في العهد الإستعماري، كانت حكمة الإٍستعمار الأنكليزي تختلف تماما عن حكمة الإستعمار الفرنسي في الدول المتخلفة التي كانتا تستعمرانها. ففي حين كان الإستعمار الفرنسي يحاول فرض ثقافته على الدول المستعمرة، كان المستعمر الإنكليزي يحتفظ بثقافته داخل ثكناته العسكرية ومراكز إداراته المدنية، تاركا شعوب الدول التي إستعمرها تئن تحت وطأة التخلف والمرض والجهل والتشتت والتفتت والصراعات الداخلية ليتمكن بذلك من إطالة فترة إستعماره؟!. لذلك عندما دخل الإنكليز العراق أوائل القرن الماضي على أنقاض الرجل المريض، تركوا العراق يرزح تحت وطأة حكم صيغ الإدارة العثمانية الغارقة في الفساد بكل بيروقراطيتها وإعوجاجها.
ومازال العراق يعاني من بقاء العديد من تلك الظواهر التي كانت منتشرة في ذلك العهد من الفساد الإداري مثل ( الرشوة والواسطات والمحسوبيات والمنسوبيات وإختلاس أموال الدولة والتقرب من السلطان) وهي ظواهر تحولت الى ثقافة عامة راسخة في المجتمع العراقي لحد الآن.فما زالت إدارات الدولة تعاني من المظاهر السلبية البيروقراطية، ومن إستغلال الوظائف الحكومية للمصالح الشخصية كالإثراء وكسب المؤيدين، وما زالت وظائف الدولة تغري المواطن العراقي لأنها توفر أمامه فرص الإرتقاء الإجتماعي والسياسي والإقتصادي، مع أن وظائف الدولة في كل المجتمعات المتحضرة هي تكليفات وليست تشريفات.
وتعاقب على حكم العراق العديد من الانظمة والحكام، فبعد أن ذهب الإنكليز جاء الحكم الوطني بتأسيس الدولة العراقية على يد الملك فيصل الأول، ثم تحولت الملكية الى الجمهورية، وجاء قاسم وذهب، ثم الأخوين العارفين، أعقبهما البكر وصدام وذهبا بدورهما، ولكن الحال أن إدارات الدولة العراقية ظلت على حالها من تسيد البيروقراطية المقيتة على مؤسسات الدولة حتى أصبح المواطن العراقي في القرن الواحد والعشرين يعيش حاله كحال أجداده في القرون السالفة، يئن تحت وطأة الإجراءات البيروقراطية عند مراجعة دوائر الحكومة لإنجاز أي معاملة رسمية.
اليوم وفي ظل الحكومة الديمقراطية الرشيدة التي تحمل إسما كبيرا وهو ( دولة القانون )، وفي ظل الثورة المعلوماتية التي تجتاح العالم، وتحديث مؤسسات الحكومة في معظم بلدان هذا العالم، ما زالت البطاقة التموينية في العراق، هي الوثيقة الأكثر quot; قداسة quot; التي لا بد للمواطن العراقي أن يمتلكها لكي يثبت عراقيته وإنتمائه الوطني؟؟!!..
وأتساءل مرارا مع نفسيquot; ترى لو لم يحتل صدام أراضي دولة الكويت الذي أدى بالمجتمع الدولي الى أن يفرض عليه حصارا إقتصاديا يضطر معه صدام الى توزيع المواد الغذائية على شعبه بالبطاقات التموينية، كيف كان يمكن للعراقي أن يثبت هويته وإنتمائه الوطني من دون تلك البطاقة؟؟!.. وأكرر التساؤل مرات أخرى، ماذا لو إنتعشت الأحوال الإقتصادية في العراق وإضطرت الحكومة الى إلغاء تلك البطاقة، فكيف يتسنى للمواطن العراقي أن ينجز معاملاته الرسمية من دون أن يمتلك وثيقة توازي تلك البطاقة في القداسة لدى مؤسسات الحكومة العراقية؟؟!!. وهل يعقل أن لا يكون للمواطن العراقي غير بطاقة متهرئة لتثبيت مواطنته أمام دوائر الدولة، وماذا عن البلدان التي لا تستخدم تلك البطاقات التموينية في توفير الغذاء لشعبه؟؟!!..
هذه الإجراءات البيروقراطية الغارقة في التخلف تعرقل حياة المواطن العراقي، وهي جزء من منظومة متكاملة من الإجراءات الأخرى التي تعتمدها دوائر الدولة لتعقيد المعاملات الرسمية للمواطن العراقي، وهي جزء من آفة البيروقراطية الإدارية التي ورثها العراق من الحكم العثماني.
قبل ثمانية أشهر وتحديدا منذ مطلع العام الجاري أوقفت الحكومة العراقية صرف جوازات السفر لمواطنيها من نوع ( ج ). فالجوازات السابقة من نوع ( اس ) التي كانت قابلة للتزوير في أي سوق شعبي لم تعد معظم حكومات العالم تعترف بها، لهذا أعتمد الجواز ( ج ) وهو نوع جديد من الجوازات يصعب تزويره، وأصبح هذا النوع مقبولا لدى دول العالم، ولكن للأسف أصبح الحصول عليها كمن يحصل على مصباح علاء الدين السحري؟؟!!.
عندما أوقفت الحكومة العراقية بقرار تعسفي صرف تلك النوعية من الجوازات لم تتقدم بأي تبرير أو توضيح عن أسباب الوقف، رغم أن مصير ومستقبل العديد من العراقيين أصبح متوقفا بالحصول على تلك الجوازات، خصوصا من المرضى المحتاجين الى السفر للخارج لتلقي العلاجات، أو من الجاليات العراقية المقيمية في الخارج الذين توقفت معاملاتهم الرسمية في بلدان اللجوء، خصوصا فيما يتعلق بمسائل الزواج والإرث ودراسة الأطفال وغيرها من شؤون الحياة اليومية.
والأنكى من ذلك فإن وزارة الداخلية تمتنع حتى من تخويل سفارات البلاد في الخارج صلاحية إصدار تلك الجوازات لمواطنيها العراقيين المقيمين هناك.
ومع كل هذه الصرامة في توقيف صرف الجوازات الجديدة، فهناك مجموعة ممن نسميهم في العراق بالـquot; قجخجيةquot; وهم مجموعة من السماسرة المعتمدين لدى دوائر الحكومة العراقية وخصوصا في دائرة الجوازات بإمكانهم أن يصدروا لك هذا الجواز مقابل مبالغ معينة تدفعها على سبيل الرشوة؟؟!! ومن لا يصدق من مسؤولي وزارة الداخلية والحكومة العراقية فليذهب الى دائرة الجوازات ويجرد عدد الجوازات التي أصدرت خلال فترة التوقف منذ تسعة أشهر..
رغم أنني أرفض كمبدأ أساسي أي شكل من أشكال الواسطة لإنجاز أي معاملة لي لدى الحكومة، لأنني أعتبر ذلك جزءا من حالة الفساد التي حاربتها وسأحاربها بلا هوادة ما دمت أمسك القلم بيدي، ولكن في دولة تغيب عنها سيادة القانون وتكون الواسطة هي الوسيلة الوحيدة للحصول على حق المواطن، وكما يقال فإن الحشر مع الناس عيد، أضطررت أخيرا وفي ظل حاجة ملحة أن أدوس على قلبي وعلى مبادئي وأن أتوسط بخجل كبير لدى أحد القادة الكبار في الدولة العراقية لإصدار جواز سفر لإبن أحد معارفي المقيمين في دولة أوروبية الذي يحتاج الى ذلك الجواز لإنجاز معاملة زواجه هناك، وإلا فهو معرض للطرد منها بعد عدة سنوات من الإقامة.
ورغم تقديري لجهود ذلك المسؤول quot; الكبير quot; في الدولة العراقية، بعد أن تأكدت بأنه حاول بإخلاص أن يساعد في إنجاز تلك المعاملة. ولكن جهوده التي إستمرت لأكثر من شهرين تعثرت بسبب تمسك دائرة الجوازات بتعليماتها وإجراءاتها بوقف صرف تلك الجوازات؟؟!!
وبعد أن شعرت باليأس كنت بصدد إبلاغ الرجل بعجزي عن تحقيق أمنيته وأتقطر أسفا وحزنا على مصير ولده، ولكن صديقا عرف بالمسألة أبلغني بأن هناك طريقة أسهل للحصول على الجواز المطلوب؟؟..
كدت أرقص فرحا لإنفراج الحال ولكني تساءلت مع نفسي كيف أسهل من تكليف أحد كبار قادة الدولة الذي عجز عن تحقيق ذلك. قال quot; إعطني معاملتك وإشفعها بخمسمائة دولار سأسلمك الجواز خلال أسبوع واحدquot;؟؟؟؟؟؟!!!!!
وفعلا خابرت الرجل وأبلغته بهذه الطريقة فلم يتوان عن الموافقة الفورية وقالquot; إصرف كل ما تريد، المهم أن يصلني الجواز في ظرف اسبوعquot;.
إتصلت بصديقي وسلمته المستمسكات المطلوبة وسلمها بدوره الى أحد quot; القجخجيةquot; الذي يتخذ من مقهى شعبي مقرا له، وبعد إسبوع واحد سلمني الجواز فأرسلته الى الرجل.
ولمن لا يعرف فإن الجواز هو الوثيقة الأكثر أهمية لأحوال المواطن الشخصية بعد هوية الأحوال المدنية التي تعتبر أساس المواطنة في أي بلد كان، ويوازي جواز السفر تلك البطاقة من الأهمية خصوصا خارج العراق، وإجراءات الحصول على هذا الجواز وخصوصا في العراق معقدة للغاية، فالى جانب إمتلاك الوثيقة المقدسة quot; البطاقة التموينيةquot; بطاقة توزيع الصابون والدقيق والسكر وحليب الأطفال، هنالك وثائق أخرى مهمة يفترض تعزيزها بطلب الجواز مثل هوية الأحوال المدنية وشهادة الجنسية العراقية، وكذلك حضور طالب الجواز أمام مدير الجوازات شخصيا والبصم أمامه على الطلب.
وما حدث بالخمسمائة دولار الأمريكية الخضراء، إنها تجاوزت كل تلك الإجراءات القانونية والدستورية، وتغاضت عن حضور طالب الجواز لأنه كان في أوروبا وليس في بغداد، وغضت الطرف عن شهادة الجنسية العراقية وهوية الأحوال المدنية المزورتين، كما تركت موقع بصمة صاحب الجواز خاليا الى حين إشعار آخر؟؟؟!!..
بالمناسبة، أود تذكير العراقيين بأن قائمة quot; دولة القانونquot; فازت في إنتخابات مجالس المحافظات بأغلبية الأصوات، وتتوقع هذه المرة أن تحقق نفس النسبة في الإنتخابات البرلمانية القادمة لأنها ببساطة متناهية هي قائمة: quot; دولة القانون في العراق quot;؟؟؟!!!..
ودق يا مزييييكا..
التعليقات