في برنامج من العراق الذي بثته قناة العربية مساء الجمعة 17 تموز الجاري قال أسامة النجيفي بالنص (إن الأكراد قوم يسكنون الجبال لا تاريخ لهم ولا حضارة) في رده عن وجود الكورد في محافظة الموصل واقضيتها المعروفة بالأغلبية الكوردية في سنجار والشيخان وغيرهما من البلدات والنواحي، في سابقة عنصرية منذ سقوط النظام السابق ووصول قائمة الحدباء إلى إدارة ثاني اكبر مدن العراق في انتخابات مجالس المحافظات في مدينة الموصل التي أقصت المكون الكوردي (وهو ثلث التكوين والتركيب السكاني للمحافظة) تماما عن الحكم ومارست نفس الأسلوب البعثي في تصنيع معارضة هزيلة للاكراد أو العرب وذلك من خلال اعتمادها نفس الشخصيات التي كانت تعمل مع النظام السابق، في ممارسة اقرب ما تكون إلى نظام الفصل العنصري الذي استخدم في روديسيا وجنوب افريقيا سابقا، وبالتعاون مع مفاصل مهمة في الحكومة الاتحادية لغرض ميكافيلي هدفه إعادة الحياة لأجزاء من النظام السابق وأدواته وأسلوبه في الحكم لإيقاف عملية التحول الديمقراطي ومناهضة العراق الجديد من خلال الضغط على إقليم كوردستان للتخلي عن برامجه في تطوير الإقليم ورفع الغبن عن الأهالي في المناطق المتنازع عليها بسبب عمليات التطهير العرقي والجينوسايد التي استخدمها النظام العنصري السابق وراح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين الكورد والتركمان والكلدان وحتى العرب (كما حصل لعشيرة زوبع حينما تم ترحيلهم قسرا من أطراف ربيعة إلى الحضر ثم إلى أطراف سنجار)، وعمليات التعريب والتغيير الديموغرافي لمدن كركوك وسنجار والشيخان ومخمور ومندلي وزمار وتلعفر وبلدات سهل نينوى إضافة إلى خانقين ونواحيها، والتي ما زالت تعاني من نفس المآسي بعد أكثر من ست سنوات من سقوط النظام.
ويأتي تصريح النجيفي على خلفية مواقف مسبقة مع الكورد عموما والقضية الكوردية خاصة؛ منها تاريخية تعود إلى الربع الأول من القرن الماضي حينما كانت مسألة الموصل في أوج تعقيداتها حيث اتفقت الأطراف الرئيسية على إجراء استفتاء حول عائدية الولاية التي كانت تضم معظم مدن كوردستان الجنوبية (كركوك والسليمانية واربيل إضافة إلى دهوك الحالية) نظرا للعلاقات الخاصة بين الأتراك والكثير من العوائل والبيوتات في الموصل آنذاك وربما في العديد منها يرجع إلى الأصل العرقي بين الترك وتلك العوائل حيث استوطن واستعرب العديد من موظفي الخدمة العثمانية وجندرمتها في المدن العراقية مثل كركوك والموصل وديالى وتمتعت بعلاقات خاصة جدا مع الطرف التركي ومن هذه العوائل والبيوتات، بيت ألنجفي سابقا والنجيفي حاليا الذي كافح أجدادهم من اجل إتباع الموصل لتركيا ومعاداتهم لكل من صوت إلى جانب منح الموصل هويتها العراقية وفي مقدمتهم الكورد آنذاك حيث يعترف شاهد عيان عربي في وقتها من عائلة العمري الشهيرة في الموصل قائلا (إن الأكراد النجباء حسموا عراقية الموصل بينما كان الكثير من العرب يقبلون أيادي الباشا التركي لتكون الموصل ولاية تركية).
أما المعاصرة فتعود إلى ممتلكات عقارية وأراضي في مناطق كوردستانية تعرضت أيام النظام السابق إلى مصادرة من مالكيها الأصليين وترحيلهم في عمليات التعريب سيئة الصيت، حيث كان عضو مجلس النواب الحالي اسامة النجفي وأخيه محافظ الموصل الجديد يتمتعان بعلاقات خاصة جدا مع النظام وبالذات مع وطبان وسبعاوي ابراهيم الحسن أشقاء رئيس النظام السابق ويعتقد بأنهما استحوذا على مساحات من تلك الأراضي وهي الآن خارج تصرفهما، إضافة إلى محاولات احدهما حينما تولى وزارة الصناعة الاتحادية في شراء بعض من المعامل الحكومية المهمة مثل معمل سمنت سنجار ومعمل أدوية نينوى التي وقف الكورد ضدها وضد أي تصفية للمال العام لحساب أشخاص بذاتهم أو شركات وهمية وممولة من جهات أجنبية إقليمية لها علاقة بتاريخ ذلك الشخص أو أجداده.
إن ما يجري اليوم في الموصل ليس صراعا بين كتلتين سياسيتين الغرض منه تحقيق مكاسب معينة في مجلس المحافظة أو الإدارة بقدر ما هو عودة النظام العنصري والبدء ثانية بعمليات الفصل والتطهير العرقي (الجينوسايد) ومنع وجود غير العرب في الموصل ومنع تملكهم أو توليهم أي إدارة أو منصب، وقد بدأت فعلا عمليات إبعاد الضباط الكورد من الوحدات العاملة في الموصل وأطرافها ونقلهم إلى وحدات خارج المحافظة ومضايقتهم إلى الحد الذي يضطرهم للاستقالة أو ترك الخدمة في الجيش أو الشرطة إضافة إلى عمليات إبعاد وإعفاء أي موظف كوردي له علاقة بقائمة نينوى المتآخية كما حصل في إعفاء المدير العام لتربية نينوى بذرائع واهية وسلوك يذكرنا بقرارات مجلس قيادة الثورة المنحل في نقل وإبعاد الموظفين الكورد من دوائر الموصل كافة وتصفية كل المتضامنين معهم وما حصل لبعض الذين ظهروا على شاشات الفضائيات الكوردستانية وتم تصفيتهم مباشرة كما في حادثة اغتيال السيد ظافر جميل مسؤول فرع الحزب الديمقراطي الوطني بالموصل (ومن اقرباء النجفي ومناوئيه أيضا) والذي انتقد قائمة الحدباء واتهم رئيسها بعلاقاته من النظام السابق سابقا ولاحقا في لقاء تلفزيوني خلال فترة الدعاية الانتخابية لمجالس المحافظات حيث تم اغتياله أمام بيته بعد إعلان فوز قائمة الحدباء التي كان ينافسها.
لقد بدأت الإدارة الجديدة في الموصل بإعادة تصنيع ما يسمى بالجحوش من أزلام النظام السابق ومرتزقته من المتهمين والمشاركين بجرائم الإبادة الجماعية في كوردستان العراق ولملمة تنظيمات حزب البعث تحت مسميات ووظائف وهمية أو رسمية في مكاتب المحافظ ومجلس المحافظة من ضباط الاستخبارات العسكرية السابقة والحرس الجمهوري المنحل بصفة مستشارين.
ويبدو واضح جدا التعاون الكبير شبه العلني بين الإدارة الجديدة وبقايا النظام السابق ومنظمة ما يسمى بدولة العراق الإسلامية في انخفاض مستوى جرائم القتل بالاغتيال أو العبوات الناسفة أو المفخخات في مركز المدينة منذ تولي إدارة النجفي وتوجيه العمليات باتجاه حافات إقليم كوردستان كما حصل في قرية السادة في تلعفر وقرية شريخان شمال الموصل وقرية خزنة قرب ناحية برطلة حيث جاءت التفجيرات انتقاما لمواقف سكان هذه المناطق من الإدارة الجديدة حيث رفضت عشائر السادة في تلعفر الإدارة الجديدة وأعلنت موالاتها لإقليم كوردستان ومطالبتها بالانضمام الفوري للإقليم في مظاهرة كبيرة قبيل تفجير قريتهم بعدة أيام، وكذا الحال مع أهالي شريخان وخزنة التي رفضت عبور موكب النجفي وطردته شر طردا.
إن تصريحات محافظ الموصل وبعض من فرقته حول الأعمال الإجرامية الأخيرة التي استهدفت أهالي القرى والمناطق الموالية لقائمة نينوى المتآخية تأتي لذر الرماد في العيون وإبعاد شبهات لا تغسلها كل مياه سد الموصل في علاقة الإدارة الجديدة بثلاثي الإرهاب؛ بقايا حزب البعث وأجهزته سيئة الصيت المنحلة (فدائيو صدام والاستخبارات العسكرية والمخابرات) ومنظمة ما يسمى بدولة العراق الإسلامية والمخابرات الإقليمية المعروفة بعلاقتها بملف الموصل تاريخيا وجغرافيا.
إن ما يحدث اليوم في الموصل هو عودة واضحة لذلك النظام البائس في عربات الديمقراطية التي لم تنجح لحد اليوم في تشريع قانون صريح يحرم دخول أي تنظيم مهما كان وتحت أي تسمية انتخابات على أي مستوى من مستويات المسؤولية وهو يحمل أو يمثل أو يأتي امتدادا أو منسوخا أو مستنسخا لأفكار حزب البعث وما يماثله فكرا وسلوكا وأشخاصا متورطين عبر تاريخهم بجرائم ذلك النظام وممن عملوا في أجهزته الخاصة تحت أي درجة أو رتبة أو منصب.
إن ما يجري الآن في الموصل وأطرافها من نمو لسرطانات النظام السابق وقوى الجريمة المنظمة ومافيا الإرهاب الدولي التي تكثفها الإدارة الجديدة في الموصل سيعم شرها وحريقها كل العراق إذا ما أهملت أو تم التعاون معها بانتهازية وميكافيلية على خلفية تنافس أو خلاف سياسي بين الأطراف الوطنية العراقية لا تخدم إلا نمو هذه الظاهرة الخطيرة التي تمثل امتدادا مخابراتيا لدول إقليمية معروفة بمواقفها تاريخيا من قضية الموصل وكركوك، وسياسيا من العراق الجديد الذي يهدد أنظمتها الشمولية التي فتحت كل حدودها لقوى الإرهاب العالمي وسهلت دخولهم إلى العراق، بل إن الذين اخترقوا مؤسسات العراق الجديد من البعثيين يشكلون نسبة مهمة كما جاء في مقال نشرته جريدة الشرق الأوسط في العاشر من هذا الشهر (10 آب 2009م) للجنرال المنشق عن البعثيين في تسعينات القرن الماضي وفيق السامرائي حيث يقول:
(إن أكثر من 95 في المائة من قادة الجيش الحالي، عدا الكرد، كانوا بعثيين، ونسبة منهم كانوا أعضاء قيادات فرق وشعب في حزب البعث، وهي درجات مهمة.
ونسبة واضحة من أعضاء البرلمان والوزراء كانوا من البعثيين، ودخل البعثيون بمختلف مواقعهم من أبواب مختلفة الأهداف والمبادئ والنيات. فمنهم من دخل عن طريق الكتلة العربية السنية، على قلتهم في الجيش، ومنهم من دخل عن الائتلاف الشيعي، وقسم عن طريق البوابة العلمانية المتمثلة بالقائمة العراقية وغيرها. ومن هنا تظهر تناقضات بين ما يعلن عن مقاطعة البعثيين وما جرى تطبيقه عمليا بحكم المعطيات.)
وإزاء هذه الظاهرة يتوجب اتخاذ موقفا وطنيا على مستوى الدولة والفعاليات السياسية الكبيرة منها والصغيرة في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، يتسم بالدقة والسرعة المحسوبة في تشريع قانون صريح يماثل قوانين تحريم النازية في المانيا وملاحقة رموزها ومفكريها والداعين لها في الداخل والخارج لأن ذلك القانون الوحيد الذي سيحمي العراق برمته من عودة نظام الأنفال وحلبجة والمقابر الجماعية إلى الحكم، خصوصا إذا ما أدركنا ميكافيلية النظام السابق والقوى الشوفينية والمتطرفة الدينية منها والقومية.