لا أفهم معنى quot;القداسةquot; التي يسبغها الكثيرون على ما يـُعرف بـ quot;التراب الوطنيquot;. إنها واحدة من الأساطير التي ظهرت في أوربا في عهد نشوء quot;الدول القوميةquot;، واستوردناها كما استوردنا الكثير من المفاهيم، لنضفي عليها مزيداً من القداسة والتعصب القبلي.


لا يوجد بلد واحد في العالم لم تتغير حدوده عدة مرات، بحروب، أو بمفاوضات، أو باتحاد، أو بانقسام أو بغير ذلك من الأسباب. وفي رأيي فإنه لا يوجد نزاع حدودي يستحق بالفعل أن تـُشن من أجله حرب وأن يموت من أجله بشر. ولو راجعنا أي حرب قامت تحت غطاء quot;نزاع حدوديquot; ما، سنجد أن هناك دائما سبباً آخر لها، مصلحة، آنية غالباً، لأحد الحكام بأن يشغل شعبه بحرب ما. وغالباً ما ينتهي أي quot;نزاع حدوديquot; عبر مفاوضات ومساومات، وهو ما يفنـّد تماماً دعوى quot;القداسةquot; التي يريد البعض إضفاءها على فكرة quot;الحدودquot;.

مناسبة هذه التأملات، هي التهريج الإعلامي والسياسي الذي يدور منذ أيام حول مزاعم عن quot; قيام قوات إيرانية باختراق الحدود العراقية واحتلال بئر نفطيquot;. أقول quot;مزاعمquot; لأن كل الأخبار التي قرأتها، ومن مصادر متنوعة، تتحدث عن quot;مزاعمquot;، وعن quot;وضع غامضquot;، وعن quot;مناطق متنازع عليهاquot; ولم أقرأ خبراً واحداً في أي مكان يطابق مضمونه بالفعل الكلمات الكبيرة عن quot;قوات إيرانيةquot; و quot;اختراق للحدودquot;، وما إلى ذلك من عبارات تستخدم عادة لتجييش مشاعر العداء واستنفار نوازع التعصب والكراهية.

التهريج الوطني وقادسية صدام
نبهني هذا التهريج quot;الوطنيquot; أيضاً إلى توجه صار يزداد رسوخاً في الأوساط العراقية، وهو إعادة الاعتبار إلى أكبر جريمة على الإطلاق ارتكبها النظام الصدّامي، وأطلق عليها إعلامه الفاشي اسم quot;قادسية صدّامquot;. تلك الجريمة هي أساس كل خراب حلّ بالعراق خلال العقود الثلاثة الماضية، راح ضحيتها مئات الآلاف من الشباب العراقيين، ومثلهم من الإيرانيين، وإليها يعود هذا العدد الحالي الكبير من اليتامى والأرامل والمعاقين، العدد الذي يتاجر به حالياً أنصار تلك القادسية المشؤومة، باعتباره مأساة يلقون بتبعاتها على الغزو الأمريكي مرة، وعلى الحكومة العراقية الحالية مرة أخرى.

أوقفت تلك الحرب كل مشاريع التنمية في العراق، وتراجعت بسببها مستويات التعليم والصحة والخدمات، وكانت حجة لمنع السفر وفرض عزلة إجبارية على العراقيين، وحجة لإعدام الآلاف من الشباب بدعوى التخاذل عن المشاركة في الحرب، وحجة لنشر ثقافة تمجد العنف والسلاح والدم، وحجة لقطع الطريق على أي فرصة لتحول ديمقراطي. وكلفت تلك الحرب من الأموال ما يعادل واردات العراق النفطية لعشرين عاماً، وكبلت العراق بالديون. وخرج العراق منها خاسراً، على عكس ما يروج الصداميون الجدد عن انتصار موهوم.

ضحايا المحرقة صاروا يتفاخرون بها!
حتى من كان معارضاً لتلك الحرب، وهم أغلبية العراقيين، أصبحوا لا يجرؤون الآن على إدانتها، بل يضطر بعضهم إلى مسايرة خطاب الصداميين الجدد في الافتخار بها وبانتصاراتها وأمجادها. وأصبح الجميع يدّعي الآن أنه شارك في quot;الدفاع عن العراقquot; ضدّ الهجمة الإيرانية. بينما كان الجميع يساقون كالأغنام إلى تلك المحرقة الغبية التي لم يكن لها أي مبرر ولا هدف سوى إرضاء النزعات السيكوباتية المريضة لدى شخص صدام حسين الحالم بالبطولة، إضافة إلى هدف غير عراقي، أمريكي وإسرائيلي وquot;عربيquot; بالوقوف بوجه إيران الجديدة. وكان الشجاع حقاً، هو من استطاع الهروب من الحرب، بالحيلة، أو بالتزوير، أو بالاختباء أو بغير ذلك من الوسائل المشروعة وغير المشروعة.

يا حوم اتبع لو جرينا!
كانت quot;قادسية صدامquot; عدواناً عراقياً سافراً على بلد جار، كان قد انتصر شعبه للتو في ثورة جماهيرية، قضت على أقوى طغاة المنطقة، وأهم حلفاء أمريكا وإسرائيل فيها. دخل الجيش العراقي الأراضي الإيرانية دون مقاومة، والسبب هو أن إيران لم تكن تتوقع أي هجوم عراقي على أراضيها، ولم يكن هناك وجود عسكري إيراني يحسب له حساب على حدودها مع العراق. احتل العراقيون أراضي إيرانية، وشردوا المدنيين من منازلهم ومن قراهم، ومعظمهم عرب القومية واللسان، وعاث الجنود العراقيون فيها فساداً، وسرقوا ونهبوا ممتلكات الأهالي، بينما كان التلفزيون العراقي يتحفنا كل يوم، وفي وقت العشاء، بصور البيوت الإيرانية المهدمة، وصور جثث الإيرانيين، مع عبارات دموية وعنصرية عدوانية مثل quot;حرائق عبادان تضيء شط العربquot; وquot;يا حوم اتبع لو جريناquot;، وهي دعوة للطيور الكاسرة لتتبع مسار جنودنا الأشاوس لكي تنهش جثث القتلى الأعداء!! أهذا ما نفخر به؟؟

أوهام صدام وأحلام إيران
ليس هذا الكلام دفاعاً عن النظام الإيراني، الذي يتحمل المسؤولية مناصفة عن إدامة الحرب واستمرارها ثماني سنوات، بسبب تعنته وأحلامه الثورية ndash; الامبراطورية، التي وجدت في عدوانية صدام حسين ذريعة مثالية لتبدو حرباً دفاعية. كما إن تسخيف الضجة الدائرة حالياً حول quot;الغزو الإيرانيquot; لمنطقة quot;الفكةquot; الحدودية، ليس إنكاراً للمحاولات الإيرانية الدائبة، بطرق شتى، لترسيخ نفوذها في العراق والتدخل في رسم مستقبله السياسي والاجتماعي والثقافي. نعم إيران ساهمت متعمدة بإطالة الحرب التي بدأها العراق، وإيران سعت وتسعى بقوة لجعل العراق تابعاً لها، وتدخلت وتتدخل بشؤونه. لكن هذا كله شيء والتجييش العنصري والعدواني ضد إيران، وما يستبطنه ذلك من تجييش ضد فئة واسعة جدا من العراقيين، متهمة دائماً بأنها طابور إيراني خامس، شيء آخر.

الحكام الجدد يسهل ابتزازهم بالشعارات
حكام العراق الحاليون، الفاقدون الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على قيادة البلاد، والذين تتنازعهم الأهواء والأطماع الشخصية والحزبية، والمفتقدون إلى اي رؤية استراتيجية للمستقبل، يسهل ابتزازهم بالشعارات الوطنية الزائفة. وها قد رأيناهم مرتبكين لا يجيدون التصرف، أمام حادثة عابرة وتافهة تتمثل بنزول ثلاثة جنود إيرانيين من تلة حدودية صوب أرض عراقية ثم عودتهم إلى التلة. في الحقيقة هم مرتبكون ليس بسبب الحادثة العابرة في حد ذاتها، بل هم مرتبكون أمام الخطاب الصدّامي الذي لا يزال للأسف يحظى بشعبية ليست قليلة في العراق، والذي جعل من هذه الحادثة التافهة فرصة للمزايدة وإطلاق الشعارات الكاذبة، ومعايرة الحكام الحاليين، والتذكير بعهد quot;السيادة والبطولات والكرامةquot; تحت راية المريض نفسياً صدام حسين.

إنجازات quot;عهد الكرامةquot;
قلت في بداية المقال إني لا أؤمن بقداسة ما يسمى بالتراب الوطني، ولا أعتبر التفريط بشيء من الأرض بالضرورة علامة على الضعف أو الخيانة، بل يمكن أن يكون علامة على الحكمة والحنكة إذا تم في إطار مفاوضات ومساومات ذكية، وتم تحصيل ثمنه سياسيا أو اقتصادياً أو أمنياً. لكن بما أن دعاة quot;الكرامة الوطنيةquot; يعطون أهمية كبرى للتراب الوطني وعدم التفريط بأي ذرة منه، كما يكررون، فلا بأس إذن من جردة بسيطة لمنجزات عهد quot;السيادة والبطولات والكرامةquot;:

للعراق ست جيران، كلهم، دون استثناء، تمددت حدودهم على حساب العراق خلال عهد quot;الزعيم الوطنيquot; صدام حسين. ولم يحصل العراق على أي ثمن استراتيجي مقابل تلك التمددات، بل حصل في كل مرة على أثمان آنية عابرة، تتعلق بمصلحة النظام وأمنه، لا بمصلحة البلاد.

خلال quot;عهد السيادةquot; وقـّع العراق ثلاث معاهدات مذلة: معاهدة تنازل فيها عن نصف شط العرب لشاه إيران، وأخرى سمح فيها للقوات التركية أن تدخل متى ما تشاء مسافة 35 كم داخل الأراضي العراقية، والثالثة في خيمة صفوان الشهيرة.

خلال عهد quot;الكرامةquot; كانت الأجواء العراقية مستباحة من أمريكا ومحظورة على العراق، وكان المفتشون الدوليون يدخلون إلى غرفة نوم رئيس الدولة!
خلال عهد quot;البطل القوميquot; دخلت طائرات إسرائيلية وقصفت المفاعل النووي العراقي ودمرته تدميراً كاملاً وعادت إلى قواعدها سالمة، ولاذ quot;البطل القوميquot; وإعلامه الفاشي بالصمت المهين.

الكرامة الحقيقية
لا يزعجني تهريج الصداميين الجدد حول quot;السيادةquot; و quot;الكرامة الوطنيةquot;، بقدر ما يزعجني خضوع العراقيين غير الصداميين لهذا الابتزاز اللفظي والشعاراتي وانجرارهم إلى سوق المزايدات الخطابية. لسنا بحاجة إلى قادسيات جديدة، بل نحن بحاجة إلى دولة ديمقراطية متحضرة. بحاجة إلى القضاء على الفساد، ومواجهة الإرهاب، وترسيخ المؤسسات، ونشر ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان والمساواة، هذه هي أسس الكرامة الحقيقية والسيادة الحقيقية. إذا نجحنا في ذلك فستكون لدينا دولة تحظى باحترام الخارج ومساندة الداخل، ودولة مثل هذه لن يجرؤ أحد على التحرش بها، إيرانيا كان أو عربياً أو تركياً، أو إسرائيلياً.