لا يمكن لأي إنسان عاقل، إلا أن يقف مشدوها أمام شدة الهجمات العسكرية، التي تشنها القوات الجوية اليمنية على نطاق محافظة صعدة، والشيء الذي يصيب بالدهشة، أنها تقصف بشراسة وعنف، كما هو واضح عبر صور الإعلام المتنوعة، أراض يمنية، فتقتل وتصيب أطفالا وأفرادا يمنيين، كل ذلك بسبب خلاف سياسي، أجزم يقينا، أنه يمكن حله بمختلف السبل السلمية، والأطر القانونية التي كفلها الدستور والنظام، وقبل ذلك وبعده، بمختلف الأشكال الإنسانية، والعادات والأعراف اليمنية، التي حقنت الدماء اليمنية خلال مختلف الحقب والمراحل المتنوعة.
إن أي متابع لمجرى الصراع الدموي الحاصل حاليا في اليمن، ويشاهد تلك الحمم البركانية التي تدمر البيوت، وتحرق الحرث والنسل، ليتذكر بكبير ألم واعتصار، تلك المشاهد الإجرامية التي مارسها العدو الصهيوني، على أهلنا في قطاع غزة الصامدة أوائل هذه السنة، وعلى أهلنا الصامدون في لبنان خلال حرب تموز سنة 2006م، التي يحتفل اللبنانيون خلال هذه الأيام بذكراها الأليمة وبانتصارهم فيها. فهل يصح عقلا ودينا ووطنية أن ننهي خلافاتنا السياسية في وطننا العربي بعامة، واليمن على وجه الخصوص، بنفس ذلك الأسلوب والطريقة الدموية الإسرائلية؟ لا أتصور أن عاقلا سيوافق على ذلك، ولا أتصور أن مسلما سيؤيد ذلك، ولا أتصور أن وطنيا غيورا سيدفع إلى ذلك؟ فلماذا يحدث هذا في اليمن؟ ومن يقف وراءه؟
فخامة الرئيس، إنها ليست الحرب الأولى مع حركة الحوثيين في اليمن، لكنها الحرب التي تلت عهدك الشهير الذي قطعته على نفسك، حين أعلنت في يوليو الماضي من العام 2008م، بأن الحرب ستتوقف إلى الأبد، وأن الخلاف سيُحلَّ وفق أليات الحوار الوطني، ولاشك أن ذلك العهد قد فرحت له الملائكة في السماء قبل أن يفرح له الناس على الأرض، فعهد يَحصن الدماء وإزهاق الأرواح، وعهد يَحفظ الوطن من المهالك، هو عهد عظيم في ذاته، لا يُصدره إلا الغيورين على أمن بلادهم، وحفظ أنفاس مواطنيهم؟ فكيف أيها الرئيس القائد تُغيَّر ذلك؟ ولمصلحة من؟ تدك تلك الصقور الجوية، بأسلحتها الثقيلة، تلك البيوت المهترئة، التي هي في حاجة إلى بناء وترميم، ونهضة وتطور، وقبل ذلك، احتواء لا عنف. والأعجب سيدي الرئيس أن تـَخرج بعض الأصوات الإعلامية من هنا وهناك، تـُناديك بأن تستمر في قصف منطقة صعدة بمختلف الأسلحة الفتاكة، ضانين بأنهم بقولهم هذا، إنما يعززوا من سلطانك وقوة الدولة، وما دروا أن الأمم لا تبنى بالحروب، وأن الحجارة وذرات الرمال، هي أكثر من يَحفظ شذرات الدماء المتطايرة على مر العصور، فكيف تستكين لقولهم، وفيه ما فيه من خراب وتشويه لبلد أنت على رأسه، ولشعب تحت سلطانك.
فخامة الرئيس، في أكثر من مقال دعوت إلى الحذر من أن يتحول اليمن بفعل خطأ معالجة مختلف المتغيرات السياسية، إلى حالة من الفوضى، تجمع بين ما يعرف اختزالا بالصوملة، وهي عنوان الحرب القبلية ذات الهوية الدينية، والعرقنة، أي الحرب الطائفية، واللبننة، وهي عنوان الحرب الحزبية والصراعات الإقليمية والدولية في المنطقة، التي كلها للأسف، قد أصبحت قابلة بشكل أو بآخر للاشتعال في اليمن، وأن المخرج الوحيد لذلك، لا يمكن أن يكمن في ممارسة القوة، وليس عبر إراقة وسفك الدماء، وإنما عبر ممارسة الحوار الوطني، الذي يُشكل المخرج الفعلي لأقطاب الصراع السياسي في اليمن، كما هو الحال مع العديد من دول المنطقة العربية كلبنان والعراق والسودان.
فخامة الرئيس، إن المتأمل بحصافة ليدرك أن قوام تجدد هذه الحرب المستعرة بين الجيش والحوثيين، كان بسبب تعاضد عدد من الأسباب الفكرية والاجتماعية والطائفية، التي يحركها العديد من أنصارها ضمن أجواء الدولة اليمنية بوجه عام، تحت غطاء ما يُسمى بالشرعية والحفاظ على سلطة الدولة، التي باسمها تـُرتكب المحرمات، وتـُقتل الأنفس، وتـُدمر البيوت، بدل أن تتم المحافظة على تلك الأنفس، ويتم الاهتمام بتقدم عجلة التنمية. وفي هذا الإطار فليس بالإمكان التغافل عن تلك الأصوات العنصرية والطائفية التي نادت علنا بالعداء ضد شريحة رئيسة في المجتمع، وبالحرب على مختلف طوائف اليمن التاريخية (زيدية وشافعية وإسماعيلية)، وهو ما يتوجب النظر إليه بعناية تامة، والتمعن في أبعاده بروية، ويدعو إلى تكثيف الاهتمام بالقواعد المرجعية للمجتمع اليمني، التي تميزت بعمق تاريخها الأصيل، واعتدال منهجيها، ووسطية أفكارها، وبعدها عن مسالك التطرف والإقصاء لأي فكر وأي منهج، وبالتالي الرهان الأكبر على ضمان استقرار منطقة اليمن سياسيا وعسكريا، والنأي بها عن مكامن الصراع الأيدلوجي في المرحلة القادمة، التي ستـُحيل المنطقة بأكملها، في حال تورط اليمن بشعبه وجغرافيته، إلى بركان ثائر، يقذف بحممه الملتهبة إلى مختلف الآفاق وبصورة عشوائية، وحينها لا ينفع الصوت حين لات مناص.
فخامة الرئيس، لقد أكدت التجارب السالفة، وبرهنت الصيرورة التاريخية على أن الحوار، وليس القوة، هو المخرج الحقيقي لكل الأزمات السياسية والعسكرية والفكرية وغيرها، وبخاصة إذا ما تعلق الأمر منها بالشق الوطني، شرط أن تتحقق فيه صفة الوطنية، بمعنى أن يكون الوطن بماضيه وحاضره ومستقبله، بمقوماته وأركانه، بأفراده وجماعاته، بنسائه ورجاله، صغاره وكباره، ترابه وسمائه،،، ماثلا أمام كل المتحاورين ؛ الحوار الوطني الذي لا يحتكم إلى قوانين السوق، حين يناقش كل الفرقاء همومهم وقضاياهم، كما لا يحتكم إلى حيثيات الغلبة والتعسف الاجتماعي وحتى الطائفي، باعتبار أن الكل متساو تحت مظلة الوطن في الحقوق والواجبات ؛ الحوار الوطني الذي يَصمُّ أطرافه أسماعهم عن وشوشة مختلف القوى الخارجية، وتمتمات أصحاب المصالح الذاتية. حين ذاك سيدرك كل الفرقاء، ألا خاسر بينهم، لحظة تنازل أحدهم عن خصيصة ما، في حق جماعته أو طائفته، وسيكتب الكل بحكمتهم وثيقة أمان حاضرهم، ومستقبل غدهم. إنه ذلك الحوار الوطني المنشود، الذي تخطط له العقول الواعية، ويصنعه الرجال المخلصون، وتنفذ حيثياته الشعوب الحضارية.
فخامة الرئيس، إن هذا ما ينتظره أبناء اليمن شماله وجنوبه، شرقه وغربه، فهل اليمن قادم إليه؟ أرجو أن يكون ذلك قريبا، وأن يسمع العالم إعلانا وطنيا عظيما من قائد شجاع، كانت له بصماته الخالدة في بعض مفاصل تاريخ اليمن المعاصر، تأمر فيه بداية، بوقف القصف الظالم، لك أيها الرئيس قبل غيرك، على محافظة صعدة، لتعمل على إنهاء الإشكال السياسي، بوساطة رجال غيورين عليك، قبل أن يكونوا غيورين على الاهتمام بمصالحهم، محبين لوطنهم قبل محبتهم لمختلف أجنداتهم الأخرى ؛ وليست المعضلة سيدي الرئيس، متعلقة بمحافظة صعدة وحسب، بل هي ممتدة إلى مختلف المحافظات الجنوبية، التي هي في أمس الحاجة إلى حل وطني يكفل لأبنائها مختلف الحقوق والواجبات، وينطلق من رضاء تام، وقناعة كاملة، بمختلف الإجراءات التي يمكن أن تـُتخذ من أجل الحفاظ على اليمن، حتى لوا اقتضى ذلك، إلى الإقراء بمسألة فدرالية الوحدة اليمنية، التي أصبحت مطلبا للكثير من أبناء تلك المحافظات، والتي حتما لن يكون فيها الخراب للجمهورية، بقدر ما يمكن أن يكون فيها الفائدة والمنعة. وما تجربة النظام السياسي الأمريكي، إلا مثالا يُحتذى به، ونموذجا يُقتدى. فهل نشهد ذلك بأسرع وقت ممكن؟ ونحن الذين قد خبرنا فيك الحصافة، وعدم المكابرة على المصلحة الوطنية العليا، نداء أضعه بين يديك بكل مودة واحترام.