هل حان الوقت لمفاوضات إقليمية؟

يشهد العالم اليوم ما يمكن وصفه بالانهيار الكامل لعملية السلام في الشرق الأوسط التي بدأت بوادرها منذ سبعينات القرن الماضي وتوّجت بالاتفاق الثنائي في كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، ثم اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي أعقبه الإتفاق الثالث والأخير بين الأردن وإسرائيل. وإذا أمكن اليوم اعتبار أن الحياة لا زالت تدب بالنسبة للإتفاقين الأول والثالث فإن الواقع يؤكد أن إتفاق السلام الفلسطيني الإسرائيلي قد قضى منذ مدة طويلة، ولن تفلح كافة الجهود التي تبذلها أطراف عربية وغير عربية إلاّ في التوصل إلى quot;هدنquot; قصيرة تخفف من احتمالات التدهور الكامل للأوضاع، ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، بل وبين دول المنطقة وما يستتبعه ذلك من تدخلات خارجية.
لماذا تفشل اليوم الجهود التي تم لها النجاح في وقت سابق؟ ولماذا تعرقلت خلال السنوات الأخيرة كافة المحاولات المبذولة من الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والدول العربية وكافة المبادرات الدولية والعربية وخطط الطريق وأنابوليس وغيرها مما لم يعد بالإمكان تعدادها؟ وكيف تمكّنت إسرائيل من الإبقاء على الوضع الحالي الذي يضمن لها الاستمرار بالتهام الحقوق والأراضي الفلسطينية؟ وكيف تمكّن الفلسطينيون، رغم الانقسام بينهم، من الصمود سياسياً وميدانياً رغم كافة الصعوبات التي يواجهونها يومياً في كيانين منفصلين ومتضادين؟
قد يكون من المفيد لفهم أسباب ذلك العودة لفترة مشابهة ماضية من التاريخ السياسي في العالم، في وقت سابق ومكان مختلف، شغلت أكثر من نصف القرن الماضي، وهي فترة انقسام العالم تقريباً بين القوتين الأعظم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. في عالم الحلفين القويين ذلك كانت لا تتم الأمور، مهما كان شأنها أو أهميتها، إلاّ باتفاق هذين الحلفيين على أدق تفاصيلها. وكانت تلك الحلول quot;الاتفاقاتquot; تأخذ في الاعتبار مصالح الحلفين في أمكنة أخرى في العالم وقضايا تبدو بعيدة عن الأسباب المباشرة لمشكلة معينة. وعلى سبيل المثال فإن موافقة أحد الحلفين على قبول عضو جديد في الأمم المتحدة كانت مرتبطة ليس بأحقية تلك الدولة فحسب ولكن بموافقة الحلف الآخر على قبول عضوية دولة أخرى من أنصارها. لم يكن هناك أي دور، في السياسات العالمية والإقليمية لأية دولة أخرى، على غرار التوصل لاتفاقية سلام منفصلة بين فرنسا وبولندا مثلاً؟، أو حتى مجموعة دول، وتجربة دول عدم الانحياز خير دليل على ذلك. كانت الأمم المتحدة نفسها وقراراتها رهينة باتفاق أو اختلاف الحلفين، كما كانت الأوضاع داخل كل من الحلفين رهينة أيضاً لسياسات أقوى أعضائها، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي.
في الشرق الأوسط اليوم، وعلى المستوى المماثل، ولكن في إطار إقليمي هذه المرة، هناك حلفين قويين لا يستطيع أحدهما فرض رؤيته على الآخر فيما يتعلق بحل المشاكل التي يواجهها هذا الإقليم، ولكن كلاهما يملك الإمكانيات والنفوذ والقوة لتعطيل أي حل لا يحقق مصالح الدول الأعضاء في ذلك الحلف، والتي لا تتعلق كلها بالقضية الفلسطينية، بالرغم من استمرار التركيز على أن قضية فلسطين هي الأساس، وبإسمها تطلق المبادرات وتشن الحروب وتتشكل التحالفات، ولكن الحقيقة تكمن في أن حل هذه القضية مرتبط بقضايا أخرى بعيدة عن أرض فلسطين بمساحتها الصغيرة والضيقة.
في بدايات القرن الواحد والعشرين برزت جمهورية إيران الإسلامية، التي تقود اليوم أحد الحلفين بالمنطقة، كقوة إقليمية كبرى خاصة بعد انهيار النظام السياسي العراقي السابق، وتورط الولايات المتحدة، وحلفاتها، في حروب العراق وأفغانستان. اكتسبت إيران أيضاً زخماً جماهيرياً تعدى حدودها واكتسبت معه تحالفاً قوياً مع كل من سوريا وحزب الله ... وحماس، ودعماً خجولاً من روسيا والصين. ويرى هذا الحلف أن العملية السلمية والمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي مضيعة للوقت ولن تؤدي إلى أي تقدم حقيقي نحو إعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني نتيجة لموقف إسرائيل المدعوم من الولايات المتحدة والرافض أصلاً لمبدأ السلام العادل. يتبنى هذا الحلف شعار المقاومة طريقاً وحيداً وعاملاً فاعلاً للتوصل إلى تحقيق الأهداف الفلسطينية والعربية المنشودة. ولكن إيران وحلفائها، نتيجة لذلك الموقف، قد وضعت نفسها في مسار تصادمي مع الولايات المتحدة، وحليفاتها أيضاً، لأسباب تتعدى برنامجها النووي وتتعلق، من وجهة النظر الأمريكية والأوروبية، باستقرار المنطقة والسيطرة على حوض النفط في الدول المحيطة بها. تعيش إيران اليوم في مواجهة التهديد بعمل عسكري ضدها أو على الأقل بالعقوبات الإقتصادية الدولية التي لم تطبق على أي دولة في العالم إلاّ وتسببت في انهيارها، وجنوب أفريقيا ويوغسلافيا ودول أخرى أمثلة لا تقبل الدحض.
من ناحية أخرى فإن دول أخرى في المنطقة، عربية وغير عربية، تتحسس من امتداد النفوذ الإيراني الذي يتسلل إلى أراضيها من خلال أحزاب وجماعات تهدد استقرارها وكيانها ومصالحها وأحياناً وجودها ذاته. وترى تلك الدول، التي منها دولاً إقليمية كبرى كمصر والسعودية، أن الأهداف الإيرانية تتجاوز التأييد والدعم للقضية الفلسطينية إلى محاولة استغلال ذلك لتقوية مركزها، ومركز حلفائها، في مواجهة الولايات المتحدة على حساب دول المنطقة. كما ان هذه الدول تقود تحالفاً لا زال متمسكاً بمبادرات السلام، وخاصة تلك العربية، كخيار لا زال صالحاً لاسترجاع الحقوق الفلسطينية والعربية وتحقيق السلام في المنطقة بالنسحاب الإسرائيلي من كافة الأراضي العربية وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. ومن الطبيعي أن يلقى هذا التوجه، رغم عدم مطابقته التامة مع السياسات الأمريكية في هذا الشأن، والذي يتناغم مع القلق العربي من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة دعماً أمريكياً وأروبياً متزايداً.
هذه الحقائق الجديدة في المنطقة قد ألغت كل ما كان يصلح قبلها، فلا مجال اليوم للحديث عن اتفاقات ثنائية على غرار ما تم في الربع الأخير من القرن الماضي بين كل من إسرائيل من جهة ومصر وفلسطين والأردن من جهة أخرى. ويبدو من الصعوبة بمكان أن يكتب النجاح مرة أخرى لتحقيق اتفاق ثنائي بين إسرائيل وسوريا أو بين إسرائيل والفلسطينيين ما لم يتم الاتفاق حوله بين الحلفين الإقليميين السابق ذكرهما. ولن يتمكن كل من الرئيس محمود عباس والسيد خالد مشعل، الطرفين الأضعف في كلا الحلفين، حتى لو أرادا، من التوصل لاتفاق مع إسرائيل أو إتفاق ينهي النزاع والانقسام بينهما دون موافقة أطراف حلفيهما الذين لديهم قضايا ومشاكل مع الحلف الآخر، قد تكون بالنسبة لهم في مستوى أهمية قضية الفلسطينيين.
وتكمن استحالة التوصل إلى اتفاق بين الحلفين الإقليميين حول عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين في أن ذلك يجب أن يترافق مع حل مشاكلهما المعلّقة مع أطراف أخرى، وبالذات مع الولايات المتحدة. فلا يبدو أن التوصل لاتفاق سلام في فلسطين في ظل الوضع الحالي ممكناً قبل أن يتم التوصل إلى حل معضلة البرنامج النووي الإٌيراني، والمحكمة الدولية في سوريا، ووضع حزب الله في لبنان ومستقبل حركة حماس في فلسطين. إن العامل الأهم في هذه المعادلة هو قدرة الحلف الذي تتزعمه إيران على تحقيق ذلك.
لقد بيّنت تجربة السنوات العشر الأخيرة أن الوضع في الشرق الأوسط فيما يتعلق بعملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبين إسرائيل وما تيقّى خارج اتفاقات السلام من العرب، لن يجدي فيه الاستمرار في استعمال الوسائل القديمة، مهما تعددت أو تنوعت، ذلك لأن الواقع على الأرض والتطور الذي حصل في موازين القوى في المنطقة، وتعاظم قوة وإمكانيات وتأييد الحلف المعارض لعملية السلام المتمثل في إيران وسوريا والدول والأطراف المؤيدة لهما، لن يسمح بذلك مرة أخرى. ولكن من ناحية أخرى فإن هذا الوضع الراهن الذي أفرزته هذه الحقائق الجديدة، والعاجز عن إحراز أي تقدم في عملية السلام، يحقق عمليّاً مصالح وأهداف طرف واحد في كل هذه المعادلة المتشابكة، وهو إسرائيل.
تلتهم لإسرائيل كل يوم جزءاً من الأرض الفلسطينية، وتستمر مخططاتها لتهويد القدس وعزلها عن محيطها العربي، وأصبح الجدار الفاصل واقعاً يندر الحديث عنه، وتتوالى عمليات هدم منازل الفلسطينيين، ولا زالوا عرضة للقتل والحصار والتجويع، وازدادت المصاعب أمام تحقيق الحلم الفلسطيني بقيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة، وترسّخ الإنفصال بين شطري الأرض الفلسطينية، والجفاء بين جزئي الشعب الفلسطيني. تقوم إسرائيل اليوم باستعدادات ومناورات دائمة لجولة أخرى مع حزب الله في جنوب لبنان، وتمارين لضرب المفاعلات الذرية في لإيران. كما أنها قد نجحت في التملّص من الاتهام بارتكاب جرائم حرب في الاجتياح الأخير لقطاع غزة، وتتعرض اليوم حركة حماس، لا إسرائيل، من قبل بعض المنظمات الدولية لمثل تلك الاتهامات.
كيف إذن يمكن تصوّر الوسيلة للخروج من هذا المأزق الذي يدفع الشعب الفلسطيني وحده ثمناً باهظاً له؟ كيف يمكن أن يتحقق السلام العادل في منطقة الشرق الأوسط وتحل مرحلة التعاون والتطوير والطمأنينة بدلاً من التهديد والفوضى ومحاولات السيطرة؟ هناك أحد طريقين، إمّا الحرب وويلاتها المدمّرة ونتائجها الوخيمة على شعوب المنطقة وهذا الطريق يبدو مستحيلاً في ظل عدم إمكانية الفوز لأي من الحلفين على الآخر بالضربة القاضية.
وهناك الطريق الآخرالذي يحتاج لشجاعة القرار وحكمة المسئولية. لقد آن الاوان لمقاربة جديدة لتجربة حل مشكلات الشرق الأوسط برمتها، بما فيها القضية الفلسطينية، حل يقوم على التفاوض الإقليمي وليس الثنائي، حل تشارك فيه كافة الدول ذات العلاقة بتلك المشكلات المتشابكة، من قضية فلسطين إلى المشاكل الأخرى التي يتبناها ويعاني منها أطراف الحلفين الإقليميين.
ولا تعني المقاربة الجديدة اقتصار المفاوضات على دول إقليم الشرق الأوسط، وحدها، بمعنى أن تنتظم تلك الدول في مفاوضات بينها حول القضايا والمشاكل التي تواجهها المنطقة، بل المقصود هي مفاوضات حول تلك القضايا والمشاكل بإشراف ومشاركة الدول الكبرى خاصة تلك التي هي أطراف مؤثرة في تلك النزاعات كالولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الاتحاد الأوروبي. وبنظرة واقعية وعملية فإن الأطراف الأساسية في مختلف الخلافات والنزاعات الأساسية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وبين دولها المختلفة تتمثل على سبيل الحصر في الولايات المتحدة وإسرائيل وفلسطين وإيران وسوريا. إنه من الضروري أيضاً، وحتى تستكمل عناصر التوازن والتأييد والثقة لهذه المفاوضات، مشاركة الدول الأساسية في العالم والمنطقة والتي تملك التأثير والنفوذ في دعم هذه المفاوضات مثل الاتحاد الروسي والصين، وكل من مصر والسعودية، وتركيا باعتبارها قوة إقليمية غير عربية على علاقة جيدة وتجربة سابقة في هذا المجال.

إن فكرة التفاوض الإقليمي معقّدة وصعبة ولكنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن اتباعها للخروج من مأزق استمرار الوضع الراهن الذي أرهق دول وشعوب المنطقة. وقد تكون العقبة الكبرى في طريق مثل هذه المحاولة هي إسرائيل التي ترفض منذ إنشائها مبدأ التفاوض الجماعي أو الإقليمي أو الدولي بديلاً عن التفاوض الثنائي، ولقد تمكنت من تحقيق ذلك في كافة مراحل التفاوض مع العرب منذ اتفاقيات رودوس مروراً باتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، ولا زالت متمسكة بها مع السوريين والفلسطينيين وربما اللبنانيين في وقت لاحق. في نهاية الأمر، ويبقى اللاعب الأساسي في هذا السعي هو الولايات المتحدة الأمريكية وإدارة الرئيس أوباما الجديدة وتوجهاتها المعلنة على لسان رئيسها برغبته في الحوار مع الجميع. والحوار المجدي هو الحوار مع وجهات النظر الأخرى التي يتصف بعضها بالموضوعية والشرعية.