جدلية و تقلب و مزاجية و عدم ثبات العلاقات العراقية / السورية طيلة العقود الأربعة المنصرمة ظلت واحدة من أهم الظواهر السياسية لملفات الصراع في الشرق الأوسط!

و الأزمة الجديدة القائمة اليوم بحدة و التي تتجه نحو نهايات دولية لتسحب معها في تطوراتها خيارات تدويل الأزمة ماهي إلا إستمرار و تطور ملفت للنظر لعلاقات ظلت خطرة للغاية طيلة عقود زمنية طويلة، فهذان البلدان المرتبطان بأكثر من وشيجة و اللذان كانا متقاربان حتى في شكل و طبيعة النظام السياسي إذ كان يحكمهما حزب قومي واحد فشل و يا للسخرية في تطبيق مبادئه الوحدوية المعلنة و المعروفة!

و حيث تحول حزب البعث بجناحيه أو بأجنحته الإنشقاقية التي لا تنتهي بمثابة العقيدة و العقدة!! وهي حالة غير مسبوقة في العلاقات الدولية !، و إنفجار النزاع الأخير على خلفية الإحتضان الرسمي السوري لجماعات عراقية سياسية تدعو للعنف و تشجع الإرهاب في داخل المدن العراقية إضافة إلى إحتقان الموقف نتيجة لسنوات المجاملة الطويلة التي كانت تبديها الحكومات العراقية خلال السنوات الست المنصرمة للنظام السوري، هو تطور مختلف بالكامل عن كل ما حدث في الماضي، فآخر أزمة معلنة بين البلدين كانت قد حدثت في تموز 1979 بعد إقدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين على القيام بإنقلاب داخلي في العراق أطاح فيه بمجموعة من قياديي الصف الأول من حزب البعث بعد أن أتهمهم بالتورط في مؤامرة سورية لإغتياله و إبعاده عن القيادة و تبع ذلك سلسلة من الإعدامات و عمليات التطهير الداخلي بعد أن وصلت العلاقات مع سوريا وقتها لدرجة الإتفاق على قيام الوحدة الإندماجية وتم الإتفاق الفعلي بين النظامين على توحيد المؤسسات السياسية و الحزبية و تعيين الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر كرئيس للجمهورية الإتحادية فيما يكون الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد أمينا عاما جديدا لحزب البعث العربي الإشتراكي!!

إلا أن تلك التسوية و النهاية لم تكن مطلوبة أبدا في التخطيط الستراتيجي الدولي وقتها فزحف صدام حسين ليلغي كل تلك الترتيبات و ليشيد نظامه الحديدي القائم على القوة و الحرب و ترسيخ الزعامة الفردية المطلقة وحيث إنتهى العراق فيما بعد إلى ما أنتهى إليه من ضياع و إحتلال و تمزق يعيش الشعب العراقي اليوم إيقاعاته بكل ألم و فظاعة ! وقتذاك تمت إتفاقيات الوحدة المنشودة ثم جاءت إجراءات الطلاق و الخصام و الإنفصال الإنتقامية وكان العالم العربي يتفرج وهو مشدود نحو أكثر من ملف ساخن لعل أهم تلك الملفات كان ملف التسوية السياسية المتعثر مع إسرائيل بعد أن رفض العالم العربي التعامل الواقعي مع مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات السياسية، ثم جاءت تطورات الحرب العراقية / الإيرانية التي أشعلت لهيب المنطقة وخلطت الملفات طيلة عقد الثمانينيات و ما تخللها من أحداث موجعة كالإحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982 وطرد المقاومة الفلسطينية من هناك و بداية تبلور الفكر الإرهابي الذي ساد لاحقا في العالم العربي، وقتذاك كان النزاع العراقي/ السوري محتدم بكل تفاصيله عبر حلقات التآمر المتبادلة بين النظامين لإسقاط أحدهما الآخر، فالعراق ذهب بعيدا في إحتضان ودعم المعارضين السوريين كجماعة الإخوان المسلمين أو بقية أهل التحالف السوري المعارض كالبعثيين اليمينيين و جماعة أمين الحافظ وغيرهم، أما النظام السوري فبسبب علاقاته الوثيقة و الستراتيجية و التحالفية مع النظام الإيراني فقد وفر الدعم المعنوي و الإحتضان السياسي للأحزاب الدينية العراقية ( الشيعية ) كالدعوة و حركة المجاهدين و العمل الإسلامي دون أن ننسى علاقاته الوثيقة و التاريخية مع الأحزاب القومية العربية كالبعثيين اليساريين و الناصريين و كذلك مع الشيوعيين الذين إتخذوا من دمشق و عدن قاعدة لنشاطاتهم بعد ضرب البعث العراقي لهم أواخر عام 1978 و فشل الجبهة الوطنية!!

و كان التآمر على أشده حتى أن مؤتمرات القمة العربية التي كانت تعقد حينذاك كانت تشهد توترات واضحة بسبب الصراع بل الحرب العراقية / السورية وهو ما ذكره صراحة الملك المغربي الحسن الثاني في مذكراته المنشورة، كان العالم العربي يتفرج على الصراع القائم و لم تنجح جميع محاولات التدخل العربية لا من الجامعة العربية المشلولة أبد الدهر و لا من الأنظمة العربية التي كانت تعرف بأن أي تدخل أو وساطة سيكون مصيرها الفشل بسبب حجم الخلافات البنيوية و المتجذرة حتى النخاع، لقد إنتقل ملف إدارة الصراع العراقي / السوري وقتها للأروقة الإستخبارية فقط وهي التي كانت تحدد مسارات الطريق و تطوراته، و لكن بعد فشل الغزو العراقي للكويت عام 1991 و إنكفاء السياسة الهجومية لصدام حسين ثم الدخول في متاهة الحصار الدولي الذي أعقب الغزو و الحرب و الهزيمة و بسبب الحاجة الماسى لموارد مالية و لساحات تنفيس تخفف من عبأ الإختناق البطيء الذي كان يعانيه العراق وقتذاك تطورت العلاقات مع دمشق إعتبارا من عام 1997 بعد أن فتحت نقطة ( التنف ) الحدودية و سمح لأهل التهريب والوكالات التجارية السورية بإستثمار الفرصة كما شهد الوضع تقاربا سياسيا ملحوظا عبر إختيار مطار دمشق كمحطة مركزية لتنقلات المسؤولين العراقيين في العالم!!

و نسجت خيوط واهية و لكنها ملحوظة لعلاقة إنفتاحية كانت تنمو مع الأيام توجت بإقدام دمشق عام 1999 على منع طبع و تداول صحف و أدبيات المعارضة العراقية الدينية خصوصا من التداول العلني في الشارع السوري!!

و كانت خطوة ملفتة للنظر تؤشر على تقارب نوعي بسبب تنامي المصالح الإقتصادية المشتركة، ثم رحل حافظ الأسد عام 2000 و تبع ذلك سلسلة من التطورات الدولية أدت في النهاية لإحتلال و غزو العراق و إخراج نظام صدام حسين من نافذة التاريخ نهائيا في ربيع عام 2003 لتنقلب المعادلة و يتحسس بعثيو الشام رقابهم، فقد وقع المحظور و طارت سلطة الخصم التاريخي البعث العراقي و بدا للجميع بأن طريق دمشق قد أضحت مفتوحة للتغيير إلا أن تطورات الأوضاع الداخلية في العراق و حالة الهرجلة الأمريكية و الفوضى المطلقة في إدارة الملف العراقي قد أدت لإختلاط الأوراق بعد أن دخل العراق في لجة الفوضى المطلقة بعد الإحتلال الذي أسقط نظاما سياسيا مركزيا و أمنيا صارما ثم وجد الشعب العراقي نفسه على حين غرة مجردا من أي سلطة مما أتاح المجال للعصابات و قوى الدمار و الفئات المرتبطة بالخارج و خصوصا بإيران المتوثبة و الجاهزة للإنتقام التاريخي بأن تفرض سطوتها و سلطتها و أن يدخل البلد بأسره في حالة إنفلات شامل بعد إختفاء المؤسستين الأمنية و العسكرية في واحد من أبشع سيناريوهات الدمار في الشرق الأوسط في تاريخه الحديث... كل ذلك و العالم العربي عاجز عن التصرف أو المبادرة وهو يراقب بصمت فيما توافدت القوى التكفيرية و الظلامية و الإرهابية على العراق الذي تحول لساحة قتل و قتال لتلك القوى بل تحول فعلا لما يمكن أن نسميه ب ( مصيدة الفئران ) في المواجهات بين الجيش الأمريكي و تلك الجماعات!! و هنا برز الدور السوري أيضا و أنكفأ أو إختفى الدور العربي الذي ظل متمسكا بالدعوات الصالحات فقط لا غير، فيما كانت الجامعة العربية كالزوج المخدوع.. آخر من يعلم!!

وقد إستثمر الجهاز الأمني السوري الفرصة للقيام بتنفيذ ستراتيجية دفاعية تشغل الجانب الأمريكي و تخلق أوراق تفاوضية مهمة للجانب السوري وتم التغاضي عن دخول الجماعات المتطرفة القادمة من المغرب و اليمن و الجزيرة العربية و مصر و أوروبا لتنفيذ العمليات الإنتحارية في المدن العراقية، كما لعبت المخابرات السورية دورها المتميز في فتح قواعد التدريب للقوى الطائفية العراقية و كذلك للجماعات البعثية المرتبطة بها لإشعال الموقف في العراق و كانت الذريعة الدائمة أنه ليس مطلوبا من سوريا حماية الوجود الأمريكي!! كما كان التذرع بنقص المعدات التقنية التي توفر أمن و مراقبة الحدود المشتركة!!

وهي حدود طويلة و معقدة و صحراوية تمتد لمئات الكيلومترات، كان واضحا بأن السوريين لهم أيادي واضحة في الكثير مما كان يحدث و لكن ضعف الحكومات العراقية السابقة كحكومة إياد علاوي و إبراهيم الجعفري و الإنشغال في حالة الحرب ألأهلية الطائفية الداخلية و محاولة بناء الدولة العراقية الجديدة قد عرقل كل محاولات الحد من التدخلات الخارجية، و كان من الطبيعي أن يستقر بعض كبار القياديين البعثيين السابقين في الحاضنة السورية و أهمهم جماعة المنشق على قيادة البعث في داخل العراق أي قيادة عزة الدوري وهو الرفيق محمد يونس الأحمد الذي أعلن إنشقاقه و يقال أن تحت تصرفه مليارات من الدولارات كان حزب البعث العراقي قد خصصها لأيام الأزمة!! وصيد ثمين كهذا لن يتخلى عنه النظام السوري الذي يعرف تماما من أين تؤكل الكتف!!؟

و كان العالم العربي يراقب كل ما يجري في صمت قاتل و حيرة متخبطة، و إذا كانت إنفجارات الأربعاء الأسود في بغداد قد إنتزعت كل حبال صبر السيد نوري المالكي الذي يعرف الشام جيدا كما تعرفه أجهزة مخابراتها جيدا أيضا بحكم الإقامة الطويلة هناك و مساحات العمل الميدانية المشتركة لسنوات طويلة، فإن صورة المستقبل تحمل تصعيدا كبيرا في إصرار المالكي على تشكيل المحكمة الدولية وهو مطلب شرعي و عادل لمحاسبة كونية و أممية للإرهابيين الذين يستهدفون الأبرياء و الآمنين، و لعل في التحرك السريع للدبلوماسيتين الإيرانية و التركية و التوسط في حل نزاع عربي هو ضربة مهينة للدبلوماسية العربية التي لا تدري ماذا تفعل ؟ و إلى أين توجه بوصلتها النهائية فيما يبدو أن ملف النزاع العراقي / السوري بات يتجه بشكل واضح نحو التدويل الذي لا بد منه..؟ فهل تتدارك الدبلوماسية العربية الموقف قبل أن يلوت وقت مندم ؟ أم أننا نحلم و نحلق في عوالم الأحلام ؟... تلك هي المسألة؟

[email protected]