كان حريّا بالمسؤولين الجزائريين تفعيل خارطة الطريق التي اتفق عليها - قبل أسبوعين- الإباضية الأمازيغ و المالكية العرب لوضع حدّ للنزاع الطائفي الدائر رحاه في بلدة بريان جنوب الجزائر. لكن السلطات الجزائرية وكعادتها اتّبعت سياسة النعامة وغطست رأسها في الرمال وفضلت مناقشة خارطة الطريق الإسرائيلية - الفلسطينية مع مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط السناتور جورج ميتشل الذي حل ضيفا بالجزائر بضع ساعات في محاولة جزائرية للترويج لصورة الدولة القوية التي حلّت مشكلاتها واتجهت نحو حل مشاكل الأشقاء في كل بقعة من العالم.

أقول هذا من باب التذكير بأننا كنا أول من تحدّث قبل عام عن الفتنة الطائفية التي تتهدد سيادة واستقرار الجزائر، لكن وسائل الإعلام في الداخل دأبت على وصف الاضطرابات التي تنشب باستمرار بين الطائفتين الإباضية والمالكية بأنها أعمال شغب يقوم بها شباب طائش. إن كان هذا صحيحا، فلماذا يُمضي الطرفان خارطة طريق بحضور الوزير المنتدب الذي هرول إلى المنطقة قادما من العاصمة؟ ولماذا يجتمع بعقلاء وحكماء البلدة من الطرفين؟

الفتنة المذهبية، لماذا الآن؟

عودة الاضطرابات هذا الأسبوع إلى منطقة بلدة بريان الواقعة في منطقة وادي ميزاب والتي كانت توصف بسويسرا الجزائر يتطلب من السلطات العليا في البلاد ومن كافة العقلاء في المنطقة، مراجعة المواقف وإعادة النظر إلى طبيعة الصراع وأسبابه الظاهرة منها والخفية. كما يتطلب من وسائل الإعلام في الداخل عدم تأجيج الصراع بالانحياز الفاضح إلى طائفة دون أخرى.

من البديهي أن الوضع المتأزم داخل الجزائر ماهو إلا انعكاس لطبيعة الأوضاع الإقليمية والدولية. فالموضة الجديدة في النزاعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بروز ظاهرة الانقسامات بين طوائف وجماعات وتنظيمات داخل الدولة الوطنية الواحدة من جهة، وبين تلك الكيانات السياسية من جهة ثانية : سني- شيعي، مسلم-مسيحي،محور الاعتدال-محور المقاومة، فتحاوي- حمساوي،وطني-خائن، وما إلى ذلك من الاصطفاف السياسي والطائفي الذي يُكرّس الانقسامات بين أبناء الوطن الواحد والمنطقة الواحدة.

أما على صعيد الداخل، ففي تقدري بأن الأزمة الاقتصادية المستفحلة هي المتسبب الأول وليس الرئيس في اندلاع مثل هذه النزاعات. فالبطالة والتهميش والبؤس الاجتماعي عوامل كلها أشعلت فتيل اضطرابات بلدة بريان. فأبناء العرب المالكية الغارقون في البطالة يرون بأن أبناء الطائفة الإباضية يتمتعون بمزايا اقتصادية كثيرة ويتحكمون في عصب الاقتصاد بالمنطقة (ملكية المصانع والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والتحكم في التجارة) فيما يرى أبناء الطائفة الإباضية بأن الدولة هي المسؤول الأول عن توفير مناصب الشغل لأبنائها وهي من يحرم أبناء المنطقة من العمل في حقول النفط والغاز التي تملأ الصحراء، كما أن هذا الرخاء النسبي ناتج عن قيم اجتماعية توارثَتها الأجيال المتعاقبة داخل الطائفة مثل حب العمل والتفاني فيه وهي الصفة المعروفة عن الإباضية الميزابيين عبر كل أقطار الجزائر. هذا إذا علمنا بأن المجتمع الإباضي يتكون من عشائر وتنظيمات دينية واجتماعية لها قواعد صارمة في توزيع الزكاة والصدقات على المحرومين والفقراء من أبناء الطائفة. وهكذا فإن الإباضية على أرض الواقع يتصرفون كأقلية داخل المجتمع مثل بقية الأقليات في العالم ويوفرون مناصب الشغل لأبنائهم عبر شركات خاصة ولا يعتمدون كثيرا على الوظائف الحكومية.

وهنا مربط الفرس:

لا السلطات الجزائرية ولا العرب المتساكنون مع الإباضية في المنطقة يريدون التسليم بأن الإباضية أقلية في الجزائر وهو مايراه الإباضية حقا شرعيا من حقوق المواطنة ومسألة وجودية بحتة. ومن هنا بدأ الصراع على أساس القتل على الهوية والطائفة، وكان أن قُتل من الإباضية ستة أشخاص على الأقل في مدينة بريان منذ أن اندلعت أولى شرارات الصراع عام واحد وتسعين، ناهيك عن حرق منازلهم ومصانعهم ونهب تجارتهم، وهذا لا يعني أن الإباضية لم يردوا بالحرق والتخريب فيما يسمونه الدفاع عن النفس، لكن عملية رد الفعل لم تصل إلى حد القتل.

الاحتماء بالأحزاب الأمازيغية:

تجدّد هذه الاضطرابات ولّد قناعة لدى شريحة واسعة من أبناء الطائفة الإباضية بأن مصالح الأمن إما عاجزة -أوهكذا تبدو- أو متورطة ولم تدافع عن مواطنين تعرضوا للتحرش داخل الدولة الواحدة، هذه الشريحة تستدل بشريطيْ فيديو ظهرا إثر أحداث شهر مارس الأخيرة حيث بدا واضحا من أن عناصر في قوات الأمن انحازت ضد أبناء الطائفة الإباضية بل ساعدت المهاجمين في رمي الحجارة وأعطتهم الخوذات والأدرع الواقية للقيام بمهمتهم، ولم تكتف هذه العناصر بالتفرج وإنما قامت بحركات لاأخلاقية استفزت الإباضيين.

نتيجة لهذه الأحداث المأساوية المتسارعة ظهر تيار جديد سواء في بلدة بريان أو في عاصمة الولاية (غرداية) اتخذ موقفا راديكاليا من السلطة ومن بعض مشائخ الإباضية. وانضوى أعضاء هذا التيار تحت لواء حزبيْن أمازيغيين، وهما التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية وحزب جبهة القوى الاشتراكية.

لماذا هذان الحزبان؟ هما حزبان أمازيغيان يُشعران هذا التيار بالانتماء والحق في الوجود وهما معارضان للسلطة المركزية التي لم تُراع خصوصية المنطقة ولا متطلباتها. وعندما فاز ممثلو هذين الحزبين في ولاية غرداية ببعض المقاعد الولائية والبلدية (المحلية) وأصبحوا يواجهون السلطة المُمَثلة في والي الولاية ورئيس الدائرة ومصالح الأمن، بدأت عدة سيناريوهات تطفو على السطح، من بينها تلك الاضطرابات التي تندلع لسبب مباشر أو دون سبب في بلدة بريان.

من دخل (بيت السلطة) فهو آمن:

من بين السيناريوهات التي خططت لها السلطة وتحققت في بداية الأزمة، أن عددا من مشائخ المذهب الإباضي قام بتلاوة بيان مساندة الرئيس بوتفليقة لترشحه لعهدة ثالثة، هؤلاء أعلنوا أنهم الهيئة الوحيدة المخولة تمثيل المجتمع الإباضي. وفي خطوة تصعيدية معاكسة جمع نشطاء في حزب جبهة القوى الاشتراكية عشرات الآلاف من توقيعات أبناء المنطقة للمطالبة بترسيم المذهب الإباضي فجاء الرد سريعا من وزير الشؤون الدينية ومسؤولين آخرين بأن الجزائر ليست في حاجة للاعتراف بالمذهب لأن دستورها يعترف بأن الاسلام دين الدولة بكل مذاهبه. وفجأة نشرت بعض الصحف المحسوبة على السلطة بيانات لهيئة مشائخ الإباضية تتبرأ من هذه المطالبة وتقول إنها الهيئة الرسمية الوحيدة التي تمثّل أبناء الإباضية ولا تريد ترسيم المذهب.

المراقبون لهذه الخطوة يدافعون عن الهيئة بأنها لا تريد أن تدخل في مواجهة مع النظام الحاكم لأن العواقب ستكون وخيمة على كل أبناء الطائفة. لكن التيار الراديكالي في المنطقة يرى أن النظام يحرم أبناء الطائفة من أدنى الحقوق، فلما لا مُمارستها بدل المطالبة بها على استحياء، من بين هذه الحقوق استرجاع أراضي وأملاك الأوقاف الإباضية التي استولت عليها السلطات بعد الاستقلال، وتدريس المذهب الإباضي في المدارس والجامعات، وترسيم أسماء المدن الميزابية التي قامت بتعريبها السلطات إبان حكم بومدين، ( بريان- أت إبرقن، غرداية- تغردايت، العطف- تاجنينت، بني يسقن- آت يسجن، ورقلة -وارجلان،الخ) وإعطاء كل الحقوق السياسية لأبناء الطائفة كغيرهم من المواطنين. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك عُرفا أو اتفاقا معنويا بأن أبناء الطائفة لا يمكنهم تبوء عدد كبير من المناصب العليا (وزارات السيادة، مدراء في شركات كبرى، رؤساء لمصالح أمنية، وغيرها).

يرى مراقبون في هذا الجدل الدائر بين أبناء الأقلية الإباضية ماهو إلا إفراز لسياسات النظام الذي تمكن من اختراق طائفة من أكثر التجمعات محافظة وتماسكا داخل الجزائر على غرار اختراق الجمعيات والأحزاب السياسية وتفجيرها من الداخل باسم الحركات التصحيحية وكانت آخرها ما حدث من انشقاق داخل حركة مجتمع السلم، وقبلها دخل التصدع حزب النهضة وحزب جبهة التحرير الوطني وتنسيقية أبناء الشهداء وغيرها من الاختراقات التي تطبق نظرية (فرّق تسد). وهناك أيضا من يرى بأن هذا الجدل صراعٌ منطقي بين جيل الشباب المتحمس للتغيير والجيل القديم الذي يفضل ممارسة التقية ومداهنة السلطة على اعتبار الخبرة المكتسبة في التعامل السياسي مع (السلطان الجائر) وهو ما دفع الإباضية ثمنه على مدى قرون وتسبّب في هجرتهم من منطقة إلى أخرى، قبل وبعد تأسيس الدولة الرستمية في (تاهرت- تيارت).

عودة الاضطرابات:

من غرائب الأمور أن بريان كانت هادئة طوال الحملة الانتخابية وأيام الاقتراع وما إن تم التجديد للرئيس الحالي حتى دخلت البلدة في أعمال شغب وحرق ونهب ومواجهات مع الشرطة راح ضحيتَها العشرات من الجرحى وأضرار مادية جسيمة أُلحقت بالمنازل والمتاجر. هذه المرة، بدأت شرارة العنف بأعمال الشغب التي قادها أبناء العرب المالكية ضد المئات من قوى الشرطة المتواجدة في البلدة مطالبين برحيلها أو احترام خصوصية منازلهم وحرماتهم، لكن سرعان ما امتدت شرارة العنف لتشمل أبناء الطائفتين بعد صلاة الجمعة.

هنا تدخّل وزير الداخلية، ليس من أجل تحذير مُحركي الشغب وتمكين أهالي المنطقة من العودة إلى منازلهم، وإنما من أجل إعادة فتح الطريق الرئيسة (الوحيدة) التي تربط بين شمال الجزائر وجنوبها والتي تمرّ ببلدة بريان، ومن هنا يتضح بأن همّ السلطة الأول ليس النظر في الأسباب الجذرية التي تؤجج هذا الصراع، وإنما في فرض حلول ترقيعية لا تُرض أي طرف. فالمتضررون من أعمال الشغب التي اندلعت قبل أشهر لم تصلهم أي تعويضات وغالبية الأطفال لم يلتحقوا بمدارسهم، أما المهجّرون فمايزالون يسكنون في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.

من يقف وراء الأزمة؟:

المواطنون يحمّلون المسؤولية للسلطات لأنها المخول الوحيد حفظ الأمن في البلاد، لكن جرائد محلية ونشطاء وحقوقيين يقولون، إن أطرافا في الإدارة المحلية متورطة في قضايا فساد كبيرة وكلما حان موعد بدء محاكمتهم أو محاكمة وكلائهم كلما زادت وتيرة التحريض على العنف. وهنا يتم الحديث عن تحالف مهربي المخدرات والأسلحة مع ما يسمى بمافيا العقارات ومع بعض أجهزة الإدارة المحلية. وإذا كان الشارع في بريان يتحدث علنا عن رموز الفساد ويشير إليهم بالبنان، فإن السلطات إلى حد الساعة تغض الطرف عنهم ولم تتخذ أي إجراءات لتقديمهم إلى العدالة، كما أن ملف عشرات المعتقلين من الأبرياء لم تتم معالجته وهؤلاء شباب متعلم يقبع في الحبس الاحتياطي في انتظار محاكمته على تهم ينفيها جملة وتفصيلا، باعتبار أن المدبرين والمخططين لأعمال العنف يعبثون بأمن المواطن فيما يدفع الأبرياء ثمن حسابات سياسية قذرة تستعمل الطائفية والعرقية وقودا لها.

سليمان بوصوفه

http://slimaneboussoufa.wordpress.com/