ربما كانت هناك محاولات جادة لدى رجال الحكم بداية تأسيس الدولة في عشرينات القرن الماضي ووضع أسس بناء مدني معاصر للبلد، رغم أن الملك الأول اكتشف في العراق غير ما كان قد عرفه أو تلقنه قبل مجيئه، حيث اختلاف المكونات العرقية والقومية والدينية والمذهبية، حتى إنه قال ليس هناك شعب واحد بل أرى شعوبا واديانا وقبائل، وخلال ما يقرب من أربعين عاما استطاع أولئك الرجال تكريس نظام برلماني رغم الكثير من المحاولات التي كانت تعترضهم، حتى نجحت القوى المضادة للنظام الملكي من إحداث تغيير حاد وعنيف أدى إلى تغيير نهج الدولة وشكلها من الملكي الدستوري إلى الجمهوري الثوري.
وقد حاول بعض رجال النظام الجديد أيضا بعد 1958م وضع أسس مشتركة بين المكونات العرقية والقومية والدينية لإنشاء وطن يضم الجميع بنفس الطول والعرض أمام القانون والاستحقاقات الأخرى والتحول التدريجي إلى النظام الجمهوري الدستوري والبرلماني، إلا إن الأحداث التي أعقبت 14 تموز عام 1958م والضغوطات الإقليمية والدولية التي تعرضت لها ونظام القطبين وما أنتجه من حرب باردة حولت العالم إلى صفين متصارعين ومنحت قوى العصابات السياسية من التسلق في عتمة الليل والسطو على كرسي الحكم وبوق الإذاعة من خلال سلوك مافيوي وميكافيلي كما حصل للزعيم عبدالكريم قاسم حينما كانت مجاميع من تلك العصابات تهتف أمام مبنى وزارة الدفاع تمجيدا للزعيم بينما هي تخترق مركز السيطرة لتخطف رئيس الوزراء ومن ثم تقوم بتصفيته في مبنى الإذاعة.
لقد أنتجت عمليات السطو المسلح على السلطة في 1963م نظاما اعتمد مجموعة من العصابات المنظمة تحت يافطة سياسية وميليشيا مسلحة وشعارات اقرب ما تكون إلى الغرائزيات والغوغائيات التي تتلاعب بعواطف الناس وتستغل تركيبتهم القروية والعشائرية وأحيانا كثيرة الدينية والمذهبية التي تتخندق في رؤى عنصرية مقيتة واستخدام ميكافيلي لتحقيق ما تصبو إليه العصابة الأكبر في السيطرة على السلطة المال، وليتسنى لها التحكم بالعباد والبلاد وإشاعة الرعب والإرهاب.
وانتشرت بعد ذلك ظواهر الخطف والسلب والنهب بوسائل سياسية وغطاء من الشعارات كما حصل في ما عرف بــ ( فرهود كركوك ) حيث استباحت تلك الطفيليات المتوحشة كل أموال وممتلكات أهالي كركوك من الكورد والتركمان والكلدان، وما حصل في الموصل من عمليات اغتيال وتصفية لمئات الشخصيات من النساء والرجال لمجرد اتهامهم بالشيوعية أو موالاة الكورد، وليس ببعيد عن الذاكرة العراقية بيان رقم 13 الذي أباح قتل أي إنسان ممكن اتهامه من أي شخص كان بالشيوعية أو الديمقراطية لتنتشر في عرض البلاد وطولها عمليات القتل والتصفيات على خلفية اتهام من هذا النوع، وبعدها ما حصل على أيدي تلك العصابات السياسية من أعمال نهب وسلب لمدن الشمال العراقي (إقليم كوردستان العراق) اثر اجتياح قوات النظام السابق وتهديدها باستخدام الأسلحة الكيماوية وهجرة الملايين من السكان إلى الجبال ودول الجوار في مطلع التسعينات من القرن الماضي.
ويتذكر العراقيون والبعثيون منهم بالذات ذلك الاجتماع المرعب لقيادات حزب البعث من أعلى الهرم في القيادة القطرية ونزولا إلى قيادات الفرق القاعدية مرورا بالمكاتب المركزية والفروع والشُعب، بعد تولي صدام حسين الرئاسة في انقلاب أبوي مسالم وحنون على ( الأب القائد ) احمد حسن البكر في تموز 1979م والتمثيلية المرعبة التي نفذها ممثلين صغار بإخراج من عصابة الدولة التي نفذت أولى خلاياها عملية اغتيال الزعيم عبدالكريم قاسم في مطلع الستينات من القرن الماضي وأكملت العملية في صبيحة الثامن من شباط عام 1963م بعد نجاحها في الاستحواذ على مقاعد في عربات القطار الأمريكي آنذاك.
وما حصل للكورد الفيليين من تلك العصابات المنفلتة في عمليات التهجير والتقتيل وسرقة الاموال وعمليات السلب والنهب، حيث كشفت المحاكمات الأخيرة للمتهمين بتلك الجرائم نوعية العصابة التي كانت تحكم العراق منذ عام 1963م وحتى سقوطها باحتلاله وفرار الكثير من أعضائها إلى دول الجوار أو تشكيلهم عصابات اصغر للقتل والنهب والسلب منذ 2003م وحتى يومنا هذا تحت نفس الشعارات التي كانت ترفعها في العقود الأربعة الماضية.
وبنفس تلك العقلية والسلوك كانت هذه العصابة تتعامل مع بقية شرائح المجتمع وفعالياته السياسية ومكوناته القومية والدينية، وما تكشفه يوميا محكمة الجنايات العراقية الكبرى من جرائم يندى لها جبين الإنسانية في كوردستان العراق وجنوبه على أيدي تلك العصابات المتوحشة يؤكد ذلك النظام البائس الذي كان يحكم بلادنا طيلة أربعين عاما تحت شعارات وهمية ومؤسسات هيكلية تختبئ ورائها عصابات القتل والسلب والنهب.
لقد تحولت معظم التنظيمات الرأسية لحزب البعث وأجهزته الخاصة من أمن ومخابرات وفدائيو صدام إلى عصابات يقودها مسؤولي تلك الأجهزة وضباطها الكبار من الذين اختفوا بعد سقوط نظامهم وانهيار دولتهم وهرب رئيس عصابتهم الكبير وأسسوا منظمات وجبهات والوية للقتل والسلب والنهب لكل ممتلكات الدولة ودوائرها ومتاحفها وآثارها في واحدة من ابشع ما حصل في تاريخ الشعوب والحروب وتحت مرأى ومسمع قوات الاحتلال التي استقدموها لسرقة دولة بأكملها، ثم ما لبثت هذه العصابات أن اخترقت العملية السياسية تحت مسميات وعناوين وقوائم كثيرة لتلعب لعبتها التخريبية من داخل المؤسسة العراقية الجديدة سواء في مجلس النواب او في الحكومة والقوات المسلحة المنخورة بتلك العصابات وما تفعله من اختراق خطير للوضع الامني والمعلوماتي.
إن ما يجري اليوم من محاولات إقناع الرأي العام بأن هذه العصابات ممكن لها أن تشارك في العملية السياسية وان قسم منها سيطور نهج تفكيره باتجاه الديمقراطية وقبول الآخر ومشاركة البعض في مؤتمراتها كما حصل في مؤتمر استانبول الذي حضره نواب عن القائمة العراقية إضافة إلى ممثلي الإدارة الأمريكية كما أعلنت وسائل الإعلام يأتي متناغما مع الجيب العنصري الذي تم خياطته في الموصل من لملمة بقايا ذلك النظام وضباط أجهزته الخاصة من رجال الاستخبارت العسكرية والمخابرات وضباط الحرس الجمهوري الذين يعملون على تأسيس جمهورية عصابتهم في الموصل.
إن مجرد التفكير في إعادة تلك العصابات الظلامية يعتبر اهانة لملايين الشهداء الذين قضوا بسبب تسلط البعث على العراق منذ عام 1963م وما يحصل الآن من عمليات تقتيل وذبح للعراقيين جميعا على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وطبقاتهم يؤكد نهج تلك العصابات وإصرارها عليه سواء كانت على قمة هرم الحكم أو في دهاليز العمل الإجرامي ومراكز المخابرات الإقليمية وعواصمها، مما يستدعي موقفا وطنيا حازما يرتقي على الخلافات السياسية بين مكونات الشعب وأحزابه السياسية لإيقاف عمليات اختراق هذه العصابات وتطهير أجهزة الدولة عموما من تسللها وما تفعله من تخريب وتأخير لمسيرة الديمقراطية في العراق.