عاش اليمن منذ دخوله العصر الحديث بعد تلاشي نظام الإمامة مطلع الستينيات من القرن الماضي سلسلة لا تنتهي من الحروب الداخلية و التوترات المتواصلة وحالة الإنفلات ألأمني إضافة لمحاولات الإنقلاب العسكرية المتواصلة دون أن ننسى حالات الحروب التي كانت شبه دائمة بين شطري اليمن و التي إنتهت نظريا مع تحقيق الوحدة الإندماجية المستعجلة و المتسرعة و التي أقيمت إستنادا لتبدل معادلات الصراع الدولي و إنهيار المعسكر الإشتراكي مما دفع بقيادة الحزب الإشتراكي اليمني السابق الذي كان يعاني أشد معاناة من بقايا جراح حرب تصفية الرفاق في أحداث 13 يناير 1986 التي أفقدت الحزب خيرة قياداته التاريخية و أبرزت قيادة الرئيس السابق علي سالم البيض الذي دخل في وحدة إندماجية مع الشطر الشمالي في 22 مايو 1990 ليكون علي عبدالله صالح هو رئيس دولة الوحدة فيما يكتفي علي سالم البيض بمنصب نائب رئيس دولة الوحدة التي إنحرفت عن أهدافها الإنسانية و الوطنية المعلنة و تحولت لتكون وحدة تسلطية لأهل نظام الشمال بعد أن تمت مصادرة كل الإنجازات التقدمية و التنموية التي حققتها جمهورية اليمن الجنوبي إضافة لحالة الإنفتاح الإجتماعي التي كانت سائدة في الجنوب رغم كل نواقص و مثالب التجربة الإشتراكية هناك، و المشكلة إن قيام دولة الوحدة اليمنية قد إرتبط أساسيا بحالة التمحور و الإستقطاب التي كانت سائدة في العالم العربي أواخر ثمانينيات القرن الماضي فقد كان اليمن الشمالي عضوا في مجلس التعاون العربي الذي تأسس عام 1989 في محاولة من الرئيس العراقي السابق صدام حسين على لعب دور محوري في المنطقة و بما يناكف بوضوح مجلس التعاون الخليجي و الذي كان يستند على الإستفادة من وجود مصر في ذلك المجلس إضافة للأردن لكي يحاول أن يلعب دورا محوريا في المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب العراقية / الإيرانية التي توقفت فجأة صيف عام 1988 ليواجه العراق و العالم العربي سلسلة من الإستحقاقات و الإكراهات السياسية و الإقتصادية التي فرضتها ظروف و تقلبات و تحالفات تلك الفترة التاريخية الحرجة و التي أسست نتائج صراعاتها فيما بعد للمرحلة السوداء التي يعيشها العالم العربي حاليا، تاريخيا و منذ عام 1978 وهو العام الذي وصل فيه الرئيس اليمني الحالي علي عبدالله صالح للرئاسة في اليمن بعد مقتل الرئيس السابق أحمد حسين الغشمي فإن العلاقات العراقية / اليمنية الشمالية كانت تشهد تحسنا ملموسا وصل لحد التقارب فيما كانت علاقات النظام العراقي متوترة للغاية بل شبه عدائية مع نظام اليمن الجنوبي الذي كان يحتضن المعارضة اليسارية العراقية العراقية و كان يوفر المأوى للشيوعيين العراقيين و يهيأ لهم إمكانيات التحرك اللوجستي بمساعدة المعسكر الإشتراكي وقتذاك و كانت مخابرات نظام صدام تغتال المعارضين العراقيين هناك كما حصل مع الدكتور توفيق رشدي عام 1978، بعد إندلاع الحرب العراقية / الإيرانية عام 1980 وقف نظام اليمن الشمالي بكل إمكانياته و ثقله مع نظام صدام حسين بل أن الرئيس اليمني علي عبدالله صالح حضر لساحة المعركة و قام بإطلاق قذيفة مدفع نحو الجبهة الإيرانية ثم أتبع ذلك بإرسال محجموعة من المتطوعين اليمنيين للقتال في الجبهة الجنوبية و حيث تم سحقهم في معارك جبهة الشوش / ديزفول في ربيع عام 1982 فيما عرف بعمليات الفتح المبين التي كانت بداية الإنهيار العسكري العراقي في العمق الإيراني و حيث إنسحب الجيش العراقي من الأراضي الإيرانية في صيف ذلك العام لتنتقل الحرب إعتبارا من تموز/ يوليو 1982 للعمق العراقي و لتستمر حرب الإستنزاف لستة أعوام مضافة بعد ذلك، لقد كان نظام شمال اليمن في حالة تحالف معلن وصريح مع نظام صدام حسين فيما كان نظام جنوب اليمن الإشتراكي يتحفظ على سياسات النظام العراقي المغامرة، كما أن البعثيين في شمال اليمن كان لهم وجود فاعل في التركيبة و الحياة السياسية هناك إضافة إلى الدعم الشعبي اليمني لسياسة الرئيس العراقي السابق مضافا لذلك التشابه الكبير في طبيعة نظامي الحكم في بغداد وصنعاء من حيث بناء السلطة و التركيبة العائلية و العشائرية لذلك البناء وهي من ألأمور المعروفة لكل المراقبين للأوضاع اليمنية، و بعد قيام اليمن الموحد فإن الدولة الجديدة قد ورثت السياسة الخارجية و ألإقليمية لدولة اليمن الشمالي و كان ملفتا للنظر حضور رئيس دولة الوحدة و نائبه علي سالم البيض سويا لمؤتمر قمة بغداد في 28 مايو 1990 وهو المؤتمر الذي أسس بعد أسابيع قليلة لعملية غزو العراق لدولة الكويت و قيام الدولة اليمنية الجديدة بتأييد نظام صدام حسين و الغزو بطريقة واضحة مما خلق تداعيات رهيبة عانى منها الإقتصاد اليمني بعد عودة مئات الآلاف من المهاجرين اليمنيين في الخليج بعد أن باعوا أملاكهم وتخلوا عن تجارتهم وفقدوا وظائفهم كثمن لموقف النظام الغريب و غير المسؤول وهو ما دق المسمار الأول في نعش دولة الوحدة وحيث سرعان ما إنهار مجلس التعاون العربي الذي أطلق عليه الرئيس المصري حسني مبارك تسمية (مجلس التآمر العربي)! و دخل العالم العربي في عصر الفتنة الكبرى الجديدة وحيث هزم مشروع الغزو و تحررت الكويت بعد عاصفة الصحراء و فرض الحصار الطويل و القاسي على الشعب العراقي فيما دخل اليمن الموحد في أزمة بنيوية صامتة سرعان ما أنفجرت لتؤدي لوساطات لم تفلح في إنهاء التوتر و الحساسية ثم حدثت حرب عام 1994 التي كانت تهدف لإعلان عودة دولة اليمن الجنوبية بعد فشل الوحدة الواضح في تحقيق الأهداف التي أقيمت من أجلها، وكان رد حكومة الشمال هو القمع العسكري عبر الإستعانة بخبراء و طياري النظام العراقي و مؤسسته العسكرية التي لم تنس أبدا موقف حكومة اليمن المساند على طول الخط لنظام صدام حسين و كانت مجزرة صيف عام 1994 إعلانا واضحا على قيام وحدة التسلط و القهر و الحديد و النار وهي قد تستمر لفترة معينة إلا أنها لن تترسخ أبدا بل ستظل الأزمة قائمة و مستمرة و سيظل هدف فك الإرتباط مع الشمال هو هدف الجنوبيين المقدس طالما كانت عقلية الإنتقام و القهر هي فلسفة السلطة في الشمال، و اليوم و بعد المتغيرات الإقليمية الكبرى تبدو معركة نظام اليمن ضد جماعة الحوثيين وهم قيادة الزيديين في منطقة صعدة بمثابة فرصة لتصفية بعض الحسابات الإقليمية المؤجلة، فقد أعلن الشيخ همام حمودي وهو أحد قيادات المجلس الأعلى في العراق عن نية الحكومة العراقية لفتح مكتب للحوثيين في مدينة النجف مما يعني مساعدة لوجستية عراقية فاعلة للمعارضة اليمنية المسلحة وهو تطور سياسي و منهجي إقليمي و خطير أيضا قد يفتح الباب لمواقف مستقبلية كبيرة و مفاجئة، و في جميع الأحوال فإن الأزمات الداخلية تخلق فرص عديدة لإحياء ذكريات التوتر و الدعم الماضية و بما يعني بأن المنطقة برمتا مقبلة على كرنفال إنتقامي و إستعراضي واسع المدى... إذ تبقى كل الخيارات و الإحتمالات قائمة....!
[email protected]