لفترة قصيرة جدا من عمري الادبي، أحببت الشعر و حلمت أکون شاعرا، وابليت بلاءا حسنا في تمضية الليالي سهرا لکي أحظى بإلهام قصيدة عصماء!
يومها کنت طالبا في الصف الثالث المتوسط بناحية السعدية(قزلرباط) التابعة لمحافظة ديالى، ولحسن حظي فقد حباني القدر بأستاذ قدير في اللغة العربية وهو(محمد حسين آل ياسين)الذي نال فيما بعد شهادة الدکتوراه في النحو وهو اسم معروف ولامع في العراق، وکنت من الطلاب الجيدين في اللغة العربية ولطالما کان يشجعني ويحفزني، وفي يوم من الايام ذهبت إليه أثناء الفرصة(فترة الاستراحة بين الدروس)، وطلبت منه أن يبدي رأيه في قصيدة شعرية کتبتها، ووعدني بأن يعطيني رأيه الصريح فيما بعد، ويومها فرحت کثيرا وتصورت بأنني قد صرت على طريق الجواهري و نيرودا و لورکا!!! ومن لم يحلم حلما أکبر من حجمه ملايين المرات فسوف يظل مجرد قزم في ذاکرة الزمان، أي نعم، هکذا هو تفکير تلك الرحلة وکما يقول المثل (الشباب مطيه الجهل)، فإن هوى الشباب و الميول تدفع الانسان أغلب الاحيان صوب دروب الجهل و الضلالة. وفي اليوم التالي، جائني الاستاذ محمد حسين آل ياسين، وعلى وجهه إبتسامة لطيفة وقال لي برفق(هناك عالمان مخلتفان، واحد لکتابة النثر و الآخر للشعر، انت من الصنف الاول)، ومن يومها غادرت عالم الشعر ولم أصبح ولو مجرد شويعر، لکن الذي حملته من متاع و زاد و ذکرى الشعر کان ولعي بالعيون السود، إذ کتبت اول ما قد سميته وقتها قصيدة شعر في العيون السود من دون أن أکون قد أحببت او تعلقت بفتاة ذات عيون سوداء وانما کان من وحي خيال محض لاغير.
ورافقتني العيون السود في عالمي الخاص و کتبت مقالات کثيرة عن العيون السود و حسنها و جمالها و سحرها و عميق تأثيرها في شغاف القلوب و أعماق الروح، لکن کتبت کل ذلك بوحي من الخيال أو لأنني رأيت ثمة ممثلة أو صورة ما تحمل في وجهها عيونا سوداء ولطالما بحثت عن عينين سوداوين يغيباني عن الوعي و الوجود، وأذکر أنني ذهبت الى مدينة الحلة التي کانت تشتهر بالعيون الجميلة کما وصف لي العديد من الاصدقاء، وقبلها ذهبت الى أعماق الجنوب والى قلب الاهوار، لکنني لم أحظ بمرادي وکنت أرجع کل مرة بخفي حنين وفي القلب إنکسار و حسرة.
وسنحت لي فرص بالذهاب الى إيران و سوريا و لبنان، لکنني للأسف لم أحظ بمنى روحي و بهجة قلبي و خاطري لکنني ورغم ذلك لم استسلم و بقيت محاربا عنيدا في دنيا العيون، علما بأنني قد رأيت خلال مسار عمري و أسفاري تلك، شتى العيون الجميلة الساحرة التي کانت تبهر ناظريها، لکنني مع إستحساني لك العيون، ظل هنالك شئ في أعماقي يؤکد لي بأن هناك عيون سود أحلى لم يتسنى لي أن أشاهدها لحد الآن!
وعندما شاءت الاقدار أن أغادر العراق سافر معي ذلك الحلم بکل عبثه و جنونه و ماأدريته، وطوال تجوالي هنا في المانيا و زيارتي للعديد من الدول الاوربية، حيث العيون الخضراء و الزرقاء و الشهلاء، لم أجد بغيتي و لامناي في أي منها رغم أن جمال العديد منها کان أخاذا و جذابا، لکن مشکلتي انني کنت أبحث عن نسمة عذبة ما في هواء الکون کله، أو أبتغي موجة ما في خضم أمواج بحار و محيطات الدنيا المتلاطمة کلها وهي لعمري مهمة صعبة جدا على انني لم أحبذ أن أضعها في خانة المستحيل أبدا.
ذات يوم، وفي لحظة من زمن غريب و إستثنائي، وانا تائه في بلد... وإذا بي أبصر ضالتي!
عيون المها بين الرصافة و الجسر جلبن الهوى من حيث ادري و لاادري
لمجرد أن أبصرتها، وجدت روحي تکتشف دنيا خاصة و تشهد حلما مخمليا طالما رافق کل سنوات عمري وکأنه حقيقة تتمثل على أرض الواقع. عيون سود، تمل الکحل و ترفض کل أبجديات التجميل، عيون تبصر في سوادها تمرد على دنيا الليل و دجى الکون کله، وصدمت، کأني أحلم أو في حالة من غيبوبة لذيذة، لکنه کان فعلا امرا واقعا وان مرت کسحابة صيف عابرة ولم تسمح لي أن أبحر في بحور دجاها وانا في عز النهار المزيد ومضت تمشي الهوينا وهي ترمقني بنظرة لم أفهم فيها شيئا سوى إنها ضالة عمري التي طويت أربعة عقود من عمري وانا أبحث عنها.
وتسمرت في مکاني وانا أترنح کثمل يعي کل شئ لکنه لايملك أدنى سيطرة على دنيا جسده المغروز في صدأ هذا الزمان کسکين لم يعد يجيد شيئا غير أن يذبح ذاته بذاته.
المشکلة، أن سواد تلك العيون التي أبصرها هناك، أنهت مشوار سفره مع الليل، ودعته لکي يلقي بمتاعه و زاده جانبا و يمزق کل أشرعته و يکسر کل مجاذيفه و يحرق کل مراکبه من دون أن يرسي ابدا على بر!
للعيون لغة، للعيون عالم و فضاء خاص، للعيون بعد روحي يحضر ارواحا في بلاط حسنه، کل هذا أدرکته وانا أرى تلك العيون السود وهي ترمقني بنظرة وکأنها إلتفاتة من قدر بات يرأف بحالي و أغدق علي أخيرا (ولکن بمقدار)ذلك الحسن الذي أنتظرته دهرا!