ربما يكون العدل أساس الحكم، والدافع لديمومته باتجاه الفضيلة التي اعتبرها الكثير من الفلاسفة تمثيلاً لقيمة العدالة..وربما سعى كل الفاضلين لتحقيق هذه الغاية، رغم بقائها في أمل الخيرين، وقصائد الشعراء، وموسيقى العازفين، ولوحات الرسامين، وكلّ مبدع يبصر ضوء العدلِ في ذاته ليخرج به إلى العالم.عالم متناقض في الغالب، سيقف قبالته شاعر أختصر التمردّ في حياة قصيرة، وشعرِ أقلّ، قال في بعضه:quot;العدالة متعة الله وحدهquot;.
العراق: عدالة ٌ مُطاردة
يقول الفيلسوف الفرنسي مونتسيكو (وأستشهد بقوله هنا،لغاية نهائية في المقال، ولأنه صاحب المبدأ الشهير في الفصل بين السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية)..يقول: قبل وجود القوانين وجدت علاقات قائمة على العدل، والقول بعدم وجود العدل أو الظلم إلا وفق ما تمليه القوانين الوضعية، لا يختلف كثيراً عن القول بأن أشعة أنصاف أقطار الدائرة لم تكن متساوية قبل رسم الدائرةquot;..
أقول إن الحديث عن غياب العدل في العراق له ملايين الحكايات المعروفة عبر التاريخ.والكلام فيها يطول لعدة أسباب،وأولها اعتبار المروي؛ تاريخاً لا يُتفق على حيثياته. ولكن هل من المعقول أن يكون التاريخ القريب لما بعد زوال نظام المدان صدام حسين، محط اختلاف وفرقة بالصورة المأساوية التي انتهى إليها الوضع الآن؟ فبعد 2003 والتغيير الأهم أصبح مطمح العدل، رهين حاجة الحكومات التي حكمت،وسعت حكومة رئيس الوزراء الأول في العراق أياد علاوي خلالها إلى تنصيص قانوني يؤهل سلطتها من جهة،ومن الجهة الأخرى،كان العدل شعاراً أرادت من خلاله القول إن في زمانها تم اكتشاف أشعة الدائرة المتساوية.! وكذا في حكومة الجعفري التي دخلت في دائرة العدل لتعد أقطارها، وتحسب على الحكومة السابقة أخطائها. حتى سمعنا عن مذكرة إلقاء قبض على سبعة وزراء من حكومة علاوي!. وليسجل القارئ الكريم هذا المعطى، كدليل على غياب عدالة أن يحلّ ولو متهم واحد منهم تحت سقف محكمة.فالقضية كانت تدور في فلك ترضيات ومنسوبيات وتسويات،وشعارات لا زال السيد علاوي ndash;مثلا- يباهي خلالها بالقول في لقاء مع صحيفة الحياة: quot; كان لي الشرف أني أول من طالب وأنا على رأس الحكومة بفتح التحقيق بقضايا الفساد. وسأكشف للمرة الأولى إني أحلت 4 وزراء في حكومتي إلى التحقيق بتهم الفساد ومنحت حرية مطلقة لهيئة النزاهة في معالجة هذه القضية، لكنني طلبت عدم توسيع نطاق الإجراءات الى وسائل الإعلام منعاً لتسييس القضيةquot;.
السيد علاوي يراهن أيضا على ضعف من جاؤوا بعده، قائلاً: quot; جاءت حكومتان بعد حكومتي فأين هي نتائج التحقيق في الفساد في حكومتي؟.
ولنرفع كلمة الفساد في الحوار السابق ونفترض إن صحفياً سأل السيد علاوي عن ملف الأمن،الذي طالما صرّح بأولويته وأهميته كتحصيل حاصل على عناءات العراقيين فيه،والتي وصلت حداً لإصدار قانون سُمي وقتها بquot;قانون السلامة الوطنيةquot;.
ومن لطيف القول وشاهد الكلام عن العدل أن هذا القانون لم يُعرِّف بفقراته وزير أمني، بل تلاه على الصحفيين وزير العدل يومها (مالك دوهان الحسن) كقانون يجيز للحكومة العراقية الإعلان عن تطبيق قانون الطوارئ في أي وقت تراه الحكومة ضرورياً.
ولسبب يعاضد الرغبة والأمل في عراق العدالة والحقوق أيضا، صرّح وزير حقوق الإنسان (بختيار أمين) في نفس المؤتمر، مؤكداً اعتقال 20 شخصاً عربياً وأجنبياً لضلوعهم بعمليات إرهابية داخل العراق.
ومن يجمع بيانات الوزارات الأمنية في ذلك الوقت، وما تلاه، عن المعتقلين العرب والأجانب سيجد إن الأعداد وصلت إلى الآلاف. فأين انتهت نتائج التحقيق معهم،إن كان ثمة تحقيق؟.. وأين ذهب هؤلاء؟....وأين الوجوه التي رأينا اعترافاتها على شاشة فضائية الفيحاء وفضائية العراقية؟..
قضايا مصيرية
لنفترض ndash;جدلاً-أن تحقيقاً تم أيام حكومة الجعفري عن كلّ القضايا الأمنية في زمن حكومة علاوي، وتحقيقا آخر أجرته حكومة المالكي، يبحث في تهمة كانت أطراف سياسية تتداولها ضد السيد إبراهيم الجعفري، تقول إنه وفي أول قرارات حكمه قد أصدر أمرا (عفواً عاماً ) يحمل الرقم (1) صادر عن مكتبه، بعدد (ق/6 أمر 4214)، يقضي (بوقف الإجراءات القانونية وقفاً نهائياً بحق جميع الإيرانيين الموقوفين عن مختلف الجرائم ويخلى سبيلهم فوراً)، كما ورد نصاً في الأمر المذكور، الذي برره رئيس الوزراء بأنه جاء (لتعزيز العلاقات الودية مع دول الجوار، وخاصة إيران).القضية التي أثارت خلافات كبيرة بين الجعفري وبين رئاسة الجمهورية،حيث أصدر مكتب الإعلام المركزي للاتحاد الكردستاني الذي يتزعمه الرئيس الطالباني بيانا يستنكر هذا الإجراء، مؤكداً تكذيب ما ورد من حصول موافقة ديوان الرئاسة، وأكد المكتب أن بيان رقم واحد(أول أوامر الجعفري) ورد في متنه أنه جاء ضمن صلاحياته و(حصل على موافقـة مجلس الرئاسة)، غير صحيح، لأن مثل هذه الموافقة لم تحصل، ولم يعرض الأمر على رئيس الجمهورية جلال الطالباني، إضافة إلى عدم عرضه على النائب الأول لرئيس الجمهورية الدكتور عادل عبد المهدي!.
أسئلة دامية!
هل تم إطلاق سراح أكثر من 1200 معتقل إيراني فعلاً، بأمر من الجعفري؟!..
وكيف يتم إطلاق معتقلين اعترفوا بتورط جهات خارجية مولتهم؟!..
وهل أجرى ديوان الرئاسة-لاعتبارات زجّه عنوةً في قضية أمن وطني- أو أي جهة مخوّلة تحقيقاً في القضية؟!
وهل سيكون هذا الفعل مبرِّراً لنفاذ علاوي من تهمة العفو سابقاً،عن متهمين سوريين قبيل نهاية ولايته؟
وهل في إشارة مكتب الطالباني، إلى أن إجراء الجعفري هذا تزامن مع شروطه على سوريا بأن تضبط حدودها مع العراق لكي يقبل الدعوة الرسمية لزيارتها، ما يدلّ على رغبة الجعفري في تسوية قضية إيران، وبطريقة تبييض السجون كما في أزمنة المكرمات، جهلاً بحدود السلطة وصلاحياتها، وإخلالاً بمشروطية المشروع الديموقراطي بفصل السلطات، رغبةً بإغلاق ملف دولة أخرى،تغالباً وموقف علاوي؟..أم إن لديه ملفات ضد سوريا في الأدراج كان يمهد للمساومة عليها؟
أفلا يستحق ما أزعج الفيلسوف مونتسيكو منquot;سوء الإدارة quot;وسفسطة وفساد النبلاء!quot;،أن يتم تحقيق في قضية تداخل-وتجاوز- حدود السلطات الثلاث؛ السلطة التنفيذية،والقضائية، والتشريعية، في ما مضى للحكومات من عهد، وبشكل رخّص الدم، وجعل الرؤوس ألعوبة صبيان؟!.
قبيل الانتخابات.. موسم إحراق المراكب
اليوم وصلت رحلة العدالة وأمل إنجازها إلى نقطة اللاعودة؛ رئيس الوزراء نوري المالكي يطلب التحقيق والعدل الدولي في قضية، يكون الرهان عليها أشبه بمبارزة لابد من خروج طرف خاسر فيها.
فما الذي ستفضي إليه النتائج، وهل من جديد.. بعد أن مرّت دماء كثيرة تحت جسور الشهداء؟..
وسؤال جوهري: قضية المحكمة الدولية شيء مهم، وحركة مصيرية في شكل العلاقة مع دول الجوار، ولكن ولأجل العدل العراقي ودولة القانون التي لم يبق لرئيس وزرائها سوى أشهر معدودات، ألا يحق للعراقيين أن يتساءلوا عن ملفات المعتقلين السابقين وارتباطاتهم بدول الجوار؟. وماذا عن التحقيقات التي نشر بعضها متضمناً اعترافات بتورط دول مجاورة في الملف العراقي؟
ألا يجيز الدستور العراقي فتح تحقيق وبدء محكمة عراقية-داخلية- خاصة؟..
وهل من صلاحيات رئيس الوزراء طلب مثل تلك المحكمة؟
وما الذي يمكن أن تقدمه المحكمة الدستورية أو المحكمة الاتحادية العليا، القاضية بتقرير مدى دستورية القوانين والأحكام في العراق؟
وكيف تستحق quot;أربعاء الرمادquot; تحقيقاً دولياً ولا تستحقه دماء الأربعاءات السالفة وبرك الدم في سنوات حكومتي علاوي والجعفري،وما تبعها من فوضى أمنية عارمة..محكمة عراقية خاصة، أم إنها أصبحت بتقادم الزمن من أساطير الأولين؟!
ولم لا يشرع المالكي بفتح هذه الملفات،و بما نجى من أوراقها بعد حرائق الوزارات المتعمدة؟!
وبالمناسبة أين التحقيق في هذه الحرائق؟..ولم، كلما دخلت quot;أمة quot; أو عشيرة الى وزارة ما ndash; لتحكم ndash; لعنت أختها؟..
ومن يا ترى سيكون الرابح في قضية المحكمة الدولية؟.
وبم سيبرّر السيد أياد علاوي قوله أمام -محكمة عراقية مستقبلاً- تصريحه الأخير المنشور في صحف عربية نصاً: quot;الأزمة مع سوريا مفتعلة والاتهامات مسيسةquot;...؟
وكيف سينفي تصريحاته السابقة لفضائية عربية- منشورة في موقعها الإلكتروني- بأنه أخبر أيام حكمه quot;الأخوة في سوريا عن عناصر تستغل حسن الضيافة لتؤذي العراق،وأيضا الإعلام يسمي الأمور بالمقاومة واحتلال وكأنما يعطي الشرعية لعمليات الإرهابquot;؟!
وهل ينفع هذا التفصيل كمعطى أولي للمحكمة الدولية،عن إبلاغ رسمي عراقي سابق لسوريا بأسماء وجهات عرفتها بعد الإبلاغ، وتستّرت عليها لاحقاً؟..
وسؤال إلى المالكي: المستقبل أمامك،وكل هذه (الحيتان) والبحار ورائك، فهل ستأخذ من جمر حريق الأربعاء ما تحرق به المراكب؟!..
مقالات سابقة للكاتب ذات صلة بالموضوع:
التعليقات