لو لم يقم المعلم أبو حبيب، الملقب برب الحلاقة، بجهود جبارة في مراجعة حساباته التي وصلت، على حد قوله، إلى quot;جلد الذاتquot;، وكانت نتيجتها تزكيته لنفسه مجدداً حلاقاً quot;واحداً أوحدquot;، لما كان من المستحب تخصيص هذه المساحة للحديث عنه. من هو أبو حبيب؟ هو حلاق quot;حي المعترينquot;، الحلاق العتيق الذي حلق رؤوس ثلاثة أجيال من العمال المتعبين، الذين يكتظ بهم الحي إلى جانب عاطلين عن العمل والحياة، وكان يحشو رؤوسهم بأفكاره النيرة، فمع كل ضربة مقص من يده المحنكة كان لسانه الذي لا يهدأ يتكفل بقص زوائد أفكار quot;البروليتاريquot; المستسلم على الكرسي. وكان محله الصغير يمتلئ بالمستمعين المنتظرين دورهم وغير المنتظرين، وربما كان كثيرون يستهويهم حديثه المشوّق عن مستقبل الطبقة العاملة على أنغام quot;يا رياح الشعبquot;، التي يصدح بها المسجل الكبير الجاثم أمام المرآة المزينة بصور شهداء وقديسين. واكب الختيار تطورات مهنته عن بعد، فهو وإن تنازل عن quot;البيضة الخشبquot;، عندما رضخ لحديث عن الأمراض والجراثيم التي قد تنقلها، إلا أنه لم يتنازل بعد عن استعمال المقصات الطويلة، الخيط المصيص، البودرة التالك، والموسى والمستحد، والماكينة اليدوية quot;الكرّاتةquot;.. بل وحتى الطاسة. في المقابل ربّى أجيالاً من الحلاقين منهم من quot;فتح على حسابهquot;، منهم من بات يعمل أجيراً في صالونات حلاقة quot;عصرية وعليها القيمةquot;، ومنهم من ترك المهنة إلى غير رجعة.

مشكلة غير مستعصية
انتهت الحرب الأهلية، وتغيرت الدنيا، وفجأة صار quot;الشغل ماشي والبلد ماشي!quot;، لكن أبا حبيب وجد نفسه في الجورة..، فلم تعد أفكاره نيرة، أو غير نيرة، انعقد لسانه إلا عن quot;كل واحد صار مشغول بحالهquot;.. حتى أنه لضيق ذات اليد طرد الشغيلة ndash; المتدربين، واكتفى بزبائن قليلين، تعاقد معهم على أن يدفعوا له آخر الشهر، أو quot;لما بيقبضواquot;. لكنه لم يقطع علاقته بالرأسماليين القلة الذين يعرفهم quot;من أيام الخيرquot;، فكان يحمل حقيبته الخشبية الكبيرة المحشوة بأدواته القديمة إلى بيوتهم قِبَلَ المشرق والمغرب، quot;والرزاق اللهquot;.
في كل مرة حاول شاب ما، quot;ينتحل صفة حلاقquot; أن يفتح صالون حلاقة في الحي كان الختيار يستجمع قواه ويستنجد بطابور العمال وبأوادم الحي ويقوم بطرد من ينغص عليه عيشه، ثم يتبع ذلك بخطبة عصماء يكون قد استنقذها من جارور السبعينات.. هكذا قضى التسعينات وما بعدها. ومع مرور الأيام لم يتجرأ كثيرون على تلك الفعلة الشنعاء، وبات وحده، ولا يأتيه الزبائن إلا فيما ندر، ولم يعد لديه همّة كي يحمل حقيبته الخشبية.. إلا في المناسبات الحرجة. بات شبه منسي، حتى أنه لم يجد من يحلق له لحيته ويهندم صلعته. المارة أمام محله المتهالك باتوا يتندرون عليه، ومنهم من ألف عدداً من النكات اللاذعة، وبقليل من التجرد، كان الختيار ليجدها مضحكة عندما سمعها، لكنه ولج سرداب الاكتئاب بكل جوارحه. لم يشف غليله أن كثيرين من العمال ما زالوا يذكرونه بالخير.. ويتداولون بين بعضاً من أفكاره، وبعضهم يأتيه إن دعاهم في عيد العمال. حار الرجل في أمره، طرق أبواب أترابه في أحياء أخرى مستعينا بحكمتهم.. لم يشيروا عليه بشيء يذكر.. رغم ذلك تجبر على نفسه وأقنعها بأنه لم يشعر بالمشكلة المستعصية. قال، quot;أنا رب الحلاقة، وسأثبت للجميع أنني أهل لهاquot;.

مسابقة حلاقة
حلّ حزيران، وانعقدت مسابقة الحلاقة الوطنية، استغرب كثيرون أن يجدوا أبا حبيب مشاركاً فيها، وزع ملصقاته على الطرقات والأزقة بعد أن وجد من يحلق له، ومن يصوره مبتسماً مستبشراً.. أخرج أدواته القديمة وحاول أن يعيد إليها بريقها، وتقاطر المتفرجون.. على الكرسي القديم تموضع quot;البروليتاريquot; القديم نفسه، أطلق منظم الحفل صفارة البداية، صفق راعي المسابقة، صفق الجمهور القليل العدد.. لحظة، اثنتان، كانتا كافيتان ليقطع أبو حبيب أذن الزبون، ويجرح رأسه جرحاً عميقاً.. لحظة ثالثة.. هرب المعتر. وقف الختيار حائراً من أمره، نظّم انسحاباً تكتيكياً، لعن قانون المسابقة والمنظمين والراعي.. وتضبضب.. ناله من الانتقاد والتقريع ما ناله.. حار في أمره من جديد quot;شو هل العلقة اللي فوتت حالي فيهاquot;. قرر أن يجتمع بنفسه، ثم قرر أن يتعبر الاجتماع مفتوحاً، وأن يكون رأسه في حالة انعقاد دائم.. فلفش جارور السبعينات شهرين متتاليين، ورقة ورقة.. طرح الثقة بنفسه أمام نفسه مرات، وضع نفسه بتصرف نفسه.. وخلص إلى نتيجة بديهية، كانت واضحة منذ البداية، حتى أنه سخر من نفسه كيف أنه لم يحزرها.. quot;أنا ربّ الحلاقة، ولا داعي أن أثبت لأحد ذلكquot;.. لكنه، ربما غفل عن نتيجة بديهية أخرى تقول quot;من هو الذي سيسلمك رأسه يا رب الحلاقة؟quot;.
عماد الدين رائف