العملية النوعيّة الأخيرة التي قامت بها قوات حماية الشعب ( الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني) تدحض كل إدعاءات الجيش التركي التي تقول بضعف العمال الكردستاني وتقهقره. فهذه هي المرة الثالثة التي تستهدف فيها القوات الكردية نقطة(Becirc;zelecirc; ) العسكرية في منطقة شمزينان بولاية جولمرك الكردستانية. والحصيلة الأولية هي 15 قتيلاً تركياً وأسيرين وعشرات الجرحي( بإعتراف الجيش التركي نفسه). وفي الهجمات الثلاثة الماضية حقق المقاتلون الكرد أهدافهم وأوقعوا عشرات القتلى والجرحى في صفوف الجيش التركي وحامية النقطة( حوالي 400 جندي وضابط تركي).

ردة الفعل التركية كانت لافتة هذه المرة. فهذه ليست المرة الأولى التي تتلقى فيها قوات الجيش التركي مثل هذه الضربات. كما انها ليست المرة الأولى ـ خلال الشهور القليلة الماضية على الأقل ـ التي يتساقط فيها العشرات من الجنود الأتراك في مواجهات مع المقاتلين الكرد. فمواجهات الأشهر الماضية أسفرت عن مقتل وجرح أكثر من مائة جندي تركي. لكن يمكن تفسير الغضب التركي هذا بسياسة الحكومة والجيش الراميتين إلى تجييش الشارع وتعبئته لقيادة حملة حرب جديدة ضد حزب العمال الكردستاني داخل وخارج تركيا. فمجلس النواب التركي سينظر( 7/10/2009 ) في تمديد مذكرة الحرب عاماً آخراً وتخويل الجيش مهمة القيام بعمليات عسكرية لخارج الحدود. وكان الجيش والحكومة قد عمدا إلى نفس هذه اللعبة العام الماضي حين إقرار مذكرة التدخل الخارجي وشنا حملة إعلامية كبيرة لتعبئة الرأي العام وتثويره ضد حزب العمال الكردستاني والأكراد عموماً، والترويج لعملية quot;إحتلال شمال العراق وضرب قواعد حزب العمال الكردستانيquot;. وكان ان تم الهجوم التركي الموعود في الفترة مابين 21/2/2008 ـ 29/2/2008 حيث منيت القوات التركية المتوغلة في أراضي اقليم كردستان العراق بخسائر كبيرة على ايدي المقاتلين الكرد، مما أجبرها على التقهقر والإندحار، وهو ما أثار إندهاش الشارع التركي الغارق في الحماس والخدر القومجي الفارغ، حيث تساءل المواطن التركي عن أسباب الإنسحاب المفاجئ للقوات التركية، وهو الذي كان ينتظر ان ينتهي زحف هذه القوات في مدينة كركوك، بحسب حملات البروباغندا الكبيرة آنذاك...

قرار رئيس مجلس الوزراء رجب طيب أردوغان قطع زيارته لتركمانستان والعودة إلى أنقرة لمواجهة الأزمة وتصريحات رئيس الجمهورية عبدالله غول ـ الذي ألغى زيارة له لباريس ـ حول إصرار بلاده على محاربة العمال الكردستاني مهما حصل، يدلان على نية الحكومة في الذهاب مع العسكر إلى عملية عسكرية جديدة، لاتبدو حظوظ نجاحها بأفضل من حظوظ نجاح 24 عملية عسكرية كبيرة سبقتها، وانتهت كلها بالفشل وبلاحقةquot; دون ان تحقق أهدافها المعلنةquot;...

الحكومة التركية ستصوت على تمديد مذكرة الحرب في السابع من الشهر الجاري. والجيش التركي سيكثف من عملياته العسكرية وربما سيتوغل عدة مرات في اقليم كردستان العراق، بينما ستعمد الطائرات التركية إلى قصف quot;الأهداف الكرديةquot; هناك. لكن الأرجح، وكما تعلم تركيا ذلك، ان أي من الأهداف الكبيرة مثل quot;إنهاء وجود العمال الكردستانيquot; أو quot;إلحاق ضربة قوية بهquot; لن تتحقق...

حزب العدالة والتنمية يمضي في ممارسية سياسته المعروفة إزاء الكرد في البلاد. هو الآن يحضر للإنتخابات البلدية التي من المزمع أن تجرى في العام المقبل. يريد الإستحواذ على أصوات المواطنين الكرد والسيطرة على بلديتي quot;ديار بكرquot; وquot;باتمانquot; بشكل خاص وإلحاق الهزيمة بحزب المجتمع الديمقراطي( الذي يوصف بإنه الجناح السياسي للعمال الكردستاني). ومن اجل تحقيق هذا الهدف يٌسارع العدالة والتنمية في حملاته عبر تقديم المساعدات المالية للمواطنين الكرد على شكل قروض ميسرة ونشر الجمعيات النقشبندية وشراء ذمم الأغوات والملاكين الكبار ورؤوساء العشائر الكردية، فضلاَ عن الحملات الإعلامية التي تروج لquot;الإخوة الإسلاميةquot; وتربط العمال الكردستاني بquot;الغرب وإسرائيل والصليبيين والأرمنquot; والتي تنفثها مئات الصحف والقنوات الإعلامية التركية الموجهة، وبرضى ومباركة من الجيش نفسه...

هذا على الجانب الشعبي الميداني، اما في الجانب الحقوقي فالدعوة المقامة بحق حزب المجتمع الديمقراطي والرامية لحظره مازالت قائمة، وثمة إحتمال كبير في أن تقرر المحكمة الدستورية العليا حظر الحزب ومنع 200 من قياداته وبرلمانييه من مزاولة العمل السياسي. وهذا لو حصل قبل الإنتخابات البلدية القادمة فسوف يزيد من حظوظ العدالة والتنمية في الفوز وإستكمال خطته، وهو الأمر الذي يفسر صمته وتواطئه على هذه الإنتكاسة في quot;الديمقراطية التركيةquot;، وهو الذي اقام الدنيا ولم يقعدها عندما نظرت المحكمة الدستورية العليا في القضية المقامة بحقه والرامية لحظر نشاطه في البلاد...

الحزب الحاكم يريد ضرب عصفورين بحجر واحد. يريد ضرب الجيش بالعمال الكردستاني والتفرغ للتمدد في أوساط الشعب الكردي عبر توزيع الأموال والمساعدات وإستغلال الدين الإسلامي، وكذلك إزالة حزب المجتمع الديمقراطي من طريقه وحرمان قادته من مزاولة العمل السياسي. وهذا لو تم فإن تركيا ستشهد تصعيداً دموياً ورداً قوياً من جانب حزب العمال الكردستاني على سياسة الإستحواذ على الكرد وضرب ممثليهم السياسي. وقد قلنا سابقاً، ونقول الآن ايضاً، بان العمال الكردستاني لن يسمح للعدالة والتنمية بالتمدد في كردستان الشمالية وquot; تمييع الشخصية الكرديةquot; مهما حصل...

الجو مشحون في تركيا بكراهية الكرد. والسبب يعود لوسائل الإعلام والتحريض الذي تقوم به. فقد شهدت الأيام الماضية مواجهات دامية بين المواطنين الأكراد والأتراك في بعض مدن غرب تركيا راح ضحيتها عدة اشخاص، بينما شارك برلمانيون من حزب الحركة القومية المتطرف(MHP ) في قيادة التظاهرات ضد الوجود الكردي هناك ودفع الغوغاء للتخريب واضرام النيران في متاجر ودور المواطنين الكرد هناك...

من المهم القول بان العملية الأخيرة للعمال الكردستاني اثبتت قوة وقدرة هذا الأخير على الضرب في أي مكان وتحت اي ظرف كان. وكلام الجيش عن ضعفه لم يكن دقيقاً. لم يكن سوى تكراراً معهوداً للإسطوانة إياها التي نسمعها منذ عام 1984 وعند إستلام كل جنرال جديد رئاسة أركان الجيش وتعهده بالقضاء على العمال الكردستاني الذي بات quot;ضعيفاً ومشتتاًquot; الآن..

العمال الكردستاني يتقوّى ويتمدد بسرعة الآن، وهو في أوج قوته أكثر من أي وقت مضى. ومع إستمرار سياسة الحرب التركية وإنكار هوية وحقوق الشعب الكردي، وإنعدام قوى كردستانية فاعلة تقف بالضد من هذه السياسة، لايملك الأكراد، وفي كل مكان، اي خيار آخر سوى دعم الكردستاني والإنخراط في ثورته والنضال ضمن المئات من مؤسساته السياسية والإقتصادية والعسكرية والإعلامية...

في سجون إيران الآن ينفذ حوالي 400 معتقل من أعضاء العمال الكردستاني ورديفه( حزب الحياة الحرة الكردستاني) إضراباً مفتوحاً عن الطعام منذ 25/8/2008. وهذا الإضراب الذي تشارك فيه عشرات النسوة الكرديات المعتقلات يذكرنا بالإضرب الكبير عن الطعام حتى الموت الذي أعلنه 4 من الرعيل الأول في حزب العمال الكردستاني في سجن ديار بكر عام 1982 رداً على سياسة طغمة الإنقلاب العسكري التركي تجاه الكرد في البلاد. ذلك الإضراب عن الطعام الذي أسفر عن وفاة قادة الحزب وكان الشرارة الأولى التي أشعلت نيران الثورة، والدافع الأكبر لإلتفاف ملايين الكرد حول الكردستاني وإمداده بالمال والروح خلال مسيرته لإنتزاع حقوق الشعب الكردي...

ومالفت الإنتباه في خضم تداعيات العملية الهجومية الكردية الأخيرة، هو موقف كل من حكومة اقليم كردستان وحكومة بغداد. فرغم ان هذه العملية عسكرية واستهدفت نقطة عسكرية واسفرت عن قتل جنود في ساحة المعركة، إلا ان حكومة كردستان اصدرت بياناً لإدانتها. اقل مايقال عن هذا الموقف إنه يندرج في خانة التنازلات المجانية التي لانعتقد إنها ستلين موقف تركيا وستغير شيئاً في سياساتها المعادية لإقليم كردستان والرافضة لإلحاق كركوك به.

أما حكومة المالكي في بغداد والتي وقعت quot; إتفاقاً إستراتيجياًquot; مع الأتراك ( هل أطلع عليه وزير الخارجية هوشيار زيباري، ام أنه، أيضاً، آخر من يعلم، مثل رئيس أركان الجيش الجنرال الكردي بابكر زيباري الذي علم بإنتشار قوات الجيش العراقي في خانقين من وسائل الإعلام!؟)، فهذه الحكومة التي يتنازع العراق في عهدها الصومال وبورما على المركز الأول للدول الفاسدة في العالم، لاتعلم ما تفعله سوى تطبيق أجندة خارجية/ داخلية تستند على عقلية النهب والإستحواذ وضمان مصلحة الطائفة والحزب وتفضيلها على مصحلة الدولة.

الرئيس التركي عبدالله غول تعهد بمحاربة حزب العمال الكردستاني حتى النهاية ومهما كان الثمن. وهذا الكلام قاله قبل غول 5 من رؤوساء الجمهورية وكلهم ذهبوا ولم يذهب حزب العمال الكردستاني. فالحل العسكري أثبت فشله. وquot;الحلول الإقتصادية والسياسيةquot; في ظل الإصرار على نكران هوية الكرد في البلاد وإهمال ممثليهم المنتخبين، لم تنجح أيضاَ. لامناص إذن من الحوار وحل القضية الكردية في البلاد عبر مصالحة وطنية شفافة. فالحل الديمقراطي السلمي هو الكافي بحل النزاع وهو الذي سيقوّي تركيا وسيفتح ابواب الرفاه والإستقرارعلى مصراعيها. وهذا ما لايتمناه بعض ممن يقدمون أنفسهم على أنهم أصدقاء تركيا وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي....

فهل ستختار تركيا الحل الديمقراطي السلمي وتقرر التحاور مع العمال الكردستاني ونواب الشعب الكردي المنتخبين، ام أنها ستختار الحرب التي قد تستمر عشرات السنين، وتكلف كل الأطراف المزيد من الدماء والدموع؟.

طارق حمو
[email protected]