ديمقراطية الهوامش الحرة في الفضاء العربي: إيلاف في عامها التاسع

إذا كانت الديمقراطية الليبرالية في إحدى سماتها العميقة تنطوي على انحياز للأقليات الثقافية والعرقية، يتجاوز ما وراء فكرة الأغلبية، إلى سياق فلسفي يفترض أن نسبية الحقيقة السياسية والثقافية قابلة للتشظي على كل الهوامش الحرة التي تمثلها الأقليات في موازاة تلك الأغلبية ؛ فإن ثمة انحياز آخر لا يقل في معناه عن ذلك الإدراك المتعدد لإمكانية وجود الحقيقة بين الأقليات ؛ وهو انحياز يجعل من الاهتمام بصوت الأقليات وتقديمه نحو المتن العريض في الحياة الديمقراطية، ضربا من ضروب الوعي المتقدم بفكرة تجديد زوايا النظر وتدوير قيمة المعرفة حيال مفاهيم لا تزال تثير ضبابا آيدلوجيا كثيفا في الفضاء العربي، كمفاهيم الأمة والوطن والدولة. ذلك أن الانحياز الديمقراطي هنا لا ينعكس فقط كحالة من حالات حرية إبداء الرأي، وإنما أيضا كضرورة تنتبه إلى حيثية الهامش الأقلوي كوجه آخر من وجوه الذات التي يمثلها المجتمع الديمقراطي. وإن اكتمال الذات وتصالحها مع نفسها لا يمكن أن يكون إلا عبر التحديق في ذلك الوجه.

هذه السمة المركزية للديمقراطية الليبرالية تقابلها سمة نقيضة لها في التوتاليتاريات والأنظمة الشمولية، أي في قمع الهامش الأقلوي، إما عبر دمجه في المتن بقوة لا يرغب فيها أو عبر إنكاره إنكارا مطلقا. وخصوصا حين يكون هذا الهامش ثقافيا أو عرقيا أو دينيا، فهنا لا يظهر الإقصاء عبر الفعل السياسي فحسب، بل يتجاوزه إلى التهميش الثقافي والإهمال، عبر بناء تصورات للأمة والوطن لا تعكس إلا الأوتقراطية الثقافية المؤدلجة في أشد صورها قبحا. وتكون النهاية هي تراكم احتقانات الإقصاء والتهميش لتعبر عن نفسها بردود أفعال طبيعية وتنفجر بقوة دافعة لاستعادة وجودها المقموع.والنتائج حروب أهلية كما حدث للأكراد في العراق، والجنوبيين في السودان.

ما يهمنا هنا هو أن الواقع الإعلامي في الصحافة العربية كان انعكاسا للواقع الذي خلقته أدلوجة الأمة الواحدة، والنسيج الواحد الذي لا يرى في مفهوم الوطن والأمة إلا كتلة صماء ولونا قاتما.

ثمة الكثير من الاختلافات في نسيج العالم العربي تستحق الكثير من الإصغاء، ليس لأنها أصوات غريبة، وإنما لأنها صور آخرى من تعدد وجوه الذات الثقافية والتاريخية للعالم العربي، تعبر عن رصيد تاريخي إنساني يجعل من الاختلاف غنى لنسيج الحياة الحرة، ويمنح التعدد صورا للحقيقة النسبية حيال مفاهيم الأمة والوطن وهكذا تنزع الديمقراطية الليبرالية عبر رؤيتها الحرة للحقيقة المتشظية في نسيج الواقع الاجتماعي فتيل القنابل الزمنية للمشكلات التي يمكن أن تكون حاملة للاحتقان في المستقبل إذا تم تهميشها وإقصاؤها عن حقها الطبيعي في الوجود.

صحيح أن الأغلبية لها ثقلها الوازن في الواقع، ولكن وجود هذه الأقليات المتنوعة في الهوامش العربية دليل على وجود حقيقي خلق مع الزمن وعبر قوانين الاجتماع والتاريخ واللغة برزخا استقطب تناقضاته دون أن يضطر إلى الانسلاخ من نسيج الحياة العربية. هكذا كانت أسماء بعض الدول العربية مثل اسم مصر في اللغات الأجنبية كدلالة على القبط، ومثل سورية (نسبة إلى أقلية السريان) والسودان (نسبة إلى الزنج) ظواهر جلية ليس فقط لمعنى الأقليات ـ سواء بالنسبة إلى الوطن أو إلى الفضاء العربي ـ وإنما أيضا للمفارقة الكامنة أصلا في التداول العام للاسم العلم في تلك الدول. فهذه الأسماء هي الدلالة التاريخية التي استعصت على التغيير تعبيرا عن وجود تلك الأقليات كما في مصر وسورية.

والحال أن المفارقة هنا تكمن في أن مفهوم الأقليات الذي تضمن له الديمقراطية الليبرالية مكانا مرموقا في الحياة العامة، هو أقل من أن يستوي معنى لمفهوم تلك الأقليات التي كانت أغلبيات في لحظة ما من تاريخ الأمة أو الوطن العربي. بالرغم من أن واقع تلك الأقليات الآن في الفضاء العربي يطرح حقائق مؤسفة من الإقصاء والتهميش تجعل تلك الأقليات أقل بكثير من الاستحقاق الذي تضمنه الديمقراطية الليبرالية؟!هكذا يمكننا القول أن تجربة صحيفة إيلاف الإلكترونية حيال انفتاحها على أصوات الهوامش العرقية والثقافية والدينية في الفضاء العربي، لا يمكن أن تكون إلا خطوة رائدة ومعبرة عن معنى الإصغاء لتلك الأصوات كقناعة إعلامية ديمقراطية تدرك فكرة الحقيقة المتشظية في النسيج الاجتماعي والثقافي لمكونات الفضاء العربي. وبذلك تنزع القناع الآيدلوجي الذي أصبح متهافتا وبصورة رثة لا يمكنها أن تثبت أمام أي اختبار معرفي وموضوعي لتفكيكه وتجريده عن أوهامه الآيدلوجية؟. وبالرغم من أن الخطاب الآيدلوجي للأنظمة العربية أصبح مكشوفا بفعل ثورة الأنفوميديا (الإتصالات والمعلومات) وأصبحت المعلومات المتاحة في الانترنت كافية لكشف الأيدلوجيات العتيدة، معطوفا عليها تعدد الوسائط الإعلامية، إلا أن هناك أيدلوجيا تاريخية مازالت تعشش في أذهان الجماهير العربية حيال الكثير من التصورات التي تحتكر رؤى أحادية منمطة، ينتج عنها إقصاء ضروري يضع الأقليات العرقية والثقافية والدينية في سياق عازل، ولا ينظر إليها إلا بصورة مجردة عن حيثياتها التاريخية والثقافية.

يتعدد مفهوم الأقليات داخل الدولة العربية الواحدة، كما يتعدد في الفضاء العربي العام فتصبح بعض الكيانات ذات الخصوصية الثقافية في الفضاء العربي عرضة لذلك العزل، ويسهم في ذلك الكثير من الأسباب المتصلة بالتخلف العربي والوعي التقليدي الذي لا يحدق في الحقائق الأخرى لتلك الأقليات كحقائق موضوعية داخل النسيج المتعدد لمكونات الحياة العربية. وما يغيب عنه تلك الحقائق : مجموعة من الأوهام التي تأخذ نمذجتها من تصورات بسيطة ـ غريزية في الأغلب ـ تنزع إلى حالة متوهمة من الصفاء العروبي تغذيها عناصر الائتلاف كاللغة واللون والعرق، بحيث يصبح كل من لا يتماهي مع تلك المعطيات الغريزية، خارجا عن مركز التطويب والقبول الذي تضمره تلك الآيدلوجيا الأوتقراطية. وبحسب هذه النمذجة سنجد تهميشا غريزيا يقع على الأكراد والأقباط والسودانيين لجهة الصورة الأقلوية التي تعكسها الطبيعة العرقية و الدينية و اللونية على التوالي. وهكذا كان يمكن للروائي السوداني الطيب صالح صاحب (موسم الهجرة إلى الشمال) مثلا أن يكون مغمورا، مرة وإلى الأبد، في مثل هذا المحيط لولا وجوده في المتربول اللندني، ولولا أن انتشاره وحضوره في ذلك الفضاء الديمقراطي المغاير للفضاء العربي ؛ أصبح سببا لانتشاره عربيا.

وبهذا الأسلوب تعـَّوِم تلك الايدلوجيا الأوتوقراطية التهميشَ كسمة أصلية دائمة في نظامها وشعارها مهما تنوع ذلك التهميش دينيا أو لونيا أو لغويا أو ثقافيا وحتى مذهبيا ؛ ذلك أن التهميش بأنواعه هنا يأتي كنقيض لتلك النمذجة ويستدعي وجودها وجوده لأن الفاشية لا تقوم إلا على محو التنوع والعداء معه، فالتهميش هنا يعكس مفاعيل الآيدلوجيا السائدة لا سيما تلك التي رسختها الكثير من السرديات والأساطير في الإعلام والتعليم العربي. والتعويم الفاشي لتلك النمذجة يستند بالضرورة على فكرة المركز والهامش ؛ وهي فكرة أوتوقراطية بغيضة، ولا تكاد تجد لها معنى في الكيانات الديمقراطية ؛ لأنها فكرة تكرس النمذجة باعتبارها مثالا أحاديا يخضع الجميع لتصوراته ـ فكرة العاصمة والأقاليم ـ (أليس من اللافت للنظر أن مدينة مثل واشنطن لا تكاد تحظى بتأثير كبير على حياة الأمريكيين، مثل ولايتي نيو يورك وكاليفورنيا مثلا)..غني عن القول أن مثل هذه الأمراض المستوطنة في المنطقة العربية عبر الأساطير القومية والسياسية التي تلغي الآخر الحميم والمشابه لبعض خصائصها، ستظل تعمل وفق بنية قادرة ولعشرات السنين على إعادة إنتاج ذلك التهميش مادامت الآيدلوجيا الأوتقراطية هي التي تتحكم في مناخ التصورات العامة للجماهير العربية. وفي هذا المناخ يمكننا أن نتأمل مغزى الريادة الإعلامية لصحيفة إيلاف وهي تخترق تلك البنية بخطاب إعلامي ديمقراطي يتبنى تلك السمة الإنسانية العميقة للديمقراطية حيال الأقليات. ذلك أن أدنى سياق للقبول بفكرة الانحياز للأقليات هو : أن الأغلبية بطبيعتها إذا لم تنطوي على معناها العقلاني والديمقراطي، ستنعكس بالضرورة أوتوقراطية تبتلع حقوق الأقليات الأخرى، ليس فقط لأنها أقليات، وإنما لأن الأغلبية الأوتوقراطية لا تقبل بأقل من ذلك. الأكراد والأقباط والسودانيون وغيرهم من الأقليات العرقية والدينية واللونية والمذهبية في الفضاء العربي كيانات ليس من حقها فقط الانهمام بقضايا الفضاء العربي المشترك، بل وكذلك التعبير عن خصوصياتها وهمومها في مناخ ديمقراطي يستوعب تلك الخصوصيات كألوان في نسيج الحياة العربية. المفارقة في تجربة إيلاف أنها ترتاد مشروعها في زمن أصبح فيه النشر الإلكتروني أثيرا شفافا وعابرا للحدود والقارات، لتمنح أصوات الهامش آفاقا لا متناهية في النشر الإعلامي العربي، ولتجعل من ضيق الهوامش فضاء للأصوات الحرة تأكيدا لبيت أمير الشعراء أحمد شوقي الشهير:

رب إن شئت فالفضاء مضيق

وإذا شئت فالمضيق فضاء

محمد جميل أحمد

* كاتب سوداني