المفارقات السياسية و الفكرية العجيبة التي عانت منها القوى السياسية العراقية المختلفة خلال العقود الماضية تظل شاهدة على حجم الفوضى و الإشكاليات الناجمة عن تدخل أنظمة إقليمية معروفة في تقرير مسارات و توجهات تلك القوى، ولعل مراقبة الحالة ( البعثية ) في العراق توفر للمرء مدخلا مناسبا للحديث عن مآسي و مهازل سياسية كبرى حدثت في الماضي القريب، وأدت لتداعيات واضحة لم تزل تعاني منها حتى اليوم الساحة السياسية العراقية التي إختلطت فيها الأوراق و الرؤى و التصورات، ودخلت حمى المذهبية و الطائفية المريضة لتكون أحدى شواخص المرحلة الراهنة، وما سأتحدث عنه في هذه المقالة هو خلاصة تجربة حياتية عشتها وعاشها أبناء جيلي من الذين إضطرتهم ظروف الحرب العراقية / الإيرانية و إشتداد رياح الفوضى الإقليمية المخلوطة بالأعاصير الطائفية على التنقل و معايشة الأحداث من خلال زوايا كانت هي البداية الحقيقية لحالة الفوضى التي نعيشها حاليا.
كما هو معلوم فقد جاء عام 1980 ليحمل معه متغيرات كبرى ستؤسس لواقع إقليمي ودولي جديد، ففي ذلك العام تمكن نظام صدام حسين من فرض زعامته المطلقة و تكريس دكتاتوريته وفرديته بعد أن تمكن من تدمير حزب البعث و تصفية العديد من قياداته و الإنفراد في قيادة الدولة العراقية التي تحولت منذ ذلك الحين للإنخراط في المشروع الإقليمي الجديد عبر تسعير نيران المواجهة مع إيران التي دخلت هي الأخرى مجال التغيير الواسع بعد الإطاحة الجماهيرية بالنظام الشاهاني ودخول إيران في حالة شبيهة بالحرب الأهلية من أجل هيمنة تيار من التيارات الشعبية و الثورية على السلطة وهو ما نجح فيه التيار الديني ألأصولي بزعامة آية الله الراحل الخميني الذي تمكن من تأسيس جمهوريته الإسلامية وفقا للرؤى و التصورات التي يعتقدها و تياره و ما أتبع ذلك من تفشي كبير للحماسة الثورية و إنطلاق مبدأ و شعار تصدير الثورة الإيرانية من أجل تغيير أنظمة المنطقة السياسية في فورة سياسية مراهقة لم تكن تراعي العديد من الإعتبارات السياسية و الموضوعية و كانت الحماسة الثورية الإيرانية تجد صداها بطبيعة الحال في المجال الحيوي المجاور و في العراق تحديدا الذي أعلن الإيرانيون وقتها علنا من أنه قد آن الأوان لتغيير النظام السياسي و أوعزوا لجماعتهم او مؤيديهم أو المعجبين بهم من اتباع الأحزاب الدينية العراقية بضرورة الإسراع في تفجير الثورة الإسلامية الموعودة في العراق! و تحرك حزب الدعوة الإسلامية الذي كان يمارس نشاطا سياسيا سريا واسع المدى توج خلال مرحلة السبعينيات بمواجهات حادة مع السلطة اعوام 1974 و 1977 و حيث أعدمت بعض قياداته في مواجهات كانت محسومة لصالح السلطة بسبب عدم التكافؤ في القوى، وصدام حسين و نظامه بالمقابل قرروا إنتهاج سياسة المواجهة المباشرة و القمع الصارم و الشامل و بطريقة جديدة تتمثل في مواجهة الأسباب و الجذور التي من شأنها أن تغطي نشاطات حزب الدعوة أو تدعم توجهاته و تموله، فكان التوجه الحكومي العراقي نحو الطبقة التجارية الوسطى و البورجوازية من التجار و أصحاب المصانع الصغيرة أو المؤسسات التجارية الخاصة و كبار الأثرياء في العراق ووفقا لسياسة ( تجفيف المنابع ) بعد دراسة تجربة الثورة الإيرانية و إستخلاص نتيجة أن قوى السوق الإيراني ( البازار ) كانت هي الممول الأكبر لنشاطات المؤسسة الدينية الإيرانية التي تمكنت من تدمير سلطة و هيلمان عرش الطاووس الإيراني في واحدة من أكبرالمتغيرات السياسية في الربع الأخير من القرن العشرين المنصرم!،
لذلك لجأ النظام العراقي لإعتماد سياسة التهجير الطائفي بدواعي عدم الأصول العراقية لآلاف مؤلفة من العراقيين بعد مصادرة أموالهم و متعلقاتهم و حتى هوياتهم و إبعادهم لإيران في نيسان عام 1980 في أكبر موجة طرد بشرية عاشها العراق في تاريخه شهدت خروقات فظيعة لحقوق الإنسان كما ظلمت قطاعات واسعة من العراقيين كانت مرتبطة بالعراق قلبا و روحا بل كانت عناصر بعثية نشطة وجدت نفسها على حين غرة في إيران وهي عارية تماما من أي شيء و تم إجبارها لتكون إيرانية و كثير من المهجرين لم يكونوا يعرفون اللغة الفارسية و المؤلم أن هنالك آلاف مؤلفة من الشباب العراقي البريء تم تغييبهم في معتقلات النظام العراقي بدعوى عدم توفير الفرصة لهم للمشاركة في الجهد العسكري الإيراني!! و لم يعرف أحد مصير أولئك الشباب الذين سيق بعضهم للمعتقل بعد عودتهم من جبهات القتال مع إيران مباشرة!!
المهم إن آلاف مؤلفة من العراقيين وجدت نفسها على حين غرة وقد تحولت لهوية إيرانية على غير رغبة منها و لا سعي ووجدت نفسها في مخيمات اللجوء الإيرانية بعضهم إستوطن في إيران في إنتظار ما ستسفر عنه القوادم من الأيام بينما فضل البعض منهم السفر بعيدا عن إيران و الإستقرار في أقرب نقطة عربية و كانت دمشق الشام التي شهدت في تلك المرحلة علاقاتها مع النظام العراقي تدهورا حادا وصل لدرجة العداء المطلق و تبادل الإتهامات بعد تدهور ميثاق العمل القومي المشترك الذي كان سيؤدي لوحدة حزبية و سياسية بين العراق و سوريا وجاء إنقلاب 1979 الدموي الذي قاده صدام حسين و جماعته لينهي تلك المرحلة بالكامل، السوريون وقتذاك فتحوا أبوابهم للمعارضة العراقية بمختلف فصائلها و ما يعنيني من الموضوع بعيدا عن التشعبات الأخرى وهي كثيرة، موضوع الوجود البعثي العراقي في الشام وهو الذي لعبت على نغماته و أدواره أجهزة المخابرات السورية و بما أفرز صورا طريفة و غريبة للصراع عبرت عن نفسها بمظاهر طائفية.
البعث في اللعبة الطائفية!
من المعروف عن حزب البعث العربي الإشتراكي كونه حزب قومي عربي علماني لايؤمن بالطائفية و يسعى لتوحيد العالم العربي في وحدة قومية شاملة وله أهدافه المعروفة للجميع ولكن رغم كل تلك الخطوط و الهوية الآيديولوجية الواضحة إلا أن الصبغة الطائفية قد ألقت بظلالها على طبيعة النظام السياسي الذي كان البعث يقوده في كل من العراق و سوريا، فالبعث العراقي تنحدر الكثير من قياداته المعروفة من أصول شيعية و أبرزهم مؤسس الفرع العراقي للحزب فؤاد الركابي و كثير من القيادات الأخرى كسعدون حمادي و طالب شبيب و هاني الفكيكي و محمد سعيد الصحاف وغيرهم الملايين من منتسبي الحزب في أيام مجده و سطوته و كذلك الحال مع الفرع السوري الذي أسسه مسيحي هو ميشيل عفلق و بمشاركة آخرين كجلال السيد و صلاح الدين البيطار و العلوي زكي الأرسوزي و لكنه إرتبط منذ أيام اللجنة العسكرية في سوريا بصبغة و هوية طائفية معينة.
و بصرف النظر عن ذلك إلا أن البعثيين لا يعترفون كعقائديين بالطائفية! و لن أقف طويلا في هذه النقطة الإشكالية لأنها ستأخذنا لمسارات أخرى لا نود التطرق لها في هذه العجالة، و لكنها في الحالة العراقية و تحت سلطة المخابرات السورية في الشام كانت مختلفة بالمرة، ففي الشام يوجد الفرع اليساري للبعث العراقي المرتبط بالرؤية الرسمية للنظام السوري و غالبية قياداته المنضمة للقيادة القومية السورية للحزب هي من العناصر البعثية المنتمية لقبائل غرب العراق ( أي من مناطق راوة و كبيسة و حديثة و هيت و الرمادي ) و كان يمثلهم و لا زال منذ ثلاثة عقود الرفيق فوزي الراوي و جاء للقيادة في مرحلة الثمانينيات الرفيق عبد الجبار الكبيسي المعروف بإسمه الحركي ( حازم الكبيسي ) وحيث أتبع خطا آيديولوجيا و فكريا من النظام الإيراني مختلف بشكل جذري عن موقف النظام السوري!!
فقد كان الكبيسي مثلا يحتقر النظام الإسلامي في إيران و أنعكست كراهيته تلك على العديد من العراقيين ذوي الأصول الإيرانية الذين لم يكونوا يرتاحون للكبيسي و لا لمكتب المنظمات الشعبية التابع له و الذي يسهل أمور العراقيين في إصدار هويات التعريف و الإقامة و السكن و التي لا تعترف السلطات السورية بسواها!!
وقد إحتج العديد من الشيعة العراقيين في الشام على مواقف الكبيسي و جماعته منهم و أتهموهم بأنهم إمتداد لنظام صدام حسين؟ و فعلا إستجاب السوريون للمناشدات و الإحتجاجات و انشأوا مكتب منظمات شعبية آخر تابع للحزب سلموا قيادته للرفيق البعثي و عضو القيادة القومية المحامي ( سهيل السهيل ) و أسمه الحقيقي عبد الصاحب السهيل و كان شيعيا مناوئا في المنهج السياسي و الفكري لرقيقيه حازم الكبيسي و فوزي الراوي و أستمر المكتبان في المنافسة في العمل الجماهيري.
حتى أن حزب البعث العراقي في الشام قد إنقسم لفريقين بعثي ( شيعي ) و بعثي ( سني )!! و كانت المخابرات السورية تستفيد من الطرفين ثم شهد الوضع إعطاء مساحات أكبر للقوى الدينية العراقية التي باتت تتعاون تعاونا وثيقا مع السلطة السورية في إصدار وثائق المعيشة في الشام وحتى في طبع و تداول و بيع جوازات السفر العراقية المزورة التي تختم بإقامات خليجية و كويتية مزيفة ثم تباع للراغبين لتشكل مصدر دخل مهم تتقاسمه مكاتب المخابرات السورية مع الأحزاب الدينية العراقية.
و أستمر التنافس بين مكتبي المنظمات الشعبية البعثي الشيعي و السني حتى تفرقت القيادات البعثية، فعبد الجبار الكبيسي رحل عن الشام بعد أن تخلى عن العمل مع القيادة القومية السورية مؤسسا لحزب جديد هو التحالف الوطني العراقي الذي زار نظام صدام في أيامه الأخيرة مشكلا معه جبهة عمل لم تستمر، أما سهيل السهيل فقد ترك العمل الحزبي البعثي وعاد للعراق أواخر أيام صدام حسين لتختفي سيرته تماما و يغيب عن الأضواء، فيما بقيت المخابرات السورية تلعب على حبال المعارضة العراقية حتى حصل ما حصل و حيث أعادت بعد إحتلال العراق عام 2003 الوصل مع القيادات البعثية اللاجئة التابعة للنظام العراقي السابق و الذين شكلوا عناصر أزمة مستمرة مع حلفاء النظام السوري من قادة الأحزاب الدينية!!...
و تبقى صورة الصراعات العبثية العراقية رهنا بإرادة اللاعبين من قادة الأجهزة الأمنية الإستخبارية السورية أو الإيرانية و الإقليمية الأخرى... لقد كانت ذكريات لأيام صاخبة إختلط فيها الغث بالسمين لتشكل جزءا من ذاكرة الدياسبورا العراقية الراهنة..!
[email protected]
التعليقات