عاش العراق والعراقيون تحت ضل دولة العصابة التي حكمت العراق اثر انقلاب دموي في شباط 1963م وهيمنتها على مفاصل مهمة من القوات المسلحة العراقية وكثير من أجهزة الأمن الداخلي ودوائر المال العام حتى سيطرت على معظم الدولة لقرابة سنة من الرعب والإرهاب الذي اجتاح العراق بأجمعه ولم يسلم منه أي مكون من مكوناته العرقية أو الدينية أو السياسية، وأنتجت في ما بعد أجيالا من عصابات القتل والنهب والسلب والاغتصاب وإشاعة ثقافة الإبادة الجماعية لغرض زرع الإرهاب والرعب ومن ثم الاستكانة والتطويع كما حصل في عمليات الاغتيال والتصفية التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثة آلاف شخص خلال عدة أيام بعد انقلاب شباط 1963م في العاصمة بغداد كانت جثثهم ترمى وتهان كما تفعل العصابات والمجاميع الخاصة الآن.
إن ما حصل من كرنفالات القتل والإعدام خلال الأشهر الأولى من انقلاب تموز 1968م وما تبع ذلك من حروب قذرة شنتها تلك العصابة على الشعب العراقي في الشمال والجنوب ثم عمليات الإبادة الجماعية للأحزاب الوطنية والقوى الديمقراطية وأخيرا جرائمها ضد الإنسانية جمعاء في الأنفال وحلبجة والمقابر الجماعية في طول البلاد وعرضها يؤكد بلا أدنى ريب إن من كان يحكم العراق لم يتجاوز في حكمه سلوكيات العصابات الإجرامية في العالم وأخلاقياتها.
وبعيدا عن التفاصيل ومن يسكن فيها وبين تضاريسها منذ سقوط دولة العصابة وحتى يومنا هذا سنقارن بين ما حدث مؤخرا في ما سمي بالأربعاء الدامي ( 19 آب 2009م ) في بغداد وما أوردته تلك الوثيقة التي عثر عليها بعد سقوط النظام والصادرة من ديوان الرئاسة في كانون ثاني 2003م والتي تضمنت أوامر رئيس النظام إلى مسؤولي فروع حزب البعث وشعبه وإدارات أجهزة الأمن والمخابرات وفدائيو صدام بضرورة الانتماء إلى الأحزاب التي ستظهر بعد سقوط ( القيادة السياسية للحزب والثورة ) وخصوصا الأحزاب الدينية وتحويل الجوامع إلى مقرات لتجمع تلك التنظيمات ومسؤوليها، والعمل على اختراق كل المؤسسات التي سيتم تشكيلها وبالذات العسكرية والأمنية منها.
كما كانت الأوامر والتعليمات صريحة جدا ومباشرة حيث يطلب رئيس النظام تدمير كل محطات المياه والكهرباء وخطوط نقل الطاقة والبترول والقيام باغتيال رجال الدين والشخصيات الاجتماعية والوجهاء ورجال السياسة الجدد وإيقاف أو عرقلة أي تقدم أو تطور للنظام الجديد باستخدام كل الوسائل والأسلحة ومهما كانت الأمور أو الخسائر والضحايا على خلفية إن العراق لا يمكن أن يكون بيد غير البعثيين سوى حفنة من تراب.
واستعراض سريع لما حدث ويحدث قبل السقوط وبعده يكتشف المرء أن العصابة التي كانت تحكم العراق أصبحت الآن عصابات كعناقيد الفايروسات والجراثيم تستوطن الدولة الجديدة وتمارس من خلالها عمليات القتل والاغتصاب والتدمير والسلب والنهب وفرض الإتاوات على التجار وأصحاب الناقلات التي تنقل المنتوجات النفطية وتحمي خطوطها تحت مختلف التسميات والشعارات وهي كما عهدناها خلال أربعين عاما تتحالف مع الشياطين من اجل تمرير ما تريده أو تهدف إليه، فقد أدخلت كل عصابات الإرهاب والجريمة إلى العراق حتى قبل سقوط نظامها وأصبحت عناصر القاعدة تسيطر على كثير من المدن التي كانت تتمتع بأكثرية بعثية أو مذهبية كما في الموصل والرمادي وديالى وتكريت وأطراف كركوك وبغداد.
لا شك أن البعث ومن والاهم واعتاش على سحتهم يدركون انه ليس هناك شيء غالي أو عزيز عليهم كما لا وجود لمحرمات دولية أو وطنية أو دينية أو أخلاقية في منظومتهم الفكرية إلا غرائزهم وتشبثهم بالسلطة وعطشهم للقتل والاغتصاب والسلب كما كانوا يفعلون ببعضهم ( انقلاب صدام تموز 1979م ) أو مع من يتحالفون معه كما حصل مع الحركة التحررية الكردية والحزب الشيوعي العراقي منتصف السبعينات من القرن الماضي وفي غزوهم لدولة أمدتهم بالمال والسلاح طيلة حربهم المفتعلة مع إيران التي تحالفوا معها أيضا أبان حرب الخليج الثانية وأودعوا لديها خيرة أسلحتهم وطائراتهم.
ويعرف العراقيون جيدا أهداف أي تحالف يعقده البعث مع أي جهة كانت في الداخل أو الخارج وطريقة تعاملهم معها تحت سقف ميكافيلي يبرر أي وسيلة أو أي نوع من المتحالفين لغرض تحقيق الهدف الذي يصبون إليه وقد شهدنا عبر عقود تحالفاتهم الانتهازية مع الأمريكان والسوفييت ومع أقصى اليسار وأقصاه في اليمين.
وهكذا تراهم اليوم أيضا يتعاملون مع كل الأطراف والمتناقضات في الداخل والخارج من أجل إعاقة وإسقاط التجربة العراقية الجديدة بما يؤمن عودتهم إلى السلطة باستخدام كل الوسائل بما فيها تعاونهم مع حلفائهم القدماء والجدد من الأمريكان والبريطانيين وغيرهم من اللاعبين الإقليميين الجدد حتى لو استدعى ذلك إبادة كل الشعب وتدمير كل العراق.
لقد تحولت معظم تنظيمات البعث المهمة وقياداتهم وأجهزتهم الخاصة إلى عصابات انتشرت في كل مفاصل الدولة وبالذات مؤسسات الدفاع والداخلية والنفط واستطاعت أن تخترق مجلس النواب ومجالس المحافظات تحت مسميات سياسية مستنسخة ووهمية والانكى من ذلك كله أنها لاقت دعم لوجستي كبير من قبل جهات مهمة في الحكومة أو في الكيانات السياسية على خلفية التنافس أو الصراع واستخدام مقولة عدو عدوك صديقك التي ينتهجها بعض السياسيين لتبرير تعاملهم المتميع مع حزب النظام السابق والمحسوبين عليه ومحاولة إعادة تصنيعهم كما حصل في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي جاءت بعض حكوماتها المحلية واجهات لحزب البعث وسياسته الفاشية في العراق لما يقرب من أربعين عاما.
إن التسويف والتباطؤ في حل مشكلات صنعها النظام السابق وعدم الجدية في تطهير القوات المسلحة والجهاز الإداري والمالي ومداهنة بعض التكوينات وشيوخ العشائر ممن أدمنوا الارتزاق في تشكيلات شبه عسكرية على غرار ما كان يفعله النظام السابق في إقليم كوردستان وأطرافه فيما سمي بالفرسان أو الجحوش على خلفية مواقفها مع القاعدة أو الإرهاب عموما ومنحها امتيازات مالية وإدارية على شاكلة الإسناد والصحوة أتاح الفرصة إلى تغلغل حزب البعث وغيره من القوى الظلامية والمتخلفة للانتقام من العراق الجديد وإعاقة تمكنه من تجاوز محنته وإعادة اعماره وتطهيره من بقايا ذلك النظام وثقافته البائسة التي أدت وتؤدي إلى تدمير بنيته السياسية والاجتماعية والسيادية من خلال تلك الجرائم التي ينفذها يوميا في الموصل وكركوك وديالى وأخيرا في العاصمة بغداد والتي تستهدف زرع الرعب والإحباط واليأس لدى الشعب وقواه الفاعلة.