كان هنالك ضابط عراقي يتمرن في الكلية العسكرية التركية على فنون القتال وليس على فنون السياسة، والذي أصبح فيما بعد شخصية سياسية لعبت دورا مهما في حياة العراق. وقد كانت طبيعة التمرين بأن ذلك الضابط مسؤول بالدفاع عن المدينة التي يتواجد بها ضد هجوم خارجي، ولكون تربيته كانت مثالية فقد وجد بأن الأسلحة المتوفرة لديه ضعيعة ولاتستطيع أن تقاوم الهجوم. ومن مبدأ أنساني قرر أن يسحب قواته لمواجهة القوات الهجومية خارج المدينة، وعندها أوقف الكولونيل الألماني المسؤول عن التمرين الاستمرار بالتمرين ليلقي محاضرة تستغرق أكثر من ساعتين وليعطي ذلك الضابط درسا مهما في حياته وأن يبلغه: كن عمليا وأن لاتكن مثاليا وأن القائد الناجح يجب أن ينتصر في الدفاع عن قريته بالموارد المتاحة لأنها مسألة واجب وطني ومن أجل ذلك يجب على القائد أن يستخدم عقله وطاقته بما وضع بين يديه.
وبقيت هذه الحكمة راسخة في عقليته وهو الباشا نوري السعيد (1888-1958) الذي اصبح رئيسا لأربعة عشر وزاراة عراقية للفترة 1930-1958 الذي قال:

لقد أعطاني كلام الكولونيل الألماني الفكرة التي خصصت لها حياتي فيما بعد وهي أن تكون عمليا وأن لاتكون مثاليا، ومن ينتقدونني دائما يريدون مني أن أكون مثاليا، فإذا كل شئ يأتي كما تشتهي فما نفع مصطلح القدرة؟ استخدم ما هو تحت يديك، ولاتنتظر حتى يكون كل شئ مثاليا حتى تتحرك، وتفقد في النهاية فرصتك.

أما منتقدوه فيعتبرونه أهم شخصية سياسية لعبت دورا خطيرا في تاريخ العراق خلال الحكم الملكي الذي أمتد من 1921 لغاية 1958 إذ كانت بريطانيا تعتبره رجل المهمات الخاصة والكبرى للمصالح البريطانية في العراق ومنطقة الشرق الأوسط.

وقد قام هذا الضابط فيما بعد بأدوار سياسية مهمة في حياة العراق والوطن العربي ولو نظرنا كمنصفين لوجدناه كان واقعيا في نظرته للوضع العربي والأمور السياسية خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
وكان يفكر دائما في تطوير العراق الذي بإعتقاده كان عاجزا عن التخلص من الفقر - كان النفط مدفونا في أرضه- وبناء الدولة إلا بإستعانته بالدول المتقدمة وكانت بريطانيا على مقدمتها، وكان ينظر للحياد الأيجابي الذي دعا له الرئيس جمال عبدالناصر نظرة سلبية لأنه يعتقد (بأن التاريخ سيلعن من يتلاعب بعواطف الجماهير، مقابل التضحية بالمصالح الوطنية لأن الحياد قد يكون كارثيا) وكان يكرر القول: (للعرب خياران، أما التحالف مع الغرب أو التحالف مع موسكو).
ومن غير المعروف أو الشائع لدى العرب وحتى العراقيين بأن نوري سعيد هو من مؤسسي الجامعة العربية وهو الذي يقول بعد نكبة عام 1948 بأنه:
(يجب على إسرائيل حل مسألة اللاجئين قبل أن تتوقع أن يجلس العرب معها) وقد دعا في عدة مناسبات علنية إلى ضرورة تطبيق قرار الأمم المتحدة للتقسيم الصادر عام 1947 من أجل حل القضية الفلسطينية.

ارتبط في السياسة المفهوم المثالي بشكل من التنظيم السياسي غير قابل للتطبيق اي عدم الواقعية أو العملية فيما يطمح إلى تحقيقة، بل تم اللجوء لاعتماد الواقعية السياسية التي لاتعني الأستسلام للأمر الواقع، وأنما هي علم تهدف قواعده إلى التعامل مع الواقع بحكمة، وتقصد تحويله وتغيير معطياته بما يخلق واقعا آخر أفضل وأبقى.
لكن ليس بالإمكان في جميع الأحوال استرداد الحق المغتصب بالحوارات السياسية، بل لابد أحيانا من اللجوء إلى القوة المسلحة التي تعني استخدام الواقعية او الأمور العملية لحل المشاكل، كما حدث في تحرير الجزائر من الأحتلال الفرنسي أو هزيمة الأمريكان في حرب فيتنام وخروج العراق من أرض الكويت. لذا نجد أن قرارات الأمم المتحدة بشأن أنهاء الأحتلال الأسرائيلي للأراضي العربية المحتلة ظلت حبرا على ورق لأنها لم تجد القوة التي تفرض تنفيذها جبرا وتجعل اسرائيل ترضخ لأرادة المجتمع الدولي اذ أن مسيرة القضية الفلسطينية لم تنطلق على اساس الواقعية السياسية وأنما على أساس التسليم بالأمر الواقع.

لو نظرنا إلى الحكمة والواقع العملي العراقي والعربي الذي نظر له نوري سعيد وإلى الواقعية السياسية لتجاوزنا كثيرا من المشاكل والكوارث التي ابتلى بها العرب والعراق خاصة مثل نكبة عام 1948 ونكسة عام 1967 وحروب الخليج وإحتلال العراق في عام 2003 . واستمرار إسرائيل باحتلال القسم الأكبر من الأراضي الفلسطينية والجولان السوري وبعض المناطق من لبنان، ولحصل الفلسطينيون على دولة فلسطنية مستقلة منذ عام 1947 بدلا من حكم ذاتي ناقص السيادة، بعد أن طبقنا مثاليتنا دون اقترانها بدراسة الواقع العربي. فلانحن استخدمنا السلاح بشكل كفوء وأيجابي لتحقيق طموحاتنا، ولا لجأنا للواقعية السياسية للحصول على بعض الحقوق وإنما كان كلامنا أكثر من أفعالنا.
ولو طبقنا هذه الحكمة لجنبنا العراق الدخول في حروب عبثية لم يجن منها سوى ملايين الضحايا والدمار الشامل في الأمور النفسية والمادية والديون المالية الباهضة التي ربما سيعجز حتى أحفادنا من تسديدها لأخواننا الكويتين والسعوديين. ولو جربناها،ولو بعد فوات الأوان، لاستطعنا كشعب عراقي واحد أن نساهم ببناء العراق بعد احتلاله عام 2003 ولكن معظم الأحزاب القديمة أو الجديدة او الطائفة أو الفكر الديني أصبحت مثالية في متطلباتها وحاول قسم منهم التشبث بالماضي بدلا من استيعاب الواقع الجديد الذي يعيشه العراق وإعطاء الآخرين الفرصة في إدارة الدولة العراقية لينعم الجميع بالأمن ويشعروا بأخوة الوطن الواحد وليبنوا بلدهم أسوة ببقية شعوب العالم.

كما أن المثالية طغت حتى على سلوكية الأفراد والمجتمع خاصة بعد سقوط النظام السابق، فبعضهم سرق ممتلكات الدولة ظننا منهم بأنها ممتلكات السلطة المبادة، والبعض الآخر لم يقتنع بمشاركة الآخرين معه في الحكم وكأن ادارة العراق تختص بفئة دون غيرها لذلك حمل السلاح لإقصاء الآخرين تحت مسميات وطنية. والبعض الآخر وعندما سمحت الظروف الجديدة التي جاءت بعد احتلال العراق وتوفر مناصب إدارية وقيادية مهمة أن يشغلوها دون النظر إلى واقع مؤهلاتهم، واعتقدوا بأنها فرصة ذهبية لتكريم الذات بمعزل عن مصلحة المجتمع.
وتجد طروحات هذه الثلاثة فئات ومشاريعهم مثالية ولم تكن عملية لتنقذ المجتمع نحو الأفضل لذلك يجب على جميع العراقيين أن ينظروا إلى الواقع الذي نعيشه نظرة عملية فقد جربنا المثالية في حياتنا وأصبح واقعنا العام:
بأن يوم أمس أفضل من اليوم وسيكون هذا اليوم أفضل من غدا.

* أكاديمي عراقي