تحاول هذه المقالة الوقوف السريع عند بعض الدلالات الأساسية للأحداث التي عرفتها ايران في المدة الاخيرة احتجاجا على نتائج انتخابات الثاني عشر من حزيران الرئاسية التي طعنت في نزاهتها وشرعيتها قوى المعارضة الاصلاحية التي قامت بتنسيق وتنظيم احتجاجاتها على المستوى السياسي العام، وعلى مستوى الشارع في آن واحد. وهي احتجاجات أدت الى تدخل أقطاب المعارضة الاصلاحية من جهة واقطاب المحافظين من جهة اخرى في الصراع السياسي الذي تطور من الصراع حول النتائج الانتخابية الى صراع اكثر عمقا بين رؤيتين متباينتين لادارة الشأن العام في البلاد حتى في الوقت الذي ظل فيه الجميع يستظل بمظلة مبادىء الثورة الاسلامية.

واذا كان المحافظون المتشددون الذين اصطفوا وراء الرئيس محمود احمدي نجاد قد تلقوا الدعم الصريح والواضح من قبل المرشد الاعلى للثورة السيد علي خامنئي فإن هذا الأخير قد حرص، مع ذلك، على ان ينأى بنفسه عن تبني خطاب المحافظين بحرفيته واتهام رفاق درب الثورة الاسلامية، مهدي كروبي ومير حسين موسوي بالعمالة للأجنبي وبالمروق او النفاق في ميدان العقيدة الدينية وهو من اخطر التهم التي يمكن توجيهها الى الانسان في نظام الجمهورية الاسلامية والتي يصل الحكم الجزائي فيها الى الاعدام.


ومن الدلالات الهامة لهذه الاحتجاجات والصراع يمكن التأكيد على، بروز تيار اصلاحي متماسك في اطروحاته وفي اشكال تنظيم ممارسته الاحتجاجية اولا، ابراز تعدد وتنوع اشكال الدفاع عن الثورة والجمهورية الاسلامية ثانيا، سقوط الطهرانية الدينية التي تضفي القداسة على الحاكم الايراني في سياق ولاية الفقيه ثالثا، ورابعا بروز الطابع السياسي للصراع بين اقطاب المشهد السياسي الايراني على حساب البعد الديني الايديولوجي الذي حاول المحافظون حصره فيه كما تدل على ذلك محاولاتهم التأكيد على نظرية التفويض الالهي للحكم لا على مستوى المرشد الاعلى للثورة فحسب بل وعلى مستوى رئاسة الجمهورية ايضا.


فعلى مستوى الدلاقة الاولى يمكن التأكيد على المنهجية التي تم بها تنظيم اعمال المعارضة الاصلاحية وبعدها الهجومي السياسي والاعلامي مما اضطر القوى المحافظة الى استعمال كافة اشكال القمع للتظاهرات السلمية التي عرفتها شوارع طهران وغيرها من المدن حيث سقط عشرات القتلى والجرحى وتم الزج بالمئات في المعتقلات. وقد ادت هذه الاحداث الى ابراز مدى القدرة التعبوبة لقوى الاصلاح وتقدم زعماء مشهود لهم بادوارهم المحورية في الثورة وفي بناء الجمهورية الاسلامية لمجمل الصراع السياسي السلمي الطابع وفي مقدمة هؤلاء الى جانب موسوي وكروبي الرئيسان السابقان محمد خاتمي وعلي هاشمي رفسنجاني اللذام لعبا دورا اساسيا في تعبئة شرائح متنوعة من المجتمع الايراني بما في ذلك المرجعيات الدينية الاساسية حيث من الملفت ان آية الله منتظري قد ادلى بدلوه هو ايضا في هذا الصراع من خلال تحذيره من ان السير في اتجاه القمع يهدد الثورة والنظام بالانهيار.


وهذا يؤكد بحد ذاته ان عنوان الصراع بين المحافظين والاصلاحيين هو عنوان الثورة والجمهورية الاسلامية والكيفية المثلى للمحافظة على مبادئهما من خلال الانفتاح على الممارسة السياسية الديمقراطية في العلاقة مع الشعوب الايرانية كما يذهب الى ذلك بعض القيادات الاصلاحية او البقاء في مواقع المحافظة والانغلاق والتعامل مع الشعب بطريقة لا توحي بالايمان بأنه راشد ويمكن له ان يتخذ القرار السياسي السليم في الوقت المناسب خدمة للمصالح الايرانية الداخلية والخارجية.


ويبدو ان هذا التنوع في الرؤى لم يكن مستساغا من قبل المعسكر المحافظ الذي لجأ الى كل اساليب النقد وتخوين قادة المعارضة الاصلاحية ومحاولة ربط الاحتجاجات بمخططات امريكية او بريطانية وغربية عامة تستهدف الثورة وانجازاتها. والحقيقة ان هذا الزعم لم يجد الآذان الصاغية على صعيد مؤسسة المرشد الاعلى وهو ما أضعف تأثيره على الشارع ذاته خاصة ان هذا الاخير لم يعدم من الاصوات ما دعا الى اعادة النظر تماما في نظام الجمهورية الاسلامية ورفع بعض الشعارات التي اعتبرها المراقبون السياسيون موجهة بصورة غير مباشرة الى المرشد الاعلى خاصة عندما لم يخف منذ الايام الاولى لاندلاع الاحتجاجات تأييده لنتائج الانتخابات التي تم الطعن في مصداقيتها من قبل الاصلاحيين. ولعل التصريحات الودية التي ادلى بها خامنئي في حق رفسنجاني الذي اتهمه المحافظون بمعاداة الثورة ونظام الجمهورية محاولة من المرشد الاعلى لتخفيف حدة التوتر مع رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام ورئيس هيئة الخبراء الذي اصطف الى جانب قوى الاصلاح مما يجعل منصب المرشد العام في مرمى الصراعات، ومحور الرهان السياسي الجوهري للقوى المتصارعة، ما لم تتم تهدئة الامور قبل الوصول الى نقطة اللاعودة في هذه المواجهة.


اي اننا هنا امام المدخل الاساسي الى اعادة النظر في وظيفة المرشد الاعلى الذي كان من المفترض ان لا يزج بنفسه في معمعة الصراعات السياسية اليومية وان يكتفي بدور رمزي يقيه من سلبيات التدخل في مجريات الساحة اليومية خاصة ان المسألة هي مسألة اتهامات خطيرة موجهة الى القيادات السياسية الحكومية تتعلق بممارسة التزوير على نطاق واسع في الانتخابات الرئاسية. ويكفي هنا ان نشير الى ان آية الله منتظري قد وجد ان الفرصة سانحة لاتخاذ موقف الى جانب قوى الاصلاح في هذه المعركة الامر الذي اعطاها بعدا عميقا لانه اسقط عنها الطابع الديني الذي يتعلل به المحافظون وحصرها في الصراع السياسي ورهاناته المتعارف عليها في مختلف الجماعات ورفع مبررات تدخل المرشد الاعلى في اي مستوى من مستوياته.


ولعل بروز هذا الطابع السياسي وتراجع الطابع الديني الذي كان سائدا هو التحول النوعي الذي اعلنت معركة رفض نتائج الانتخابات الرئاسية الايرانية عن ميلاده. وسيكون لهذا التطور حضور دائم، على ما يبدو، في مختلف مراحل الصراعات المقبلة اي ان المسألة ستأخذ الطابع الرسمي لصراع مفتوح بين تيار يلجأ الى ولاية الفقيه لإغلاق كل ابواب اصلاح النظام السياسي واسكات صوت قوى المعارضة من خلال تحويلها الى معارضة للامر الديني والالهي، مع ما يترتب عن ذلك من اتهامات بالمروق ودخول دوائر النفاق والمحاربة، وتيار يعتبر انه آن الأوان للتعامل مع الشأن العام السياسي بمبادىء ومحددات هذا الميدان دون الاستعانة بما ينتمي الى حقل مغاير لأن في ذلك تحصينا حقيقيا لمواقع الثورة وحماية لمكاسبها.


صحيح ان المعركة الدائرة في ايران لا تعطي الصورة بهذا الوضوح، الا انها تشكل ارهاصا حقيقيا بأن شيئا جديدا يولد في رحم الثورة ومبادئها وان تكن هذه الولادة عسيرة، وعسيرة جدا فهذا يدخل في منطق الاشياء: فإما ان يتجدد النظام الايراني من داخل هياكله وضمن منطق تطوره الداخلي واما ان يفتح المجال امام تهالك اعمدته الاساسية وانهياره
ولعل هذه هي الرسالة الجوهرية للسلوك السياسي لقوى الاصلاح، في ادارة ازمة نتائج الانتخابات التي منحت ولاية رئاسية اخرى لاحمدي نجاد

كاتب وصحفي مغربي