ثمة شواهد و أدلة لا تقبل الشك تشير إلى سعي النظام السوري وضمن إطار إدارته للأزمة الحالية مع العراق لتنسيق التوجهات البعثية العراقية المختلفة وصولا لتحقيق وحدة حزب البعث العربي الإشتراكي الممزقة تحديدا منذ 23 شباط / فبراير 1966 الذي قامت به اللجنة العسكرية السورية بقيادة صلاح جديد و محمد عمران وحافظ الأسد ضد القيادة القومية و المؤسسة للحزب أي ضد ميشيل عفلق و رفاقه و جماعة الرئيس السوري الأسبق أمين الحافظ، في ذلك الإنقلاب إنتهى و إلى الأبد الوجود الموحد لحزب البعث العربي الإشتراكي بصيغته المعروفة و حيث تحول البعث لبعثان يساري مراهق و طفولي مغامر في الشام وهو الذي خاض حرب الأيام الستة لعام 1967 مع إسرائيل بهيئة أركان عسكرية من صغار الضباط المفتقدين لأي خبرة و تمرس مما ساهم في تمزيق الوطن السوري و ضياع هضبة الجولان بعد حفلات الإعدام الجماعية التي تعقب كل مؤامرة إنقلابية فاشلة.

و بعث يميني في العراق ساهمت بريطانيا و بعض الدوائر الغربية بإيصاله للسلطة في العراق للمرة الثانية عام 1968 و الذي إستمر عهده طويلا لم ينته إلا مع الإحتلال الأمريكي عام 2003 و لكن ليس قبل سلسلة من الأحداث الدرامية الهائلة من إفتعال للمؤامرات و من تصفيات داخلية و حروب إقليمية كبرى كالحرب الطويلة و القاسية مع إيران ( 1980 / 1988 ) و غزوات جاهلية مقيتة دمرت العالم العربي و كسحته بالمطلق مثل ( غزو الكويت ) عام 1990 و الذي كان بداية النهاية الفعلية لكل المنطلقات الآيديولوجية و الشعارات القومية لحزب البعث التي لم تجد ترجمة حقيقية لها إلا من خلال سياسات و قيادات دكتاتورية و فاشية أساءت أكبر إساءة للفكرة القومية العربية التي تراجعت حظوظها في الشارع العربي لصالح المشروع السياسي الأصولي الذي إكتسح العالم العربي لدرجة أن حزب البعث العراقي نفسه تحول في أخريات أيامه لحلقة دروشة دينية بعد سلسلة الهزائم و قيام ما كان يسمى بالحملة الإيمانية الكبرى إعتبارا من عام 1994 و بما وفر قاعدة عمل منهجية و منظمة لتسلل و سيادة التيارات الدينية المتطرفة في الشارع العراقي رغم غربتها التاريخية عنه.

فالمعروف عن العراقيين عموما بمختلف طوائفهم و أديانهم إعتدالهم و سعة أفقهم و عدم تعصبهم في أمور الدين و المذهب، وطيلة العقود الخمسة الأخيرة كان نظاما البعث في الشام و العراق يعيشان حالة واضحة و معلنة من العداء المتبادل لدرجة أكثر من الكراهية بل و عملا سوية على إسقاط بعضهما الآخر عبر مختلف الوسائل و الأساليب، بل أن العداء الشديد بين الفرعين البعثيين قد ألقى بظلاله الكئيبة على علاقات الشعبين العربيين في سوريا و العراق فطيلة الأعوام الممتدة من 1980 و حتى عام 1997 إنقطعت كل وسائل الإتصال بين البلدين وحتى تبادل الرسائل بين مواطني البلدين لم تعد ممكنة فضلا عن الإغلاق التام للحدود المشتركة ووقوف نظام دمشق عسكريا و سياسيا بجانب النظام الإيراني في الحرب ضد العراق و هو ما أسس لعلاقة شراكة ستراتيجية بين دمشق و طهران تعززت في سوح عمل إقليمية عديدة و ساهمت في إدخال النظام الإيراني لقلب العالم العربي وحيث تسلل الحرس الثوري ليقيم قواعده في لبنان تحت غطاء قوات الإحتلال السورية و ليؤسس لعلاقة عمل و تعاون مهمة في مجال إعداد و تدريب الجماعات الإرهابية الممولة من النظام الإيراني كجماعة حزب الله و جماعات المعارضة العراقية السابقة و التي نفذت أعمالا إرهابية معروفة في بلدان الخليج العربي من خلال إمكانيات الدعم اللوجستية التي توفرها المخابرات السورية.

وكانت حروب المخابرات العراقية و السورية حروب معروفة وساخنة للغاية إنعكست على وضعية البعثيين العرب المرتبطين بقواعد تنظيمية في كل من دمشق و بغداد، وليس سرا معرفة حقيقة إن إنتشار حزب البعث العراقي في الساحة العربية هو أكثر من إنتشار حزب البعث السوري، فالبعث العراقي كان ينهل من عطاء الثروة النفطية العراقية و إمكانيتها المادية الكبيرة في التمويل و التبشير و حشد الدعم، لذلك كانت أحزاب البعث المرتبطة بالنظام العراقي في كل من الأردن و السودان و اليمن و فلسطين و إلى حد ما في بلدان المغرب هي الأنشط، فيما حسم الجهد الإستخباري السوري وضعية حزب البعث في لبنان لصالح الولاء السوري بسبب وجود قوات الإحتلال السورية.


البعثيون في قصر النهاية

وفي عودة سريعة للماضي القريب فإن أول النشاطات التي قام بها قادة حزب البعث العراقي ( اليميني ) بعد هيمنتهم على السلطة عام 1968 كانت في قصر النهاية وهو المقر التعذيبي الكبير الذي خصص للتعامل مع قوى المعارضة السياسية في العراق! وكان أولى زبائن و ضحايا ذلك المعمل التعذيبي هم الرفاق البعثيون ما غيرهم ثم تبعهم القوميون الناصريون قبل أن يتخصص ذلك المعتقل في صهر الشيوعيين و الإسلاميين ( سنة وشيعة )!!، ثم ليحاول قادة ذلك المعتقل وفي طليعتهم الإرهابي و الجلاد المعروف ( ناظم كزار ) الإنقضاض على السلطة عام 1973 ليعدموا و تجتث شأفتهم بالكامل و يهدم القصر ولكن لتبنى بدله مقرات تعذيبية و مسالخ أخرى كبيرة!!، المهم أن البعثيين اليساريين المحسوبين على الخط السوري كانوا أول الضحايا و الضيوف و كان البعض منهم تدس له المواد السامة ليطلق سراحه و يموت ببطء في منزله كما كان الحال مع الرفيق ( مجدي جهاد )!!

و غيره، كما تعرض الآخرون للإغتيال في بيوتهم كالعميد عبد الكريم مصطفى نصرت!! أو أصبحوا ضحايا لفؤوس و سواطير عصابة ( أبو طبر ) الإستخبارية التي روعت العراق مطلع سبعينيات القرن الماضي قبل أن تختفي فجأة كما ظهرت فجأة!!


كما وصلت اليد الطويلة للمخابرات العراقية لمقر القيادة القومية السورية في دمشق لتغتال الأمين القطري العراقي أحمد العزاوي في مكتبه عن طريق قنبلة زرعت هناك عام 1976!!، فيما كان رد الفعل السوري محدودا للغاية لضعف الإمكانيات و أكتفى بتخصيص سجن ( الحلبوني ) في دمشق ليكون المستودع التعذيبي للبعثيين السوريين أو العراقيين المرتبطين بقيادة فرع العراق؟


و إعتبارا من عام 1975 شهدت العلاقات العراقية / السورية تدهورا خطيرا بعد قطع النظام السوري لمياه نهر الفرات عن العراق بعد إقامة سد الأسد وقيام النظام العراقي بعقد إتفاق الجزائر الحدودي مع شاه إيران الذي أنهى الحركة الكردية المسلحة في شمال العراق بعد التنازل العراقي عن الحقوق العراقية التاريخية في نهر شط العرب وهو ما تمسك به النظام السوري في حملته المضادة.

و رغم أن حرب تشرين عام 1973 قد أفرزت تعاونا عسكريا ملحوظا إلا أن الموقف تدهور بعد وقف إطلاق النار في 23 أكتوبر 1973 و سحب العراق لقواته من الجبهة السورية وحيث كان السوريون يخافون من دخول القوات العراقية لدمشق خوفا من محاولة إنقلاب عسكري يخشونها!!

وهكذا فقد كان العلاقة كانت فضائحية بالكامل بين النظامين!

بعد مبادرة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة القدس في 17 نوفمبر 1977 تغير المناخ الإقليمي و تقارب النظامان البعثيان في بغداد ودمشق و عقدت قمة بغداد العربية عام 1978 و أزداد التنسيق السياسي العراقي / السوري ووصل لحد إذابة الجليد و توقيع ميثاق العمل القومي المشترك و الإتفاق على مباحثات جادة للإنجاز وحدة دستورية و حزبية لتوحيد البلدين و دمج الحزبين رغم وجود عقدة القائد المؤسس ( ميشيل عفلق ) في الذهن السوري تحديدا وهي عقدة كانت حكومة الرئيس العراقي السابق أحمد حسن البكر على إستعداد لتجاوزها بعد الإتفاق المبدأي على إقامة دولة الوحدة على أن يكون الرئيس البكر رئيسا لدولة الوحدة فيما يكون الرئيس حافظ الأسد أمينا عاما لحزب البعث!!

وهي تسوية كانت ستنهي النزاع المزمن، ولكن لا يبدو بهذه السهولة المفرطة في سذاجتها، فلقد كان هنالك الرئيس السابق صدام حسين الذي كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة و كان رجل العراق القوي و الممسك بشدة بخيوط السلطة الفعلية و المهيمن على الشؤون الحزبية في العراق الذي لم يرتح لتلك الإتفاقيات المبدأية و كان يلعب لعبته الكبرى التي كان يعد لها منذ عام 1973 تحديدا للهيمنة المطلقة و الشاملة على العراق وهو ما تحقق فعلا في إنقلاب قصر عزل بموجبه الرئيس البكر و تمت تصفية الرفاق المؤمنين بالوحدة مع النظام السوري و في طليعتهم الخمسة الكبار في القيادة القطرية العراقية ومكتب النائب شخصيا وهم عدنان حسين الحمداني و غانم عبد الجليل و محمد محجوب و محمد عايش و معهم القيادي و المفمر البعثي المعروف عربيا وهوعبد الخالق السامرائي المعتقل في زنزانة إنفرادية للمخابرات العامة منذ عام 1973 و حيث تم إعدام مجموعة من كبار البعثيين في أوائل أغسطس عام 1979 لتنهي فصلا من أكثر الفصول درامية في تاريخ النزاع العراقي / السوري المزمن و الذي لم تنفع في علاجه كل المقويات الممكنة، و ظل نظام البعث السوري خلال مرحلتي الثمانينيات و التسعينيات يحتضن المعارضة العراقية على مختلف فصائلها دون التركيز على جماعته من البعثيين فقط بل على العكس فإنه سلم للأحزاب الدينية المرتبطة بالنظام الإيراني مفاتيح تحرك مهمة ووسائل لوجستية فعالة بدءا من المشاركة في تزوير جوازات السفر العراقية و ليس إنتهاءا بالمشاركة في التهريب بمختلف أنواعه سواءا من خلال الخط العسكري مع لبنان أيام الإحتلال السوري أو مع كردستان العراق.

و النظام العراقي بدوره قدم دعمه للتحالف الوطني السوري المعارض من جماعة الرئيس السوري الأسبق الفريق أمين الحافظ و كذلك قدمت المخابرات العراقية دعما مهما لجماعة الإخوان المسلمين الذين كانت لهم صولاتهم وجولاتهم التعرضية و العسكرية في الشارع السوري في نهاية السبعينيات و بداية الشطر الأول من عقد الثمانينيات قبل أن يستقر الموقف ألأمني في النظامين البعثيين بتصفية الحركة الدينية الشيعية في العراق من قبل نظام البعث العراقي و كذلك تصفية النظام الأمني السوري للحركة الإسلامية السنية في الشام ليستقر الموقف فيما كانت الصراعات الداخلية في كلا البلدين تتفاعل بشكل واضح.

و ظل الحديث عن أي وحدة بعثية مسألة مستحيلة التحقق فضلا عن التفكير، ولكن مع أواخر أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد بدأت خطوات تقارب إقتصادية و سياسية محدودة مع النظام العراقي إعتبارا من عام 1997 و هي علاقات كانت تنمو تدريجيا بشكل حذر وصامت حتى جاء الإحتلال ألأمريكي للعراق و تدفق العديد من قيادات و كوادر حزب البعث العراقي على الشام ليحيي الموات و يعيد تقويم المواقف و التصورات و الرؤى، خصوصا و أن هنالك قيادات بعثية عراقية مخضرمة كانت تقيم في الشام و منظمة لحزب السلطة هناك إستقطبت القادمين الجدد و كان في طليعة هؤلاء عضو القيادة القومية المخضرم الرفيق فوزي الراوي الذي شارك و آخرين و بمساعدة المخابرات السورية في العديد من العمليات الداخلية في العراق وفقا لبيانات الحكومة العراقية.

و اليوم و بعد تبدل التحالفات الداخلية في العراق و لجوء السيد نوري المالكي للتخلص من إرتباطات الماضي القريب السياسية عبر الخروج من عباءة و شرنقة نظام المخابرات السورية و توجيهه الإتهامات العلنية و الواضحة و المركزة للنظام السوري بالتورط في الأعمال الإرهابية في العراق و قيام النظام السوري برفض المطالبات العراقية بتسليم العديد من القيادات البعثية العراقية المتواجدة في الشام وفي طليعتها الرفيق محمد يونس الأحمد و أسماء أخرى قيل أن عددها 227 إسما، فإن متغيرات عديدة قد طرأت و منها الموقف من وحدة الحزب و العمل الحثيث من أجل سد فجوات الخلاف و التوجه نحو بناء تنظيم حزبي بعثي موحد يتجاوز خلافات الماضي و يضع في الإعتبار الحفاظ على وجود و إستمرارية النوع البعثي في ضوء الهجمة المركزة!!

وهو ما يبدو واضحا معه إن نظام الرئيس بشار الأسد يقف اليوم أمام خيار سياسي حاسم يتعلق بالعمل من أجل إعادة اللحمة الداخلية للبعثيين و توحيد الحزب بعد سنوات طويلة من الإنشقاق الذي كان والده أحد قادته الأساسيين خصوصا و أن هنالك أنباء مؤكدة عن توقيع حزب البعث العراقي ( قيادة عزة الدوري ) لإتفاق ستراتيجي مع حزب البعث السوري في خطوة قد تكون الممهدة للدخول في مباحثات قد تؤدي في النهاية لوحدة حزب البعث العربي الإشتراكي من جديد وهو ما سيفرض في حال حصوله مستحقات ووقائع إقليمية جديدة قد تعيد خلط ألأوراق خصوصا و أن إصرار النظام السوري على رفض المطالب العراقية لا يصب في النهاية إلا في إتجاه تعزيز ذلك الإحتمال... و ساعتها فإن حزب البعث الموحد لن يسلم نفسه أبدا للحكومة العراقية لتبقى المفاجآت المدهشة هي الصورة المنتظرة للمشهد الإقليمي المتقلب... فهل سيتوحد البعثيون تحت الراية السورية.....؟

[email protected]