لأول وهلة حسبتني في حلم مزعج أو كابوس قبل أن أفيق من الصدمة والواقع الأغرب من الخيال. قبل ساعات محدودة كنت جالسا ً كأنسان مفرط في أنسانيته كما يقول نيتشه وبكامل أناقتي ولياقتي كشاعر في جلسة لطيفة مع شعراء، في مقهى شهيرة تضم نخبة رجال ونساء الفكر والفن والثقافة في بيروت ( مقهى الأكسبرس ) في شارع الحمرا. معي على الطاولة نفسها الشعراء بول شاؤول و عصام العبد الله والرسامة سيتا مانوكيان، ندردش في الفن والحب والشعر والحرية. قبل أن تتحول المقهى من مكان للإسترخاء والحديث الشيق إلى ساحة آل كابينو في شيكاغو.

ثلة محترمة من رجال ملثمين يقتحمون المكان وسط دهشة وذهول رواده المرموقين، يتجهون فورا ً لطاولتنا محاولين إخراجي بالقوة وتحت تهديد السلاح لولا إعتراض شخص لاأعرفه شخصيا ً، بدا وكأنه شخصية ذات نفوذ، ربما المسؤول الأمني عن منطقة الحمرا. المهم أدعى قائد العصابة وأسمه ( عباس ) بأن الأستاذ نبيه بري يدعوني لفنجان قهوة ولمدة خمس دقائق فقط. في تلك اللحظة بدا النادل ( حيدر ) مرتبكا ً هو الذي تبين فيما بعد من إتصل بهؤلاء الأوغاد وأشار لهم عني، هذا كله قبل أن أعرف بأن هذا النادل الوغد هو مخبر لدى المخابرات السورية ولعصابة ميليشيا ( أمل ) اللبنانية.

أمس كنت أنام على سرير مريح وشراشف نظيفة شاعرا ً بالأمان متناغما ً مع جمال بيروت وطيبة ووداعة أهلها. اليوم أنا في قبو مظلم أتحسس فيه المكان بأصابعي وأكتشف وياللهول جيشا ً من الجرذان السمينة ترتع في المكان، ويبدو بأنها مستاءة من وجود كائن غريب في مملكتها لذا هاجت وماجت ما أن أحست بوجودي بينها. أين الأستاذ نبيه بري وأين فنجان القهوة ولماذا أنا مع الجرذان وليس في بيتي وعلى سريري الخاص بي ؟

ما علاقة نبيه بري بي أنا العراقي أبن الجنوب المحروم والطائفة البائسة التي يدعي حزب بري الدفاع عن مظلوميتها.. كيف له أن يسوقني لمصير أسود هو يعلم كل دهاليزه وخفاياه ولا يتوقف ولو للحظة واحدة يسأل نفسه ترى من يكون هذا الشخص.

لأي بلاد ينتمي ومن أي طائفة ينحدر هو المصاب بمرض الطائفية الأعمى؟ هذا مواطن عراقي هارب من نظام جائر باحثا ً عن نسمة حرية ثم هو صحفي وشاعر تنشر له كبرى صحف بيروت ( النهار ) مايكتب، وفوق كل ذلك هو ضيف خفيف كونه وديع ومسالم، حتى أشعاره وقد كان يكتبها لصديقته رندة، وهي بمجملها قصائد حب لاتضر أحدا ً.

بيروت التي إحتضنت الجيوش من حركات التحرر في العالم بدءا ً من منظمة التحرير الفلسطينية إلى الجيش الأرمني السري ومابينهما من منظمات سرية وعصابات مافيا والرجال الخطريين المطلوبين لكل دول العالم تقريبا ً وحتى الإرهابي كارلوس، ضاق صدرها على شاعر عراقي لاذ في يوم ٍ ما بها طالبا ً الأمان وشيئا ً من الحرية. أنا لم ألجأ إلى حزب أو سلطة وقتها. كنت أظن نفسي محميا ً بسلطة الثقافة في بيروت.

كنت أحتمي بظلال كلمات أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وبول شاؤول وعقل العويط وعصام العبد الله وشوقي بزيع وعباس بيضون وجودت فخر الدين وعبده وازن، أتفيأ بكلمات علوية صبح وصباح زوين ومي منسي وحنان الشيخ وأملي نصر الله. كنت أظن أنني في بلد شاعرة الصوت فيروز وفي ضيافتها.

أنا كنت أحسب نفسي في ضيافة غسان تويني ولست ُ في ضيافة نبيه بري التي أرادها في قبو معتم وسط جيش من الجرذان الهائجة والمتوحشة التي أحسنت الأفادة بي وإستقبالي على طريقتها البرية - الجرذانية الخاصة.

بيروت منفاي وجنتي وجحيمي.. بيروت بيتي الذي بنيته في الهواء.. بيروت البحر الذي لم يعد أزرقا ً ولا مرفأ.. بيروت السماء التي خنقت الصباح.. بيروت التي تعتقل الأحلام.. بيروت التي سرقتني من الحلم إلى القبو.. بيروت اللحى الكثة والعصائب السود.. بيروت التي تبيع الدهشة والسريالية الملتبسة بالموت وتبيع الأفراد الهامشيين أيضا ً.. تبيع الهامش والمُهمش والقابل للتهميش. بيروت لوعتي التي ستظل معي إلى القبر.

شاعر وكاتب من العراق

الحقبة التي يذكرها المقال تعود الى سنوات الحرب الأهلية اللبنانية