أثبتت نتائج الإنتخابات البرلمانية الأخيرة في كردستان أن هناك خللا على مستوى قيادات الأحزاب التقليدية التي تبسط منذ عدة عقود سيطرتها المطلقة على الحياة السياسية في كردستان. وأن ظهور قائمة التغيير وحصولها في فترة قياسية على ربع مقاعد البرلمان الكردستاني لهو خير دليل على حاجة تلك الأحزاب بذاتها الى التغيير من الداخل.
لقد كتبت وكتب غيري من الكتاب الكرد سلسلة من المقالات المتتالية في الصحف الكردية المحلية لتشخيص أسباب نكسة الحزبين الحاكمين في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، وأجمعنا جميعا أن هناك خللا، وهو خلل كبير داخل قيادات الحزبين ينبغي معالجته قبل أن تستفحل الأمور أكثر من ذلك، ويتهدم بنيان هذين الحزبين بعد أن تتوالى عليهما المزيد النكسات والنكبات التي قد تكون في المرات القادمة قاضية على شعبيتهما، خصوصا وأن تعطش الجمهور الكردي الى تغيير الواقع الحالي أصبح حقيقة ساطعة، اللهم إلا أمام من ضعفت أبصارهم من شيوخ الحزبين عن رؤيتها ولو بالعدسات المكبرة أو حتى بالمجهرات.
باديء ذي بدء وكعادتي في ربط كل ما يحدث للحزبين الحاكمين في الفترة الأخيرة بحالة الفساد الإداري والمالي بل والخلقي أيضا، أرى بأن إستشراء تلك الحالة ووصولها الى قمة هرم السلطة في كردستان مع إنهمار كل هذه المليارات من الدولارات على الإقليم هو الذي أوصل حال الحزبين الى هذا المصير المظلم، فللأسف الشديد إعتبر الحزبان في لحظة غرور أن الحال سيدوم لهما في سلب وسرقة موارد الأمة وإفقار وتجويع الغالبية العظمى من الشعب،وأنهم سيظلون يتنعمون بخيرات هذا البلد الى أبد الآبدين دون أن يحاسبهم أحد، أو يسألهم عن مصير كل تلك المليارات من الدولارات الهابطة على كردستان من بغداد، وبذلك فقدوا توازنهم ولم يتعظوا بما فعل الله مع قارون وكيف خسف به الأرض وهو الذي كان يمتلك من الأموال من أن مفاتيحه تنوء بالعصبة منهم!!.
تمادى قادة الحزبين في غيهم بإفقار الشعب والتعامل معه كأنه مجرد قطعان من الخراف يسوقونهم كما يريدون، يتسيدون عليهم ظلما وعدوانا دون مراعاة لأبسط مباديء حقوق الإنسان، وتنكروا حتى لمباديء العقد السياسي الذي يجمع بين الحاكم والرعية، وهي توفير الحياة الحرة الكريمة للشعب.
صرفوا مئات الملايين من الدولارات لحفنة من شراذم قادة وأعوان حزبيهم في سفرات ترفيهية يقضونها في شواطيء دول أوروبا، في وقت يعاني الكثير من أحياء المدن الكردستانية من العطش بسبب عدم وجود مشاريع لإيصال مياه الشرب الى تلك الأحياء؟؟!!
مئات الملايين من الدولارات ذهبت من أفواه الشعب وصرفوها لإملاء بطون بعض الطبالين والزمارين وماسحي الأكتاف الذين أستساغوا السحت الحرام، فأشبعوا بطونهم وأطفئوا غرائزهم على حساب الملايين من الفقراء والمعدمين؟؟!!
في الوقت الذي يستيمت فيه خريج الجامعة للحصول على فرصة التوظيف في دائرة حكومية ليتمكن من إعالة عائلته،كان الآلاف من أعوان الحزبين يتنعمون بأكثر من وظيفة حكومية وحزبية وهم في معظمهم من الجهلة والأميين، وفيهم من يستلم شهريا أربعة رواتب من الحكومة؟!
في ظل هذه المعاناة اليومية للمواطن الكردي كانت هناك قيادات مسترخية من الحزبين تتصور أنه بمجرد شراء بضعة أقلام رخيصة، ومنح الإمتيازات لبعض الصحف تستطيع أن تضلل الجماهير وتقلب الواقع المر الى ربيع زاهر وتصور كردستان كأنها quot; شام شريف quot;؟؟!!
لم تتعظ تلك القيادات بالدروس والعبر التي إستخلصناها من حكم الدكتاتورية البغيضة في العراق وكيف أوصل التضليل الإعلامي دكتاتور بغداد الى حبل المشنقة غير مأسوف عليه حتى من قبل أولئك الذين كانوا يزينون له الوضع في البلاد كأنه الربيع المشمس، وأن الشعب السعيد أصبح في منتهى السعادة والرخاء.
وهكذا فعل بعض أعضاء قيادة الحزبين الحاكمين في كردستان لخدع زعمائهم، ودبروا لهم المكائد لإعماء بصائرهم وحجب الحقائق المرة عنهم، حتى أن بعض القادة المنافقين والمخادعين من هذين الحزبين لم يتوانوا عن تدبير مكيدة تأجير المئات من المصفقين والمصفرين لإشراكهم في التجمعات الإنتخابية أمام زعماء أحزابهم ليوهموا هؤلاء بحجم التأييد الشعبي لحزبهم، ولكن مع ظهور نتائج الإنتخابات ردت مكائدهم الى نحورهم وكانت فضيحتهم بالجلاجل؟؟!!..
أكبر مشكلة للحزبين الحاكمين في كردستان، وهي مشكلة من الممكن تعميمها على سائر الأحزاب العراقية، هي مشكلة التمسك ببعض أعضاء القيادات التي أصبحت كالأهرامات لا تريد أن تزاح عن مواقعها. فهناك أعضاء في قيادة الحزبين هرموا الى حد الخرف، ولكنهم ليسوا مستعدين لأن يتخلوا عن مواقعهم لمن هم أجدر منهم، حتى لو أدى ذلك باحزابهم الى الهاوية كما حصل للكثير من الأحزاب العراقية والكردستانية، فهناك من لم يعد قادرا حتى على إدارة إجتماع حزبي إلا وهو متكيء على الوسادة، ورغم ذلك فإن زعيم الحزب يظل يتمسك به كأنه فريد عصره وزمانه،ولا يريد أن يزيحه ليجدد حزبه بعناصر شابة ويضخ بها دماء جديدة في جسد حزبه رغم أنه يعلم بأن التغيير هو سنة الحياة.
صحيح أن لبعض هؤلاء إستحقاقات نضالية خلال سنوات الثورة،ولهم الحق في أن يجنوا ثمرة نضالهم وعطائهم، ولكن الى متى تظل هذه الأحزاب تتمسك بهذا الإٍستحقاق الثوري وهي تقود اليوم إدارة حكومية لا تستوعب وجود مثل هذه العناصر في صفوفها، خصوصا وأن معظم تلك القيادات قد لا تعرف القراءة والكتابة إلا لماما، ولا تمتلك من الثقافة، إلا ثقافة إستخدام البنادق في القتال، واليوم نحن نعلم بأن الحرب قد وضعت أوزارها، وأنه حان وقت الجهد والعمل لبناء أسس الدولة وهو يحتاج الى العقول والخبرات والكفاءات العلمية وليس الى تصويب الرصاص الى أهداف متحركة؟!.
والمشكلة الأكبر أن الأمر لم يعد مجرد إبقاء أهرامات كردستان على حال شموخها، بل أن هناك عادة مستجدة ظهرت مع إستفحال حالة الفساد وهي توريث المناصب والمواقع للأبناء والأحفاد، فما أن يموت أحد الوزراء أو عضو في قيادة أحد الأحزاب حتى ينتقل منصبه وموقعه الحزبي الى إبنه أو إبنته؟؟!!.. وهذا بصريح العبارة دليل على مدى دكتاتورية وتخلف الأحزاب الكردستانية التي باتت تعتمد المفاهيم العشائرية والقبلية وحتى العائلوية في إدارة السلطة؟؟!!
كان للسيد نوشيروان مصطفى رئيس قائمة التغيير حين كان نائبا لطالباني دعوة مخلصة لأنقاذ الإتحاد الوطني من أزمة خطيرة كانت تعصف به قبل سنتين أو أكثر، حين إنجر الإتحاد الوطني بدوره الى مستنقع الفساد الذي بدأ بالإستشراء في كردستان.. وكان هو ومعه عدد من رفاقه الآخرين في المكتب السياسي واللجنة القيادية قد شكلوا جناحا أسموه بـquot; جناح الإصلاح quot; هدفه إجراء إصلاحات جذرية داخل الإتحاد الوطني ومنعه من الإيغال في الفساد، والعودة به الى صفوف الشعب، ولا يشك أي عضو في التنظيم بمدى إخلاص هذه المجموعة وسعيها لإنتشال الإتحاد من الوقوع في ذلك المستنقع الخطير، ولكن أثناء إجراء الإنتخابات الحزبية التي كانت ستكون معيارا لمدى قوة جناح الإصلاح، تكالبت الأجنحة الأخرى في الإتحاد الوطني على التآمر وصرفت الملايين من الدولارات المسروقة لشراء الذمم والولاءات وحشد كامل قوى المرتزقة والمأجورين وأصحاب النفوس الضعيفة داخل تنظيمات الإتحاد لإلحاق الهزيمة بالإصلاحيين، وللأسف فإن قيادة الإتحاد الوطني التي إستبدلت الطيب بالخبيث قد أعمت بصيرتها وسدت أذانها عن سماع تلك النداءات المخلصة ما دفع بهذه المجموعة الإصلاحية الى مغادرة مواقعها القيادية في الإتحاد الوطني وترك كل تلك الإمتيازات لتصطف الى جانب الشعب وترفع راية التغيير الشامل ليس فقط داخل الإتحاد الوطني بل داخل إقليم كردستان عموما، وكان ما كان من حصول هذه المجموعة التي قادت عملية التغيير على تلك النسبة الكبيرة في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة وإلحاق هزيمة ساحقة بالحزبين الحاكمين في كردستان، وتحولت قائمة التغيير اليوم الى مارد يقض مضاجع قادة الحزبين الحاكمين.
لقد آن الأوان لزعيمي هذين الحزبين أن يبادرا بعملية إصلاح شاملة لتجديد حزبيهما بعناصر جديدة خصوصا على مستوى القيادات الحالية التي هرمت وشاخت ولم تعد تتلائم مع متطلبات المرحلة الحالية والقادمة في كردستان، وأن يسعيا الى إستعادة ثقة الشعب من خلال شن حملة جدية ومخلصة ضد الفساد والمفسدين، وأن يعيدا تدعيم بيتهم الداخلي قبل أن يتداعى ويتهدم، عندها لن يملك قادة الحزبين سوى البكاء على أطلال ذلك البيت العتيق...
التعليقات