بعد أشهر قليلة يدخل العراق في مرحلة جديدة من التجربة الديمقراطية التي يمكن أعتبارها متخلفة مقارنة مع ما يتطلع اليه الشعب. تتمثل هذه المرحلة في إختبار آخر لإرادة العراقيين في مدى إشتغالهم على المفاهيم والمباديء التي تقوم عليها الديمقراطية ومستوى تفاعلهم مع التحديات والشروط التي يمليه عليهم أي نظام دولتي يعتبر نفسه نظاما ديمقراطيا أفرزته إرادة أبناء الشعب بكافة مكوناته.
هذه المرحلة التي نعنيها هنا هي الدخول في عملية إنتخابية جديدة لتجديد التمثيل السياسي والأتيان بجيل آخر من العراقيين الى المؤسسة التشريعية في البلد وبالتالي تشكيل حكومة أخرى على ضوء الإستحقاقات الإنتخابية وحجم ونفوذ القوى المنتَخَبة.
فهذه المناسبة الوطنية والديمقراطية في آن واحد، هي متضمنة، كما هو معلوم، لعدة مفاهيم أساسية نجد مضامينها في النظرية الديمقراطية عن الناخب والممثل والتمثيل السياسي فضلاً عن حرية الإختيار والدعاية الإنتخابية والمنافسة السياسية والبرامج المقترحة لخدمة الشعب والبلد وما الى ذلك.. وكل من يتأمل في حقيقة هذه المحطة من الحياة الديمقراطية سرعان ما يفهم أنها فعلاً وسيلة أساسية لتعميق ثقافة الديمقراطية وإختبار صحة تعاطي القوى السياسية والمجتمعية معها ومستوى إنتشارها في ربوع البلاد فضلاً عن أقبال الناس عليها وأخذها كأسلوب ونمط جديد للحياة.
والأمر مع العراقيين لا يتعدى سوى هذه التحدي رغم أنه ليس تحديا بسيطا، عنيت روح التفاعل مع ماهو جديد بالنسبة لتاريخ العراق المعاصر وما هو غريب عن ثقافة العراقيين سياسيا ومجتمعياً نتيجة لغرق المجتمع لعقودا طويلة في ظلمات النظام الشمولي الذي لم يشهد يوما ما أي مظاهر حقيقة للتعددية السياسية ولا لحرية الأختيار فما بالك بالمباديء الأخرى للديمقراطية التي بحاجة الى تغيير شامل وجذري في النظر الى الأنسان والمجتمع والعالم.
نعم أن الإنتخابات القادمة في العراق تشكل تحديا آخر أمام قدرة العراقيين لتجاوز عقلية الصراع القائم على الإستبعاد والإقصاء الى المنافسة الديمقراطية الشريفة، كما أنها تمثل شرطاً آخر من شروط التحول من الديكاتورية الفكرية الى الديمقراطية الإنفتاحية، عنيت هنا تخطي شوطا آخر من الأشواط الشاقة نحو تعزيز التجربة العراقية الجديدة والعملية السياسية في البلاد، فضلا عن أنها ستكون دون شك نقلة نوعية بإتجاه الخروج من المرحلة الإنتقالية الى مرحلة تسودها النضوج السياسي والشعور الأعمق بالمسؤوليات الوطنية من جهة والديمقراطية من جهة أخرى، يبقى الأمر دوما مرهون على كيفية أداء ومواقف التيارات السياسية مع هذا الحدث وما ينبغي أن يلتزموا به ويحترموه من أجل البلاد والعباد ومن أجل رفع شأن العراق أمام أنظار العالم، فإذا تعاملوا مع هذه الإمتحان بروح التحدي وخرجوا منها منتصرين كما فعلوها في كردستان العراق، سنكون دون أدنى شك أمام عرس ديمقراطي، أما إذا تمثل الأمر في صراعات حزبية وطائفية وقوموية متهورة ومتعصبة فحينئذٍ نخسر الرهان ونعود الى المربع الأول وهو ما لا نتمناه للعراق أبداً.