بعد سقوط النظام السابق بإعادة الحق الكردي في كركوك، ولا جدال في أن لأكراد المحافظة حقوقا مسلوبة صادرها النظام السابق، سواء بطرد وتهجير مئات الألوف من سكانها الكرد الأصليين وإسكان العرب في أماكنهم، أو الإستيلاء على الأراضي الزراعية حول المدينة، فهذا الحق يجب أن يكون معترفا به لدى الجميع، فما ضاع حق ورائه مطالب. ولكني أعتقد أن إستعادة الحق المشروع لأي كان، يجب أن لا يكون على حساب الآخرين، فهذه المدينة لا تضم الأكراد وحدهم حتى يقرروا مصيره كيفما شاؤوا مثل بقية المدن والمحافظات الكردية في إقليم كردستان، فهناك التركمان والعرب والآشوريين وغيرهم، ويجب ضمان حقوق جميع الأطراف عند البحث عن الحلول المناسبة للمشكلة، ولكن للأسف فإن أداء القيادة الكردية في هذه المسألة كان أداءا سيئا للغاية، على الأقل لحد هذا اليوم.
فالتركمان يقاطعون مجلس إدارة المحافظة منذ أكثر من سنة بسبب ما يصفونه بالهيمنة الكردية على مقاديرالسلطة في المحافظة، والعرب مهمشون الى حد ما، إضافة الى إتهامهم بالإنتماء للنظام السابق في بعض الأحيان على خلفية الصراع القومي، والصوت الآشوري يكاد يكون معدوما من الخفوت، وبالمقابل هناك إستحواذ فعلي للسلطة في المحافظة من قبل الأكراد.
سبق أن تحدثت مع قيادات كردية بارزة في لقاءات متعددة متسائلا عن سبب عدم إعطاء منصب محافظ المدينة الى شخص تركماني طالما أن مجلس الإدارة هو بيد الأغلبية الكردية؟!.وكان الكثيرين ممن أوجه لهم هذا السؤال من تلك القيادات يؤيدونني في الطرح، ولكن في قرارة أنفسهم يضمرون أمرا آخر أحسست به مرارا وإن أخفيته عليهم وهوquot; اللعب بهذه الورقة- كركوك- كورقة إنتخابية الى مدياتها القصوىquot; ؟!.
ولو أخذنا ببعض الحقائق التاريخية، فأنا على حد علمي وكما تناهى الى سمعي، أن نتيجة الإحصاء السكاني الذي أجري عام 1957اظهر، أن الأغلبية داخل مدينة كركوك كانت تركمانية، رغم أن الأغلبية على مستوى اللواء( المحافظة) حينذاك، كانت كردية، بمعنى الأطراف من الأقضية والنواحي. ولو سلمنا بهذه الحقيقة المجردة، فمن الحري القول، بأن إدارة المدينة هي من حق التركمان، وأن إدارة المحافظة هي من حق الأكراد، وأعتقد أنه في حال وجود نوايا خالصة بين الأكراد والتركمان، فمن الممكن حل بعض الإشكالات على مستوى الإدارة، بالإتفاق على إعطاء منصب المحافظ للتركمان، مقابل إعطاء صلاحيات أكبر الى مجلس إدارة المحافظة الذي يشكل الأكراد أغلبية فيه..
في الختام أود أن أشير الى أن القيادة الكردية بين عامي 1970-1974 كانت في أوج قوتها العسكرية والجماهيرية، يكفي أنها إستطاعت عند إستئناف القتال مع الحكومة العراقية في 11 آذار من عام 1974 أن تجند أكثر من 300 ألف مقاتل من البيشمركة لمواجهة قوات الحكومة، وكانت تحظى بدعم كامل من شاه إيران ومن الولايات المتحدة في بدايات القتال، واليوم تتمتع هذه القيادة بأوج قوتها السياسية على صعيد العراق ومؤسساته الحكومية والدستورية، فإذا عجزت في عام 1974 بمثل تلك القوة العسكرية الهائلة أن تستعيد كركوك من قبضة الحكومة، وهي تعجز الآن أيضا في أوج قوتها السياسية عن تنفيذ المادة 140 من الدستور، فمن باب أولى بها أن تكف عن دغدغة مشاعر الجماهير الكردية، وأن تتوقف عن إستخدام هذه المسألة كورقة إنتخابية، وأن ترضح للأمر الواقع بالقبول بتأجيل مسألة التنفيذ الى عشر سنوات أخرى على سبيل المثال، لا القبول بتمديدات كل ستة أشهر متتالية، فأنا أعتقد بأن دغدغة المشاعر بتصريحات عنترية لا تقدم ولا تؤخر من القضية شيئا، ومن باب أولى بمن يريد أن يبني بناءا في كركوك، أن يشرك الجميع في عملية إعادة البناء، وإلا فإن تعقيدات المشكلة داخليا وخارجيا لن تبقي لنا سوى البكاء على أندلسنا الضائع ؟؟!
شيرزاد شيخاني
التعليقات