الإنهيار السريع و المفاجيء لمنظومة العلاقات العراقية / السورية التي كانت متوترة طيلة العقود الخمسة الأخيرة، و عملية سحب السفراء للتشاور و أشياء أخرى بعد الإعلان الرسمي العراقي عن تورط أطراف من حزب البعث العراقي المنحل بتدبير العملية الإرهابية التي جرت في بغداد في التاسع عشر من أغسطس و ادت لدمار واسع و الذي أعلنت جماعة القاعدة الإرهابية مسؤوليتها عنه أيضا، يعيد إلى ألأذهان قصص العلاقات الدبلوماسية المعقدة و المتوترة بين عاصمتي الخلافة الأموية و العباسية و التي لم تشهد طيلة العصر الحديث سوى فترات عابرة من الهدنة المؤقتة التي سرعان ما تنهار تحت ضغط الأحداث و الأجندات و إختلاف الرؤى و المؤامرات المفبركة أو الحقيقية، و كانت علاقة دمشق الرسمية بالنظام الذي حل في بغداد بعد سقوط نظام صدام حسين الذي كان المناكف و العدو الشرس الأول للنظام السوري رغم الهوية البعثية المشتركة للنظامين، قد إتسمت بصفحات معقدة و متناقضة، فالجماعات التي جاءت للحكم في بغداد بعد الإحتلال الأمريكي تعرف دمشق جيدا.

كما أن دمشق تعرف كل خباياها و خفاياها و صفحاتها و شخوصها لا بل أن أجهزة المخابرات السورية تمتلك رصيدا معرفيا و معلوماتيا هائلا عن كل رموز و شخوص المعارضة العراقية السابقة التي تحولت لنخب عراقية حاكمة في بغداد اليوم!، كما أن علاقات عمل تخادمية ومصلحية مشتركة قد قامت بين الطرفين و أسست لشراكة تاريخية قل نظيرها، لا بل أن الرئيس العراقي الحالي نفسه السيد جلال طالباني كان يتنقل بجواز سفر سوري و كذلك الحال مع رئيس الوزراء العراقي الحالي السيد نوري المالكي الذي كان يتنقل بجواز سفر سوري، هذا غير العديد من الملفات العملية الخاصة لبرامج العمل السياسية و العسكرية و التنسيق في إدارة ملف الصراع السوري السابق المعقد مع النظام العراقي السابق أو مع النظام الإيراني الذي كانت كل مساعداته لحلفائه في المعارضة العراقية تمر تحت عيون المخابرات السورية، لقد إحتضنت دمشق و نظام الرئيس السوري الراحل المعارضة العراقية بكل أطيافها و فروعها لا بل أن بعض الأحزاب العراقية قد تأسست في دمشق كحزب الإتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده الرئيس طالباني!!

كما أن المغضوب عليهم إيرانيا من حزب الدعوة الإسلامية كجناح السيد نوري المالكي كان يتخذ من دمشق قاعدة و مستقرا و مقاما بعد أن ضاقت به طهران بما رحبت و تميز الخلاف الفكري و السلوكي معها بعد أن وضع النظام الإيراني كل بيضه في سلة المجلس الأعلى للثورة الإيرانية في العراق و همش الأحزاب الدينية الأخرى كالدعوة الذي إنشق و أنقسم في إيران طولياو عرضيا ! حتى تحول لدعوات متنافره!، أما الموقف السوري من تنظيم المجلس الأعلى فقد كان متميزا وواضحا إذ كان المرحوم محمد باقر الحكيم رئيس المجلس يستقبل من أعلى المستويات القيادية في الشام كما أن معسكرات التدريب و التعبئة و الخطط الإستخبارية كانت قائمة، وكان التنسيق العملي مع قيادة فرع مخابرات القوة الجوية في أزهى أحواله، وكانت دمشق وهي تدعم الإسلاميين العراقيين تدعم أيضا أتباعها في حزب البعث العراقي الجناح المؤيد للسوريين، لا بل أن الوجود البعثي العراقي في سوريا في الثمانينيات شهد ظاهرة غريبة تميزت بوجود حزب بعثي سني بقيادة عبد الجبار الكبيسي و فوزي الراوي!

وفرع بعثي شيعي بقيادة عضو القيادة القومية سهيل السهيل!! و كان التنافر على أشده بين الفرعين البعثيين!! فيما كانت المخابرات السورية تراقب ذلك الصراع عن كثب دون أن تتدخل!، و طبعا لا ننسى إن الدعم السوري لجماعات المعارضة العراقية السابقة قد شمل الأكراد و الشيوعيين و بقايا الجماعات القومية و الناصرية المندثرة!!، و لم يتدخل السوريون في تحديد نشاط المعارضة العراقية إلا بعد الإنفتاح التجاري مع نظام صدام أبتداءا من عام 1997 وحيث فرضت بعض القيود على مطبوعات و النمشرات التحريضية للمعارضة و حتى سقط نظام صدام و العراق تحت الإحتلال الأمريكي لتتغير الصورة الستراتيجية في المنطقة بعد أن نزحت القيادات اللاجئة السابقة و تحولت لقيادات حاكمة في بغداد فيما شهد العراق نزوحا جماعيا لأتباع نظام صدام حسين طلبا للحماية هذه المرة من الغريم القديم و اللدود النظام السوري، وفي ظل حالة الهلع الإقليمي التي إنتابت الأنظمة الشمولية بعد سقوط صدام كان إحتضان السوريين لأتباع النظام السابق بمثابة تحصيل حاصل و يصب في مصلحة النظام السوري الذي يحاول إمتلاك بعض الأوراق لإدارة الصراع الإقليمي المعقد رغم أن السوريين لم يسمحوا أبدا بلجوء أبناء صدام حسين و لا عائلته التي وجدت ملجئا لها في الدوحة القطرية و عمان الأردنية!

كما نشط فرع البعث العراقي القديم المرتبط بسوريا بقيادة فوزي الراوي في إستقطاب القيادات العراقية البعثية الهاربة و منهم محمد يونس ألأحمد و غزوان الكبيسي و آخرون باتت دمشق و المدن السورية ألخرى تعج بهم رغم أن أقطاب النظام العراقي الجديد ظلوا على علاقتهم الوثيقة مع دمشق التي شهدت أيضا قدوم أعداد هائلة من العراقيين ثم إرتفاع شكوى قوات التحالف من الدعم السوري المفتوح للجماعات الأصولية التي إتخذت من الحدود السورية العراقية معبرا لتنفيذ عمليات إنتحارية إرهابية كبرى في العراق و قد قيل و كتب الكثير عن ذلك الملف، مطالبة الحكومة العراقية اليوم لنظيرتها السورية بضرورة تسليم بعض القيادات البعثية لبغداد هي مطالبة عبثية يعلم العراقيون جيدا بأنه لن تتم أبدا الإستجابة لها لأن ذلك سيفتح ملفات عديدة و شائكة! وهي في تقديري مجرد حركة إعلامية ستخبو جذوتها خلال الأيام القادمة لأن الوجود البعثي ليس في دمشق فقط بل أن القيادات البعثية موزعة بين الأردن و قطر و حتى اليمن التي تحتضن أعداد مهمة من البعثيين السابقين و منهم السيد صلاح المختار أحد ممثلي قيادة عزة الدوري في العراق و كل التحركات و التغطيات كانت تتم بعلم الإدارة ألأميركية التي لم تتحرك أبدا في هذا الملف، سحب السفراء ليس سوى حركة إعلامية عابرة سينتهي مفعولها و كل ما يقال عن طلبات تسلم و تسليم لن تحدث واقعيا لأن المخفي في العلاقات العراقية / السورية أكثر من الظاهر..؟ و لأنه ليس من مصلحة أي طرف أن تفتح الملفات بكل محتوياتها، إدارة الصراع العبثي في المنطقة قد دخلت طورا جديدا مع المستجدات الأخيرة، و لكن في جميع ألأحوال لن يكون هنالك تسلم و لا تسليم!!،

ذلك ما تؤكده الوقائع الميدانية.. و أهل مكة أدرى بشعابها..!.

[email protected]