ما جاء في اعترافات مصرية ضمنية خطيرة، أثناء الكشف عما سمي خلية لحزب الله، ينبئ عن واقع، ودور مرعب باتت quot;المحروسةquot; تلعبه في المنطقة، ناهيك عن تراجع الدور الحضاري والريادي المصري ودورانه في فلك قوى إقليمية همـّشته وعطلته وجعلت منه عديم الفائدة والتأثير. وما غياب مصر مؤخراً عن أكثر من قمة عربية، إلا تأكيد على انحسار النفوذ المصري، وانعدام فاعليته، وأصبح واقع حاله يقول: سيان إن غابوا، وإن حضروا.

ولا يعنيني، البتة، أبدا ما جاء على لسان السيد حين نصر الله، ولن ألتفت لخطابه، فخريطة خطاب السيد حسن مقروءة سابقاً، ومعروفة التفاصيل والتضاريس، وتمضي في معا رجها الإيديولوجية وفق اتجاهات واضحة وتتميز بطابع هادئ رصين ورزين، لا يخلو من تحدٍ معروف مشفوع بجرعة زائدة من البغض لـquot;الإسرائيليquot; بلهجة الشيخ حسن. لكن على الجانب المقابل، هناك أكثر من وجه مرعب كشفته تلك التطورات، مع إمعان بتضخيم وتهويل إعلامي كبير، ألا وهو حقيقة الدور المناط بمصر، منذ التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، التي مرت ذكراها الطيبة بصمت مريب قبيل بضعة أسابيع.

فمنذ حقبة الانهيار العربي الكبير الذي رافق التوقيع على ما يسمى باتفاقيات السلام مع إسرائيل، وترافق ذلك جهود محمومة ومضنية ودعاية صاخبة لتضليل وتزييف الوعي العام، وقلب للمفاهيم، وتشويه وتحطيط وتسفيه لكل القيم الأخلاقية والنضالية النبيلة التي عرفتها البشرية عبر التاريخ، والنيل منها وترذيلها لصالح تعويم وتفضيل قيم التخاذل والتواطؤ والرثاثة والانبطاح والتبذيل. ولعل أولى بواكير تلك العملية هي وصم مجاهدين، ومناضلين، وثوار طالبي حرية إنسانيين، بالإرهابيين، ومحاكمتهم على امتلاكهم لقيم نبيلة، ومعادلتهم موضوعياً ومفاهيمياً وتسويقهم إعلامياً على قدم وساق مع قتلة وجزارين وسفاحين كبار كأولمرت، وليبرمان، وبوش وبلير، وباراك وبيريز، وفاتنة الموساد...إلخ. وهذا يعني في الحقبة المصرية الحديثة أن سامي شهاب هو بنفس مكانة أي قاتل وتاجر مخدرات ومنتهك للقانون بدل تكريمه وإعلاء شأنه وتعميم أنموذجه السلوكي. وتمضي المنظومة المعيارية المستحدثة إلى اعتبار أية محاولة لمد يد العون للمحاصرين والمظلومين، ومقارعة المحتلين الغاصبين جريمة، وخرقاً للقوانين والدساتير وانتهاكاً للسيادة. (ولا ندري، في هذا السياق، ماذا تبقى من سيادة مصرية، وهي مكبلة بأصفاد كامب ديفيد الغراء، ولا تجرؤ، وهذه الحال، على إرسال فصيلة من عدة جنود إلى سيناء، أو مجرد السماح لأطفال مصر باللعب بالطائرات الورقية، في سماء سيناء، خوفاً على أمن إسرائيل وقدسية مجالها الجوي).

فما جاء من اعترافات مصرية للعلن، بإلقاء القبض على مقاومين، وليس لصوص ولا قتلة ولا زناة أو مهربي أسلحة وتجار مخدرات، وتقديمهم للمحاكمة وفقاً لذلك، يشكل اعترافاً رسميا خطيراً من قبل مصر بما آل، وانتهى إليه الدور المصري كمجرد quot;شيخ خفرquot;، على البوابة الإسرائيلية لصد رياح المقاومة وquot;الصداع الجهاديquot; عن المحتل الصهيوني. وتحول مصر من ريادة المنطقة حضارياً وتنويرياً ونهضوياً عبر نشر قيم النضال ومقارعة الطغيان والاحتلال، إلى مجرد حامي للقيم الكولونيالية الاستعمارية وتطويع الشعوب وتدجينها لصالح شياطين الشر ومشروعهم الاستيطاني العدواني في المنطقة. وتطبيق استراتيجية ممنهجة أدت لانزياح حاد لمفهوم الأمن القومي العربي، الذي انهار تالياً بشكل كلي، لصالح إحلال أمن إسرائيلي بديل مكانه، وإيلائه الأهمية الأولى والقصوى والمطلقة. وعلى خط مواز، تحولت مصر من وطن حاضن لطلاب الحرية والثوار ورجال الفكر المناهضين، إلى مجرد مخفر متقدم لاصطياد وتتبع المقاومين الباحثين عن غد مشرق وأفضل لشعوب المنطقة.

ومصر حاضنة الأزهر، الذي اشتق اسمه التاريخي، من سيدة نساء العالمين، حسب الخطاب الشعبي العفوي البسيط، ووطن التسامح والتعددية حيث كانت الإسكندرية تعج بعشرات الجاليات اليونانية والإيطالية واليهودية...إلخ، قبيل انقلاب أصوليي القومية العربية السلفية على عصر التنوير المصري في 1952، لإحياء أمجاد الأمة الغابرة بقيادة شيخ شيوخ الطغيان والدكتاتورية العربية الأمنية الاستخباراتية جمال عبد الناصر، مصر هذه أصبحت تحذّر من التنصير والتشيع، وتعتبرهم أخطر من الفكر الصهيوني، ومقام الحسين في قلب القاهرة يكتظ يومياً، وعلى مدار الساعة، وقد شهدت ذلك بأم عيني هاتين، بعشرات الآلاف من المصريين، وغير المصريين الذين يكنون الود والمحبة والولاء لآل بيت الرسول. وإذا كنا نتفهم المخاوف والخلفيات الإيديولوجية المتوجسة من التشيع الصفوي الفارسي المجوسي حسب الخطاب، إياه، فما هو الدافع لمنع إمدادات غذائية وإنسانية وطبية عن أطفال حماس من quot;السنة العربquot;، لولا أن القضية أكبر من ذلك، وتتعلق برمتها الالتزام باستراتيجيات مغايرة لمصلحة شعوب المنطقة، على اختلاف انتماءاتهم؟

ولو كانت قضية أمن قومي لكان حرياً بمسؤولي مصر أن يعلنوا فوراً عن إلغاء زيارة نتنياهو وليبرمان إلى القاهرة بعد دعوة ليبرمان العدوانية العلنية لإغراق مصر والقضاء على الحياة المستقرة فيها حالياً وذلك عبر قصف السد العالي.

مصر، إذن، وبموجب اتفاقية كامب ديفيد، وملحقاتها السرية، بات عليها أن تؤازر إسرائيل أمنياً، وتساهم في ذلك، وهذا هو ما فعلته حين قبضت على مقاومين ومجاهدين جريمتهم الكبرى، ويا للعار الكامب ديفيدي، محاولة التسلل إلى إسرائيل. فإسرائيل التي عجزت عن ضبط تهريب السلاح والغذاء والدواء إلى المقاومة عبر الأنفاق، أوكلت هذه المهمة، للمحروسة التي قامت، وتقوم، بالواجب على أتم وجه، وأرسلت رسائلها التطمينية لأمريكا وإسرائيل. فما تعجز عنه إسرائيل اليوم تتكفل به المحروسة بكل رحابة صدر. ولذا فتبدو الصورة اليوم، وكما ترسلها مصر عبر سياستها، واعترفت بها مؤخراً، هي بأن مصر وإسرائيل في صف واحد، وباقي المجاهدين والمقاومين في صف آخر.

لا يمكن اعتبار ما حدث بالأمس القريب على صعيد هذا الملف الفضيحة، الذي شوّه وجه المحروسة، وأظهرها كنصير وظهير للمغتصبين، والذي وجب-الملف- لملمته ودرء خروجه للعلن، لأنه إدانة كبيرة لمصر أن تحاكم وتصطاد مجاهدين ومقاومين في سبيل الحرية، نقول لا يمكن اعتباره إلا اعترافاً علنياً خطيراً من مصر بحقيقة الدور الذي تقوم به في حماية أمن إسرائيل والذود عن quot;حياضهاquot; بالمصريين أنفسهم، مضحية بذلك بتاريخ، ودور مصر الحضاري العريق، واعترافاً بانسحاب علني من أي دور يصب في الصالح العربي.

نضال نعيسة
[email protected]