يبدو أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية لم تتوقف، حتى قبل أن تبدأ بعد. ومن هنا، لا يمكن النظر لتصريحات الرئيس الإيراني إلا في نطاق تلك الحرب الدائرة منذ بزوغ فجر الثورة الإسلامية الخومينية وحتى يومنا هذا. وتصب تلك التصريحات في بوتقة من تلك الحرب التي تأخذ طابع الكر والفر، حتى في جانبها الإعلامي، على الأقل، وإن تكن هذه المرة قد أخذت طابع الفر من قبل نجاد، على ما يبدو. وقد تأتي، في سياق محتمل، وفي إدراك للوله الأمريكي بالدولة العبرية، كنوع من رد التحية، ليس لإسرائيل، ولكن لراعيتها الأمريكية، بما أن الردود حتى الآن، على تحية أوباما بمناسبة اليوم الوطني الإيراني، كانت في معظمها، صادّة، فاترة وغير متحمسة. ونجاد، بدوره، لم يرد أن يقطع كل جسور التواصل مع الأمريكان.
وعلى أية حال، فقد سجلت تصريحاته الأخيرة إلى محطة ABC News تحولاً في خطابه حيال الدولة العبرانية، والتي قال فيها لأول مرة بأن إيران ستدْعمُ حَلَّ الدولتين، ما فسره المراقبون، اعترافاً ضمنياً بالكيان الصهيوني.
واعترف الرئيسُ الإيراني محمود أحمدي نجاد بحقّ إسرائيل في الوجودِ للمرة الأولى، في مكان آخر في المقابلة، قائلاً: quot;إذا توَصل الفلسطينيون إلى حل الدولتين فأنّ ذلك سيكون أمراً طيباً مَعناquot;. غير أنه كان قد صرح، سابقاً، بأنّ إسرائيل يَجِبُ أَن تزال عن الخريطةَ . ويعكس خطاب الرئيس الإيراني، عادة، رأي المؤسسة الفقهية الإيرانية التي تقف وراءه، ولاشك، أنها أرادت أن ترسل من خلال ذلك رسائل عدة متناقضة، بآن واحد، لإحداث قدر من التوازن الذي يبدو مفقوداً في البلاغة الإيرانية، حيال quot;الكيان الصهيونيquot;، وكل ما يتعلق به، وليمتص، من ثم، تلك النقمة والاستهجان الكبيرين الذين لاقته تصريحات الأسبوع الفائت، وربما، تخفيفاً من نبرة التحدي والمواجهة التي دأب نجاد على إطلاقها، ولاسيما بعد عاصفة الاحتجاجات الغربية الحادة التي جوبهت بها تصريحاته في الأسبوع الماضي، في مؤتمر دوربان 2 المناهض للعنصرية، وتمثلت بانسحاب جماعي غربي، غير مسبوق، من قاعة المؤتمر.
وطبعاً لا يمكن النظر لهذه المواقف الجديدة بمعزل عن quot;رضاquot; المؤسسة الكهنوتية الإيرانية، كما لا يمكن التعويل عليها، في نفس الوقت، والتفاؤل بالذهاب بها إلى مداها النهائي والقول، بقرب قيام إيران بالاعتراف بإسرائيل. لأنها تبدو، في أحد جوانبها، كمحاولة للدخول في مزايدة سياسية، وquot;تقديم عروضquot;، يبدو الاعتراف بإسرائيل أحداها، والتي من الممكن مقايضتها، في حال أقدمت الولايات المتحدة، والغرب معها على التراجع عن غلوه، تخفيف رزمة الضغوطات المختلفة على إيران، والإيحاء بضرورة الاعتراف بها كعضو جديد في النادي النووي الدولي، وتنصيبها، لاحقاً، كشرطي مستقبلي في مخفر هذه المنطقة، التي تغفو على كنوز الذهب الأسود، أي ما يعني عودة للدور الشاهنشاشي، بعد تعثر هدف تصدير الثورة، وبعد ما يبدو، من أن الولايات المتحدة لم تعلم، البتة، في ضوء التحولات التي حصلت في المنطقة، وانقلاب السحر على ساحره، لماذا أطاحت بالنظام الشاهنشاهي، وفرضت بدلاً عنه نظام الملالي؟
وفي جانب آخر يتصرف نجاد، تصرف الند للند في عملية مقارعة، ومعاندة الولايات المتحدة، حين يضع شروطه للتفاوض مع الولايات المتحدة، إذ يرحب، حسب قوله بـ: quot; مفاوضات بناءً على خطوط عامة واضحةِquot;.
غير أن هذه التصريحات تستبطن، في بعض من أبعادها، نفوذ إيران المتعاظم في المنطقة، وسطوتها على فرقاء إقليميين، ومحليين، لهم قوى ظاهرة على الأرض، وتوقف حلول، في غير ملف على موافقتها، أو عدم موافقتها عليها.
وربما شكلت تصريحاته، أيضاً، اعترافاً بالمحرقة كما هو معروف في لغة أهل الدبلوماسية، حين قال: quot;إذا كان هذا في الحقيقة حدثاً تاريخياًquot;. أو كما قال في معرض حديثه عن قتل ستة ملايين يهودياًَ مِن قِبل النازيين، وخفف من لهجته حيالها حين أضاف: quot; لكن لماذا يُريدونَ تَحويلها إلى قضية مقدّسة؟ ولا ينبغي، أو يجوز لأحد أن يسأل أي سؤال حول الموضوع؟quot;
بالمطلق، والنهاية، لن يتم التعامل مع تصريحات أحمدي نجاد من قبل الغرب كنقطة تحول استراتيجي في سياسته، فهو قد دأب على رفض وجود إسرائيل في أكثر من مناسبة، والنظر إليها-التصريحات- فقط، من باب المناورات، وفتح بازارات الحروب الإعلامية، الجارية، على قدم وساق مع حروب أخرى، لا تقل ضراوة وشراسة عنها، علها تفضي إلى أية صفقات. وكلمة بازار ، بالمناسبة، هي كلمة فارسية أصلية.
أما إذا حصل quot;المحظورquot;، واعترفت إيران بإسرائيل، وهذا أمر جد مستبعد، حالياً، وإن لم يكن غير مستحيل، ولكن بعد إجراء سلسلة طويلة من ترتيبات كثيرة على صعيد الإقليم ككل، فإن ذلك سيبدو أكثر من مجرد تحولات استراتيجية عميقة، ليس من قبل إيران، فحسب، ولكن من قبل الجميع.
ولكن، يبقى السؤال الأبرز، هل يمكن لهذه المنطقة أن تعيش يوماً واحد بلا صراع، أو توتر، ومواجهة، وتهديد ووعيد ما؟ بل، وهو الأهم، هل سيكون عندها، أي مبرر، للوجود الأمريكي في المنطقة؟
- آخر تحديث :
التعليقات