أزعم أن كل المثقفين التنويريين ممن هم فوق الستين من العمر في مصر والعالم العربي اليوم، يعرفون الراحل محمود أمن العالم.. ليس بصراخه ولا بتشنجاته ولا بظهوره المتألق المتتالي علي الفضائيات، وإنما بمواقفه السياسية والثقافية الرصينة وبآرائه المؤسسة علي الرؤية الموضوعية العميقة وباختلافه الحضاري المعتدل مع الآخر.. بل بمعارضته الموضوعية لأكبر رموز مصر السياسية والثقافية..


زعمي قائم علي فرضية أن كل واحد من تفتحت عقولهم وأبصارهم أواخر خمسينات القرن الماضي وما بعدها، من مثقفين ومناضلين وساعين للإصلاح والتغيير.. لابد أنه تعرف عليه أو قرأ له أو أعجب بمواقفه النضالية حيال السلطة خاصة البداية التي أبانت عن موقف مبدئي من النظام السياسي الثوري في مصر بعد عام 52 حين رفض هو آخرون تأجيل أو التسويف في تطبيق النهج الديموقراطى في الحكم.. وأي كانت الأسباب التحليلية أو الجدلية التي سيقت للتفسير والتي ترجعها لخلفياته اليسارية، إلا أن موقفه عام 54 اتسم بالنضالية الوطنية التي فتحت له أبواب المعتقل..


في تلك الأيام تعرفت عليه الساحة الثقافية من زاوية أخري علي نفس القدر من الوزن وعمق التأثير واعني هنا مقالاته التى سطرها مع عبد العظيم رمضان حول الثقافة المصري وتأثيراتها وتوجهاتها والتى دفعت العميد طه حسين لأن يبادلهما رؤية برؤية وموقفاً بموقف.. لكن ما لفت نظر المهتمون بالشأن الثقافي المصري والعربي هو بداية موجة جديدة من النقد الأدبي وصفت فيما بعد بأنها كانت لبنة أساسية في جدارية الاتجاه الواقعي في النقد الأدبي التي أصل لها كثيرون كان علي رأسهم جابر عصفور..


ثم جاء موقف محمود العالم السياسي الثاني الرافض لسياسات الحكم المصري الثوري، عندما انتقد بشدة مؤسسة علي رؤية موضوعية ndash; وهو داخل المعتقل - خطوات الوحدة مع الإقليم السوري عام 58 لافتقادها في رأيه ورأي آخرين الشروط المؤهلة للتحقق ولقوة التأثير ولتداعيات الاستمرار والبقاء..


وعرفه المجتمع المصري والعربي متصالحاً مع نفسه عندما وافق بشجاعة عام 65 علي حل الحزب الشيوعي المصري، لكن معركته تلك المرة دارت رحاها مع الرفاق والكوادر والأجيال التالية من أصحاب الفكر اليساري ممن رأوا أن quot; العالم وجيله باعوا القضية من أجل حفنة مناصب quot;..


الجدير بالتسجيل هنا أن العالم رغم تبوئه العديد من المناصب علي مستوى الحزب الناصري الواحد ( الاتحاد الاشتراكي ) وما قيل عن مسئوليته حيال قيام تنظيمه الطليعي.. وعلي المستوي الثقافي والإعلامي رئيساً لهيئة الكتاب مرة ولمؤسسة أخبار اليوم مرة ولهيئة المسرح مرة، إلا انه لم يتوقف عن نقد ما يراه غير صائب ضمن إطار سياسات حكم الزعيم جمال عبد الناصر..


بانت صلابة العالم مع بداية حكم الرئيس أنور السادات حيث دخل في صدام صريح وواضح ومباشر معه من داخل مؤسسات الاتحاد الاشتراكي في إطار عضويته للجنة المركزية وأمانة التنظيم الطليعي، ودخل المعتقل مرة ثانية ضمن من أطلق عليهم في حينه quot; مراكز القوي quot;..


عاش محمود العالم في فرنسا بعد خروجه من المعتقل محاضراً في عدد من جامعاتها ومساهماً مع فليسوفها الكبير جاك بيرك في تدعيم نظرية النقد الواقعي الجدلي للأدب، ومشاركاً بفاعليه في إصدار مجلة اليسار العربي الشهرية التي حددت لنفسها مسار الدفاع عن الديموقرطية والتحرر السياسي وترسيخ الجانب الإنساني للسياسات الاقتصادية.. ولما بدأ الرئيس أنور السادات مساعيه لعقد صلح مع إسرائيل، انضم العالم مع غيره من المثقفين والتنويريين إلي الجبهة الوطنية المصرية المناهضة quot; للسلام المشبوه quot; وكان جزاؤه مثله غيره أيضا الحرمان من الحقوق الدنية والسياسية مما اضطره إلي البقاء خارج الوطن حتى عام 84..


عاد محمود أمين العالم إلي مصر شيخاً جليلاً يتمتع بحيوية الشباب.. ونجح في إصدار دوريته الشهيرة قضايا فكرية ( صدر منها 21 عدد ) وأختير مقررا للجنة الفلسفة في المجلس الأعلى للثقافة وحصل عام 98 علي جائزة الدولة التقديرية.. وظل رغم تراكم المرض مناضلاً من أجل الحق والحرية، لكن تكالب معاناته خاصة بعد وفاته رفيقة عمره ( من ثلاث سنوات تقريباً ) منعه في السنوات الأخيرة مما كان يحرص علي المشاركة فيه بقوة وعزيمة..

الدكتور حسن عبد ربه المصري
bull;استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا

[email protected]