كنت فى سن المراهقة عندما خرجت مع صديق لى للتفرج على مواكب العزاء الحسينية، التى يقيمها الشيعة فى كل عام خلال العشرة الأولى من شهر محرم (عاشوراء). واجتزنا الجسر الذى يربط بين الأعظمية والكاظمية شمال بغداد. وكانت تلك هى المرة الأولى التى أشاهد فيها من يضربون ظهورهم المكشوفة بالسلاسل. وشاهدت بعضهم تسيل الدماء من ظهورهم. تبعهم (موكب) الضاربين بالقامات (سيوف مستقيمة عريضة)، وهم يضربون رؤوسهم بها، وتسيل دماؤوهم على الأكفان البيضاء التى يرتدونها

ثم رأيت منظرا اقشعر له جسمى، وسقط رفيقى على ركبتيه وقد اصفر لونه وهو يشير الى رجل مكفن يحمل طفلا لا يزيد عمره عن أربع سنوات وقد جز شعر رأسه والرجل يضربه بسكين على رأسه والدم يسيل من رأس الطفل على كفنه الأبيض وقد علا صراخه ولا من يغيثه من ظلم وحماقة أبيه السفاح. لقد كان منظرا مرعبا وشعرت بالغثيان، فساعدت صديقى على النهوض وعدنا من نفس الطريق، تلاحقنا أصوات الدمامات (الطبول) التى كان يدق عليها بعض المشاركين فى الموكب.

مرت سنين طويلة على هذا المشهد الأليم، ولا تزال تعاودني فيها ذكراه كلما تحل سنة هجرية جديدة.

من هم هؤلاء الذين يمارسون هذه الطقوس البشعة؟ يقولون أنما هم يفعلونه من أجل الامام الحسين سيد الشهداء، وأنا واثق أنه لو كان هؤلاء اللطامين أحياء فى موقعة (الطف) التى قتل فيها سبط الرسول وعائلته، لكانوا ndash;لشدة جهلهم- فى صف القتلة الذين هم من اسافل الناس الهمج الرعاع، الذين انهالوا على الامام الحسين بسيوفهم ورماحهم ضربا وطعنا، وسلبوه مما كان عليه من ملابس وسلاح. ألم يسمع هؤلاء الجهلة اللطامون بما قاله سيد الشهداء لشقيقته زينب الكبرى وهو يتهيأ للمعركة التى كان يدرك جيدا نهايتها : (يا أختاه، اذا ما قتلت فلا تشقى علي جيبا ولا تخمشى خدا.) فاذا كنتم تحبوه فلماذا تعصوه؟

أتتاجرون بمأساة الحسين بن علي حفيد محمد المصطفى وابن علي المرتضى وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وعمه جعفر الطيار؟

فى السنة الماضية شاهدت مثل هذا المنظر أيضا، ولكن من على شاشة التلفزيون. وعلى مسافة أمتار من مجموعة الضاربين أنفسهم بالسيوف والسلاسل، شاهدت السيد عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الاسلامي الأعلى يرتدى كامل ملابسه الدينية وقد أضاف اليها قماشا أخضر يحيط بصدره ومنكبيه، وكان ينظر الى (الموكب) وهو يربت بتؤدة على صدره.

يعرف الشيعة جيدا أن علماءهم الكبار لا يرتضون هذه الأعمال التى تتعارض مع الدين والانسانية والأخلاق والحضارة، ولا يقوم بها الا الجهلاء والمعتوهين. ويتساءل المرء : مالذى دعا السيد الحكيم الى الانضمام الى اللطامين؟ هل أنه يشجعهم على هذا العمل المنكر؟
والجواب واضح كل الوضوح، انها السياسة اللعينة التى تفسد الدين وتفسد علمائه. انه الحب الجنوني لكرسي الحكم، انه الاندفاع الأعمى وراء المنافع الشخصية، انه داء قديم قدم التأريخ نفسه..


وتكررت هذه المأساة هذا العام أيضا، وناب عن السيد عبد العزيز الحكيم ابنه وولي عهده السيد عمار الحكيم فى الرد على السيد حسين الشامي القيادي فى حزب الدعوة الاسلامية بزعامة السيد نورى المالكي، الذى قال بأن الطقوس والشعائر التى يمارسها الشيعة فى عاشوراء فى ذكرى مقتل الأمام الحسين بن علي هي من البدع وقد جاءت من الفرس والترك وغيرهم من الأقوام. (ذكرت بعض الصحف فيما بعد أن حزب الدعوة الاسلامية قد أنكر ما ذكره السيد الشامي من أنه لايؤيد الشعائر الحسينية )!

وللحصول على كسب الأصوات فى الانتخابات فى آ خرهذا الشهر، فقد انبرى ولي العهد السيد
عمار يدافع عن quot;الشعائر الحسينيةquot; في عاشوراء، واصفا إياها بأنها quot;ركيزة مهمة من ركائز الإسلامquot; (كذا؟). وقال أمام حشد من مسؤولي المواكب الحسينية قدموا من محافظات عراقية عديدة واجتمعوا في كربلاء quot; إن quot;الشعائر الحسينية مشروع صمم له أهل بيت النبي محمدquot;. وأوضح الحكيم أن quot;ممارسة الشعائر الحسينية ليست بدعة أو ابتكارا أو مزاجا كما يصفها البعضquot; مشيرا إلى أن quot;بعض الروايات التاريخية دلت على ضرورة الالتزام بالشعائر الحسينية في عاشوراءquot;. ورفض عمار الحكيم الانتقادات التي وجهها مستشار المالكي للشعائر الحسينية مشيرا إلى أن quot;كل ممارسات عاشوراء يطلق عليها quot;الشعائر الحسينيةquot; بإجماع المراجع والفقهاء.

بربكم : هل هذا كلام رجل دين من المنتظر أن يرأس المجلس الاسلامي الأعلى (بعد عمر طويل)؟ أتمنى أن لا يكون هذا صحيحا والا كيف يقول عن quot;الشعائر الحسينيةquot; بأنها ركيزة مهمة من ركائز الاسلام؟ هل يجد أحد لها ذكرا فى كتاب الله أو فى سنة رسوله أو قال بها أئمة الشيعة الأطهار؟ ثم يقول ولي العهد: ان الشعائر الحسينية (مشروع صمم له أهل بيت النبي محمد). ولم يذكر أسماء (المصممين) من آل الرسول. أما ما نقله عما وصفه ب(بعض الروايات التأريخية دلت على ضرورة الالتزام بالشعائر الحسينية.) فانه أيضا لم يذكرأسماء تلك الروايات ولا أبطالها. ثم يراوغ فيقول بأن كل ممارسات عاشوراء يطلق عليها quot;الشعائر الحسينيةquot; باجماع المراجع والفقهاءquot;، وألفت نظر القارىء الكريم الى كلمة (يطلق) فانه استعملها للتمويه فيظن القارىء أو السامع ان المراجع والفقهاء (يوافقون على هذه الشعائر)، وهو يعرف جيدا أن ذلك غير صحيح بالمرة، وان كان هناك موافقون فهم قلة قليلة يقولونها خوفا أو على استحياء. ماذا يعتبر السيد عمار الشخص الذى يجرح نفسه اثناء هذه الشعائر ثم يؤدي جرحه الى موته؟ هل سيدخل الجنة على أنه استشهد بقتل نفسه؟ الآية الكريمة 32 من سورة المائدة جاء فيها ( من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)، وهذا يدل بوضوح على تحريم الانتحار.


انى أتساءل فقط كما يتساءل معى الكثيرون لماذا لم نشاهد أحدا من العلماء الأبرار مثل السيد عبد العزيز الحكيم وولي عهده عمار الحكيم، يشجون رؤوسهم بالقامات ويضربون ظهورهم بالسلاسل، ونراهم يقفون مع المتفرجين فقط؟

الانتخاب على الأبواب والسيد عمار الحكيم (وهنا بيت القصيد) يؤكد على أن الشارع العراقي مازال على رأيه فى انتخاب قائمته، ولكنه لم يقل شيئا عن نوعية من سيصوتون له ولقائمته. واذا كان منتخبوه من نوعية اللطامين، فهم كثر، ونزف له التهاني بالنجاح سلفا.
أكرر ما قلته سابقا، بضرورة فصل الدين عن السياسة، والا فسنبقى نراوح فى أماكننا، وغيرنا يسابق الزمن.


عاطف العزي