لم أجد طريقة أفضل في وصف الذين حملوا السلاح بوجه العراقيين أِلا عنواناً يميزهم عن حزب البعث الحقيقي الذي وصلت طلائعه الى السلطة في نهاية الستينات و السبعينات من القرن الماضي. وأرى أن المنطق التاريخي يحتم علينا عدم التعميم في تفسير الطلائع البعثية النزيهة والشلل الذي أصاب أعضائها وتمييزهم كقوى عراقية علمية وعلمانية عن أولائك الذين أدخلوا العراق في فترة أحتضار رهيبة وفترة مظلمة مرتْ به ومازالت تسري في العروق كسرطان مميت.


حمل البعث العراقي (العشائري) السلاح وأستعمله في الانقلاب على أنصاره من البعثيين اليساريين أو كما أطلقَ عليهم تسمية (أنصار البعث السوري للقيادة القومية) الى جانب حمل السلاح لتقتيل الشعب العراقي من العرب والأكراد في جنوب وشمال العراق بكل أستهتار وأحتقار للنفس البشرية بسبب الريبة والشك بأخلاص هذه القوى للطاغية وعدم تقديمها الطاعة المطلقة له.

لم تدخل عقول هذه القلة العشائرية تعاليم الحياة البشرية ولا الشريعة الألهية ولم يفقهوا معنى (متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) لأنهم (كما يقول مُحدثي الذي هو محور حديثي هنا ) كانوا يحملون تعليمات مُحددة، أفردها وقرّرها لهم السيد نائب رئيس مجلس قيادة الثورة صدام حسين.


أقول مُحدثي بصفته من القلائل الذين أسند لها السيد نائب مجلس قيادة الثورة في حينه، مسؤوليات حماية النظام وأمنه عندما طلب حضوره ومشي معه خلف بناية المجلس الوطني للحديث عن أعداء الثورة.

وللمتتبع والباحث فأن مُحدثي أصلاً بعثي برز في صفوف الحزب في جنوب العراق وكان له الطموح واللباقة والرؤية وألأصرار في أسناد الثورة وتمكينها، وكان يمثلها بأفكاره الوطنية وشهادته الحقوقية ووظيفته الأمنية الأدارية الجديدة التي أسندها له شخصياً السيد النائب لأنه (ليس من أهالي بغداد) كما أوضحها له في اللقاءات التوجيهية الاولى في بناية المجلس الوطني عام 1975. التقارير الأمنية والكتب والمراسلات السرية التي تجمعتْ أمام مُحدثي في الأيام الاولى كانت مذهلة، كما أن عدد اللجان التحقيقية المُشكّلة كانت كثيرة وشملت التحقيقات ونزع الأعترافات العديد من الشخصيات العراقية من أصحاب المهن التجارية والتكنوقراط والشيوعيين والبعث اليساري والهيئات الدينية.


وكان مُحدثي يعرف أن أبداء رأيه بشأن من ليس له علاقة بمؤامرة ضد النظام لن يغير من ريبة وشكوك صدام في تصفية البعض منهم (أعداء الثورة ) وأبعاد مجموعة الحثالات (كما أسماهم صدام ) الى محافظات أخرى لعدم أمانتهم وضعف أيمانهم بالحزب، ثم، هاجسه في أنتقاء البعض الأخر، التي فهمها مُحدثي على أنها الريبة والشك وليس تقاريرهم المرفوعة له حتى وأن كانت دقيقة.

في عصر يوم خريفي من الأيام التي تلتْ أختلاء صدام الرسمي بمحدثي، طلب مني وشخص آخر من قيادة تنظيم الجنوب، أن نذهب سوية الى كرادة مريم لأنتقاء أحدى الدور المناسبة للسكن فيها مع زوجته ومولودته الجديدة، بعدما خوله النائب ( تكدر تختار البيت اللي يعجبك ويعجب أهلك من البيوت الفارغة القريبة من القصر). والتقينا في بغداد في الأعوام 75 و67، قبل وبعد أن تبوأَ محدثي سلطة أمنية في دائرة سياسية محترفة، وسنحت لي الفرصة لزيارته في مكتبه الخاص مع طلب يتعلق بأخلاء سبيل أحد السجناء. ولأثبات مصداقيته أمامي وأشعاري بصلاحياته الواسعة، فقد أمسك بالتلفون وعرفَ نفسه قبل أن يخبر الطرف الأخر بأنه سيرسل سيارة خاصة لأخلاء سبيل.... فوراً.


ويعود مُحدثي مؤكداً لي بعد سنوات من الفرقة والغربة وهروبه من معسكر مافيا البعث العراقي، بأنه لم تكن في حيثيات الحزب القومية التي حملها ميشيل عفلق ورفاقه في قيادة الحزب القطرية أيضاً، فكرة العشائرية المُسيرة لأمور وتنظيمات البعث وأجهزته بالشكل العشائري المفهوم في العراق.


بقليل من الصبر والتأني يفهم الانسان بأن حيثيات الحزب، قومياً وقطرياً لاشائبة عليها من الناحية النظرية. ومعظم كتب ومنشورات البعث ومطبوعات مناضليه معروفة على الصعيد الاقليمي والقومي. ومن جانبي، لم تكن رغبتي للأستماع والخوض في مواضيع الحزب السياسية أِلا سبب واحد، وهو عدم الأساءة للبعثيين الذين تحملوا ظلم البعث العشائري كما تحملها أبناء العراق الأخرين. والتأكيد على أن كثير من شباب البعث الذي تربى وناضل في صفوفه، غَدر بهم النظام وشردهم في سوريا ولبنان والعراق ودول أخرى.

لم تكن لدي الرغبة لأعادة الحديث عن فترة مظلمة يناقشها من جديد من تمرغ بوحول ومأسي البعث العشائري المعروفة للكثير من الناس أِلا أن مايعيده بعض المطبلين البعثيين القدامى يستدعي الأنتباه والحذر من أستهتار البعث العشائري وأستمرار أغتيالاتهم وأجرامهم وتفجيراتهم.


بداية الحكم البعثي العشائري وضياع الهوية العراقية
كانت مغادرتي العراق قبل تاريخ التهيئة التي تمت لتنصيب النائب عام 1979 ليكون فرعون العراق المطلق. ومعارفي من البعثيين في بغداد والمحافظات العراقية لم يدركوا في البداية أنهم سيكونون مهمشين لا قيمة فعلية لهم في قرارات الحكومة، وقد كانت مفاجأة لهم أن يدخل بعضهم السجون كبعثيين وبأوامر صادرة من (السيد النائب) وليحاكموا بالمثول أمام الرفيق ( وتوت) في محاكمات خاصة أخلتْ بكل قيم البعث والأعراف، أضافة الى مفاجأة الأعدامات المعروفة بعد أجتماع المحاكمة المُرهب للرفاق في قاعة الخلد عام 1979 التي جاءت لتثبيت السلطة العشائرية للسلطة والعبث بمقدرات الوطن وتدميره.


والمفاجأة والصدفة هي التي جمعتني من جديد مع محدثي في أواخر التسعينات في مؤتمرات خارج العراق وكانت حلته السياسية الجديدة هذه المرة quot; معارض عراقي quot; وهي ما دفعتني للكتابة عنه وعن تاريخ حقبة زمنية كنت أتأمل أن أفهمها ويفهمها معي أهلنا في العراق قبل طيها ووضعها في حقب الزمان المظلمة.


أن عقدة الأشكال التي تربكني هي طرق التفكير المرتبطة بما يطلق عليه البعض ألأمانة التاريخية والأصرار على أن مايسطروهُ بأقلامهم هو الحقيقة ورغبتهم في أحتضانها بالشكل الأسمى لها.

ودون أي شك، حزب البعث العراقي كانت له قاعدة شعبية عريضة والمجموعة المدنية التي كنتُ على أحتكاك بها كانت على قدر كبير من الخلق الوطني والأحساس بالمسؤولية وتتمسك بأنضباطية عمل شريف ولاتحمل في ثناياها نويا عدوانية في التصرف أو السلوك. ومحدثي هنا رجل حمل مبادئ البعث وتشبعَ بتعاليمه ونشراته التنظيمية وتبوأ مراكز النفوذ الحزبية والمناصب الأدارية (بأسم معروف من السهولة الأشارة اليه)، كما أنه قاسى كالأخرين غدر القيادات العشائرية. فما هو الجديد في الأمانة والمسؤولية وتقديمها الى القارئ لتقييمها عند أطلاعه على مافعل البعث العشائري في العراق؟

وفي حينها، صدرت أوامر قيادية حزبية ثورية بتعيين بعضهم في مناصب حساسة، وفي رأيي أنهم أعادوا للعالم العربي تراثه وبريقه وفنونه الجميلة ووضعوا العراق علمياً وصناعياً وطبياً وهندسياً في مقدمة دول المنطقة. وكانت الصفوة الأستشارية منهم على علم بأن أنجازاتهم أصبحت مرتبطة تدريجياً برضا الرئيس عنهم و تقديم الولاء والمديح عندما يتطلب الأمر ذلك، كما أن أستمراريتهم في مناصبهم تتعلق مباشرة بطرق رونقة الكلمات الخطابية له، التي أجادها بعض الممثلين وفشل البعض الأخر فيها.


ألتقيتُ مرات ومرات بمحدثي ونخبة متمدنة من جيل الحزب وبعض أعضاء الحزب السابقين (المطرودين ) في فترات متباعدة كما ذكرت سابقاً، وأستفسرتُ عن حقيقة سبب ولائهم الى الرجل الفرد وعصابته العشائرية الواضحة لهم تماماً بدلاً من الولاء للحزب والدولة العراقية!!!! وبكل بساطة تحدثوا بأنه لم يكن هناك حزب أو ولاء ثابت لمبادئ الحزب بعد عام 1979، وأنما أنصب الولاء بثبات للشخص الذي نصَّب نفسه قائداً للقوات المسلحة العراقية ورئيساً لمجلس قيادة الثورة ومنح أفراد عشيرته وحمايته وحرسه ألقاباً حزبية وأدارية دون معرفتهم لماضمينها بل أن بعضهم بصق على منشورات البعث كما فعل وطبان التكريتي عندما أصبح وزيراً للداخلية. فحالة الخوف السياسية هي التي صنعتْ المواطن العراقي في تلك الفترة وتغلبت الهوية السياسية ذات الطابع العشائري على الهوية العراقية لتصبح الظاهرة والمقياس للوطنية الى حد هذا اليوم.


ويقول محدثي الآخر أن واجباتهم تقلصتْ كما يعرف الجميع، مع بداية الحرب العراقية- الأيرانية، الى مجرد دعوات تنظيمية باسم الحزب، خاصة في وسط وجنوب العراق للدفاع وترويج قدسية القائد العشائري الضرورة، مع معرفتنا بأن أمر تقطيع أعناقنا قد يتم بين ليلة وأخرى لأنتشار رعاع المخابرات وخلايا مخابرات حزبية من حملة السلاح والأغتيال الخاصة. والحقيقة التي يعرفها من كان له معرفة بالنظام هي، أعداد مافيا المخابرات والأمن وحماية بنية النظام العشائري التابعة للرئيس كانت تُعدُ بالألاف من القتلة المدربين الذين يتقنون حرفة القتل والغدر عند صدور الأوامر لها. وكعصابات منظمة لهذا النوع من العمل لم تتطلب الحاجة منهم، الدراسة أو الوعي أو التفوق في العلوم التربوية الوطنية في المدارس أو حتى التمسك بالقيم وتقاليد الكياسة والخلق، وقد أبتعدَ عن مخالطتهم الشباب الوطني البعثي المتعلم ونفر منهم، خاصةً في بغداد ومدن جنوب العراق الأخرى ومكان مولد محدثي.


الفترة المظلمة من سنة 1963 الى 2003، لم تكن فترة حكم البعث العربي الأشتراكي وقواه التنظيمية بقدر ماكانت فترة مظلمة لمجموعة عشائرية حكمت العراق بأسم حزب البعث. فقد قام السيد النائب بتقسيم العراق أمنياً الى تنظيمات مدنية وعسكرية لاتثق بعضها بالبعض الأخر، ونال من رجالات البعث وأعدم خيرة أعضاءه كما يعرف الجميع.


يقول محدثي، اذا كانت الحاجة هنا لأعادة التذكير بالفترة الدموية التي مرتْ فهي للأسف أعادة لضمير من أمتلك الجرأة والشجاعة وترك هذه (المافيا العشائرية) التي لبستْ برقع سياسة العشيرة فوق برقع سياسة الدولة بين ليلة وضحاها وأضاعتْ على العراقي هويته.


الطلائع البعثية الخيّرة : من يجرؤ على النقد؟
يقول محدثي بأن الجيل القديم يصنع الجيل الجديد، كما كنا نؤمن، ويستطرد ليقول، ولكن ليس في العراق. فالطلائع البعثية التي يخصها في حديثه كشباب البعث العراقي ومنظماتهم الحزبية القطرية، خدموا العراق بكل تجرد ونزاهة وأنضباطية حزبية. وذكرَ منهم أمانةً، فؤاد الركابي،عبد الخالق السامرائي، عبد الكريم الشيخلي، غانم عبد الجليل، عدنان الحمداني وأخرون ممن يحملون شهادات علمية وأكاديمية و (عاجلهم ) النائب الذي أصبح رئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة لاحقاً، بضربة مفاجئة غادرة وشريرة معروفة للجميع. حقائق كثيرة لم تظهر أو قد تظهر بعد فترة من الوقت بعد فوات الآوان، فمعظم ذلك الجيل الجديد كان قد تشرد في دول عربية وغربية أو توفي فيها، ومعظمهم لم يجرأوا يوماً على أنتقاد طريقة القيادة القطرية التي حاك شراكها طغمة لا علاقة لها بالبعث.
فعلى الصعيد العالمي والصورة الأكبر التي رسمها للعراق المرحوم نزار حمدون ممثل العراق وسفيرها في الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، فأن الرسائل الدبلوماسية التي حملها هذا الرجل العراقي النبيل بذكاء ومهارة ودبلوماسية توضح أصالة بعض الشباب البعثي في وقت عصيب مرَّ على العراق وسعى فيها بمفرده تفسير رسائل وأشارات الرئيس العراقي وطلباته في المساعدة من أدارة رونالد ريغن الأمريكية ضد أيران، وهو موضوع يحتاج الى مجلدات وبحوث لامجال للحديث العابر عنها.


ويستطرد مُحدثي ويضيف، من منا كان يمتلك الجرأة والشجاعة ليناهض ويعارض الغرض الفعلي لدور الاستهتار والكراهية العنصرية وهمجية التنكيل بالشعب العراقي التي توارثها البعض من هؤلاء الطغاة؟
كيف يستطيع أنسان متعلم سحق شيعة وأكراد العراق وطمس حقوقهم في بلد يشكلون الأكثرية المتعلمة فيه وكانوا شعاع الحضارة الأنسانية؟ وكيف يحق، أرضاءاً لشذوذ فرعون العصر، أن تُقرر عصابته اليوم هوية العراقي العربي الأصيل؟


قد يظنُّ من درسَ النظريات السياسية أوالصحافة الدولية أن الطرق الملتوية لعصابة عشائرية حكمت العراق باسم حزب البعث لن تحاول أن تظهر الى المشهد السياسي العراقي من جديد بعد أن نكلتْ باعضائها وألتفت عليهم وأغتالتهم فرداً فرداً. أن هذا الأعتقاد ليس صحيحاً. فما تبقى من هذه الزمر التي تعشعش في سوريا اليوم لاتحمل للعراقيين غير الأستحقار والضغينة وروح الأنتقام العشائرية والتخريب كلما سنحتْ الفرصة(والأسماء وقادة الأمارات الارهابية المتواطئة معهم توضح ماأقول).


ومن المؤسف أن قيادة البعث السورية تتحفظ وتناور في مسألة تسليم هذه الزمر للقضاء العراقي للمحاسبة متجاوزة في ذلك أستهتار البعث العشائري بالشعب العراقي والأهمية الأستراتيجية التي تربط البلدين الشقيقين ومصلحتهما المشتركة في نشر العدالة والأستقرار والأمن. أن المنطق التاريخي يحتم علينا الأنحياز الى واقع الحق والإنسانية ولا نسيئ الظن بكل الطلائع البعثية النزيهة المؤمنة بنقد الذات والمصلحة العامة وتمييزها عن الطبقة العشائرية البعثية الأنتهازية وأياديها الملطخة بالدماء. أن ما وجدته هذه الفئات في سوريا ودول مجاورة للعراق ليس أِلا المأوى المؤقت لتنظيم الأنطلاقات الأرهابية على العراق وبذل الجهود لتخريبه.

[email protected]