عند اقتراب موعد أي انتخابات في تركيا، تلجأ الأحزاب السياسية فيها إلى عادة رائجة بتغيير برنامجها السياسي مؤقتاً للتأقلم مع متطلبات القطاعات الكبيرة والمتغيرة من الناخبين، وسرعان ما تعود هذه الأحزاب بعد الانتخابات إلى برامجها وسياساتها القديمة حتى موعد انتخابات أخرى. ضمن هذا الإطار، برز في الأفق السياسي التركي مؤخراً ثلاث قضايا تعتبر من المفارقات إذا نظرنا إلى التيارات السياسية التي تدعي تبنيها لها.


القضية الأولى هو تغيير حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض موقفه التاريخي من قضية الحجاب عندما تم قبول أول مجموعة من الفتيات المحجبات في الحزب. هذه المفارقة يمكن فهمها بوضعها في سياق الاستعداد للانتخابات البلدية التي ستجري في نهاية آذار 2009، حيث يراهن دنيز بايكال زعيم الحزب على الأصوات التي ستبحث عن بديل لحزب العدالة والتنمية الذي سيواجه صعوبة كبيرة في الحفاظ على قاعدته الانتخابية حسب الاستطلاعات الأخيرة، وبالتالي دفعت شهية الحصول على هذه الأصوات المرتقبة دنيز بايكال إلى الحرص للحضور شخصياً إجراءات قبول عضوية أول فتاة محجبة في صفوف الحزب. هذه الكتلة الانتخابية المتنامية والمرتدة عن تأييد حزب العدالة والتنمية - لفشله في تمرير قانون رفع الحظر عن الحجاب إضافة تحوله إلى حزب للدولة- ستنجذب إلى هذا التحول وبالتالي يقلص حزب الشعب الجمهوري فرص حزب الحركة القومية في الاستحواذ على هذه الأصوات باعتبار الأخير له مواقف مرنة في مقاربته لهذه المسألة تاريخياً، بل إن الكثير من المتديننن الأتراك يشكلون قاعدة اجتماعية عريضة لحزب الحركة القومية في أيديولوجيا قومية متطرفة ومتصالحة في نفس الوقت مع الإسلام. هذه الخطوة تعتبر رداً على استحواذ حزب العدالة والتنمية على جزء من القاعدة الجماهيرية لحزب الشعب في المناطق الغربية لتركيا من منطلق سياسات الانفتاح الاقتصادي وتقليص سلطة العسكر على الحياة السياسية.


عموما انتقد أنصار العلمانية هذه الخطوة، ووصفت نجلاء آرات، النائبة عن حزب الشعب الجمهوري في البرلمان، الأمر بقولها أن ذلك يشكل تراجعاً عن تراث حزب الشعب (لم تستخدم النائبة كلمة خيانة) واتهمت بايكال انه وقع تحت تأثير الليبراليين. أما الكاتبة العلمانية توفان تورنج فذكّرت من يهمهم الأمر أن حزب الشعب الجمهوري هو حزب اتاتورك وليس دنيز بايكال (الزعيم الحالي للحزب).


القضية الثانية التي تدخل في المفارقات النوعية التي تشهدها الساحة السياسية التركية هو إعلان حزب الحركة القومية الذي يتزعمه دولت باهجلي عن نيته تقديم مشروع لحل مشكلة العلويين الأتراك الذي يتراوح عددهم بين 20 و 25 مليوناً، بعد الاحتجاج الضخم الذي نظمه العلويون الأتراك في اسطنبول في شهر نوفمبر الماضي وشارك فيه أكثر من 50 ألف شخص للمطالبة بالاعتراف الرسمي بالهوية العلوية وإلغاء التعليم الإلزامي للمذهب السني في المدارس بما يتيح لأبنائهم تعلم المبادئ والتعاليم الخاصة بهم. هذا الاحتجاج العلوي كان بمثابة رسالة لحكومة أردوغان تقول: عفوا سيدي الرئيس، لكن لم يعد بإمكاننا تصديقك quot; وذلك بعد فشل أردوغان الايفاء بوعوده لتحقيق مطالب العلويين الذي وعدهم بها في 13 يناير الماضي عندما ألقى خطابا في حفل إفطار علوي نظمته جمعية عبدال موسى العلوية.


في السبعينات وبداية الثمانينات كانت تركيا تشهد أحداثاً تتوفر فيها كل مقومات الحرب الأهلية باستثناء الاعتراف بذلك، حيث شملت المواجهات المسلحة والاغتيالات المتبادلة مختلف مناطق تركيا بين اليساريين الذين في غالبيتهم علويون وأكراد وبين القوميين الذين جلّهم من حزب الحركة القومية، وجرت أعنف هذه المواجهات في مناطق التماس بين العلويين والسنة وسط تركيا في ملاطية وسيواس وعينتاب ومرعش التي شهدت أسوأ المواجهات عام 1979 التي سقط فيها مئة شخص معظمهم من العلويين. وفي ولاية سيواس قتل 37 مثقفاً وأكاديمياً علوياً حرقاً على يد اسلاميين وقوميين متطرفين عام 1993 في فندق ماديماك وسط المدينة، وتبعت ذلك اشتباكات أهلية بين السنة والعلويين في العديد من المدن.


لكن رغم ذلك فإنه من المستبعد أن يحصل حزب الحركة القومية على أصوات مهمة في مناطق العلويين الأتراك ( حوالي عشرة ملايين) لولائهم التاريخي لحزب الشعب الجمهوري ولو أن الصورة تغيرت جزئياً إلا أنه في ظل غياب حزب سياسي علوي فإن حزب الشعب يشكل الخيار الأقل سوءاً للعلويين بسبب مواقفه المناهضة للإسلام السياسي. الكوميديا السوداء تبدأ عندما يحجم قطاع كبير من العلويين الأتراك التصويت لحزب الشعب الجمهوري بعد مغازلة الأخير مشاعر الفتيات المحجبات وتصالحه مع رمز الاسلام السياسي في تركيا والذي يثير الرعب في نفوس العلويين. أما الكتلة الأخرى من العلويين ينتمون إلى القومية الكردية (حوالي عشرة ملايين علوي كردي) ويحتفظ غالبيتهم بولائه لحزب العمال الكردستاني وحليفه البرلماني حزب المجتمع الديمقراطي.


المفارقة الثالثة والأكبر هو إعلان حزب العدالة والتنمية من جديد نيته في الاستمرار بحل القضية الكردية سلمياً رغم الحرب المستعرة بين الجيش وحزب العمال الكردستاني، وبدأت خططه الجديدة تنتشر بين الأكراد ليحصل من جديد على أصواتهم التي تضمن تفوقه في الانتخابات على الأحزاب التركية الأخرى. قبل أيام، صرح أردوغان خلال جولة فاشلة له في المناطق الكردية (قاطع حزب المجتمع الديمقراطي الزيارة) موجها خطابه للأكراد quot;إما ان تقبلوا الوضع الراهن أو ترحلوا عن هذه البلادquot;.


الأكراد استقبلوا أردوغان بالاضرابات والاحتجاجات، واستثمر القوميون الأكراد تصريحاته النارية بالتوجه إلى الشعب الكردي الذي منح قسم كبير منهم أصواته لأردوغان في الانتخابات السابقة بالقول : هل نرحل أم نبقى لنخوض معركتنا ؟


وتعتبر ديار بكر التي يسيطر عليها الحزب الكردي هي معركة كسر العظم بين حزب أردوغان وحزب المجتمع الديمقراطي الكردي (22 نائباً) الذي يعيش حالة من القلق الشديد من إمكانية تحالف قادة أكراد العراق مع حزب العدالة والتنمية ضد حزب العمال الكردستاني مما سيؤثر سلبا على إمكانية نجاح حزب المجتمع الديمقراطي في الانتخابات،وستكون نكسة تاريخية للتيار القوي اليساري الكردي إذا استطاع العشائريون ومريدو الطرق الصوفية الأكراد الذين يدينون بالولاء لحزب العدالة والتنمية ويخضعون لتأثير الأحزاب العشائرية في كردستان العراق من الفوز ببلدية ديار بكر التي وصفها رئيسها الحالي عثمان بايدمير بأنها قلعة الأكراد الانتخابية.

حسين جمو