لم يكلف كثيرون من اليساريين الشرق أوسطين المداومين على ارتقاء المنابر والشاشات بين الحين والحين أنفسهم عناء بناء أدواتهم الفكرية الملائمة للمكان والزمان، بل اكتفوا بالتنظير وإعادة التنظير باستعمال قوانين الديالكتيك التي تم إنتاجها في زمان ومكان آخرين، وفي ظل ظروف أخرى، قد لا تشبه من قريب أو بعيد الظروف التي تعيشها الشعوب العربية الشرق أوسطية. إنها أسئلة بسيطة لا مفر من الإجابة عنها، لكن هيهات، هل نجد من المنظرين اليوم من يتنازل ويتنزل ويعود إلى إعادة إنتاج أدواته الفكرية بناء على المنطق الحركي قبل أن يتصدى للإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي تكتظ بها أذهان الشباب؟ ومن الملاحظ أن شباب اليوم قد لا ينتظر كثيراً إجابات قد تخرج مجتزأة وغير قابلة للحياة من أفواه المنظرين، لأن الشباب بكل بساطة يحتاج أن تتكلم إليه بلغته الحية المتطورة في كل لحظة، وبطريقته المتزايدة السرعة، لا بأدوات فكرية رثة يخرجها المنظرون من صندوق ستينات وسبعينات القرن الماضي.. أدوات لا يمكنها إعادة إنتاج النظرية لتليق بأجيال جديدة.

عم نتحدث؟
تماشياً مع التقسيم السكوليائي، يقع المنطق الحركي في قاعدة الهرم فيشكل الركيزة الأساس لإنتاج أي قانون يمكن أن يصمد للحظة ثم يتطور مع المتغيرات، لإعادة إنتاج النظرية أو أي مقولة أو أي مفهوم، أو لإعادة إنتاج منظومة فكرية أخلاقية أو جمالية.. وهذا الهرم ذو الطبقات الأربع يبدأ من القاعدة مع المنطق الحركي ndash; الديالكتيكي، ثم قوانين الديالكتيك، ثم المفاهيم، لتحتل رأس الهرم الأخلاق. ومن نافلة القول أن الهرم ذو وجوه أربعة، فاليساريون في المجتمع اليساري هم غيرهم في المجتمع اللايساري، كحالة المجتمعات العربية، أما غير اليساريين في المجتمع اليساري هم بطبيعة الحال لا يشبهونهم في المجتمع اللايساري. وهكذا نجد أنفسنا اليوم معنيين بحالة اليساريين في المجتمع اللايساري تحديداً، هذا المجتمع الذي لن يكون يسارياً في المدى المنظور، وربما في المدى غير المنظور كذلك، مهما كثرت الخطابات والمقالات والتحليلات، لأن كل هذه التحليلات - الإنتاجات، للأسف الشديد تتموضع على الطابق الثاني، أي على طابق قوانين الديالكتيك، ولم تبتني على أدوات فكرية من القاعدة، أي من المنطق الحركي، أي من المنبع الذي عليها أن تستمد منه الأدوات الفكرية الملائمة للزمان والمكان والحركة. وليس علينا البحث كثيراً للوقوف على أمثلة حية لذلك، فكل ما علينا فعله هو قراءة أي خطاب أو موقف للمتحدثين اليساريين، تراهم ينطلقون من قوانين التناقض والنفي ونفي النفي كمسلمات، آكسيومات غير قابلة للنقاش، دوغمات معلقة يتناولوها كلما دعت الحاجة ويرمونها في وجه القارئ أو المستمع، حتى لتخال أنهم أنفسهم لا يفقهون معناها عندما تحتك بمشاكل آنية.. فتبدو على ألسنتهم عقيمة وغير قابلة للتفاعل مع أي طارئ، ثم يستنقذون أنفسهم ببعض الأقوال لماركس وإنجلس وتروتسكي ولينين وماو... ولا ينسون أن يزودوا المستمع برقم الصفحة في الأعمال الكاملة!

منظرون فقهاء!
خلال ثلاثة عقود مرت بطيئة على شعوبنا المقهورة لم يقدم منظرونا اليساريون فيها شيئا نافعاً يذكر، لم يقدموا لشعوبهم أفكاراً قابلة للتطبيق. يتذرعون بألف حجة وحجة، لكنهم أمام هذه الحقيقة الواضحة سواء.. يبدون أعجز من أن ينتشلوا أنفسهم من الحفرة. في المشرق العربي، على سبيل المثال، شهدت الجماهير تجربة العراق وبلاد الشام المنتجتين، وعملياً لقد سلم الجيل الأول من اليسار الوديعة جيلاً ثانياً في الخمسينات، ثم سلم الجيل الثاني جيلاً ثالثاً في السبعينات فتابع المسير، أما الجيل الثالث فلم يسلمً أحداً بل سقط في الحفرة.. والحفرة لا تنتج حلاً ولا فكراً بل يمكن لمن تبقى من الجيل الثالث على قيد الحياة أن يلوك الأفكار نفسها، ويتغنى بالأمجاد، أو شبه الأمجاد نفسها، ولكنه لن يتمكن من الارتقاء من الحفرة قيد أنملة، ناهيك أن أنه يسمم أفكار الشباب بأمجاد لم تعد قالبة للتداول في عالم اليوم، على أقل تقدير... أما الشباب اليوم، والذي يفترض به أن يشكل جيلاً خامساً في ظل عدم وجود جيل رابع ببساطة، فهو تائه. تائه بين مصطلحات عفا عنها الزمن، تحتاج إلى تبسيط بات شبه مستحيل، تائه كون من يتصدى للإجابة عن أسئلته يعيش في الماضي ويحبس نفسه في بعض الذكريات، وبعض لحظات المجد، تائه لأن قلة قليلة غير مسموعة الصوت تتكلم بلغته من المتصدين للإجابة.. أما المنظرون فهم مشغولون بين حين وآخر بتوقيع كتاب هنا أو محاضرة هناك، وإن أتيت بالكتاب أو بنص المحاضرة وأسقطها على الواقع اليومي فتتساقط ولا يبقى منها إلا حروف الجرّ. تماماً كفقهاء المذاهب يقبعون في كهوفهم ويدعون أن المعرفة كاملة نزلت من السماء في زمان غابر ما، وما عليهم اليوم إلى أن يمدوا جسوراً معرفية من زمانهم إلى زمان النص وأن يستخرجوا الحكم الظاهري لمشكلة تحدث أمامهم باستعمالهم لأدوات فكرية أنتجت قبل ألف عام.. هل الأمر كذلك؟ هل ننتظر من المنظر اليساري العربي اليوم أن يقارب الواقع من خلال عودته إلى quot;كتاب مقدسquot; كتبه ماركس أو لينين أو سواهما، ليستخرج لنا حكماً ظاهرياً بأدوات فكرية أنتجها أجدادنا؟ هل لاحظتم مدى غبطة هؤلاء المنظرين بعد يومين أو ثلاثة من انفجار الأزمة المالية العالمية وكيف جادت عبقرياتهم بما لم تجد به عبقرية طالبان عشية إعلان إمارتها! فإن تلخصت المسألة بأن ماركس كان معه حق! فما هو الذي معكم أنتم كمنظرين فقهاء، مسحتم الغبار والأتربة عن كتاب quot;رأس المالquot; لتربطوا بين ما يحدث أمامكم وبين تفاصيل النظرية الماركسية؟ ثم تراهم همدوا بقدرة قادر، ولم يقدموا فكرة واحدة قادرة على الصمود حية لتتفاعل مع عاملي الزمن والحركة.

مكاسب وامتيازات
لن يستطيع الجيل الثالث من اليساريين العرب، ومنظروه، أن يقدم حلولاً لمشاكل تعترضنا اليوم.. كثيرون منهم يتعمدون البقاء حيث هم، فلا ينوون التقدم إلى الأمام ولو لخطوة واحدة كي لا يفقدوا المكاسب التي حصلوا عليها، والامتيازات التي غدت توقفهم في الصف الأول في هذه المنظمة أو تلك مانعين الشباب من التقدم، فهم يقفون في طريقه، ويشعر الشباب فعلاً بالإحباط من ممارسات كثيرين يتبوءون المناصب في أحزاب ومنظمات، وينادون بالديمقراطية بين حين وآخر، وهم لم يمارسوا ولن يمارسوا من هذه الديمقراطية شيئاً كونها ستمس بمكاسبهم وامتيازاتهم، وهم بالتالي يخنقون الشباب، ويمحون قدرته على التقدم والتغيير، وأحياناً حتى التعبير. لكن هل يمكن أن نقدم للشباب وصفة تقول أن عليه استعمال جوامد قوانين المادية الديالكتيكية، أي مواد تستخرج كما هي من مؤلفات القرن ما قبل الماضي، كي يحلل بها واقعه اليومي ويخرج بحلول لمشاكله؟ أم هل نقدم له تفسير هذه المؤلفات، وتفاسير تفسيرها، وتفاسير تفاسير... يعود آخرها إلى جيلين أو ثلاثة إلى الوراء، وننتظر ما الذي سيفعله بها، تماماً كما يفعل مستنبطو الفتاوى من بطون كتبهم العتيقة؟.


ما العمل؟
لا يوجد حلول سحرية، وربما يكون كل من يدعي أنه يمتلك إجابات واضحة لأسئلة الشباب المتراكمة واهماً في أفضل تعبير، والمهمة التي تنتظر الجيل الذي لم يستلم من جيل قبله سوى الخيبات مهمة شاقة، تبدأ ببناء الأدوات الفكرية المناسبة للمرحلة التي يعيشها، وهذه الأدوات لا يمكنه بحال من الأحوال استيرادها، أو وراثتها قسراً.. إن بناء الأدوات الفكرية يعني بناء أساس متين يمكن من خلاله الوصول إلى القواعد الناظمة لعملية التفكير وفق المنطق الحركي، وبالتالي بناء قوانين الديالكتيك من جديد تمهيداً لبناء النظرية، وهذا ما لا يمكن أن يستسيغه أحد من المنظرين الفقهاء الذين تعودوا استهلاك الأفكار وإعادة استهلاكها. لن يسمح الجيل المورّث للخيبات لجيل يأتي بعده أن يشق طريقاً له خارج التجارب الفاشلة، وهذا طبيعي، إنما يريد للشباب أن يمروا من خلال نفس القناة التي تم تأسيسها على أفكار باتت صدئة، بينما ينعم هؤلاء المنظرون الفقهاء بنعمة التنظير على الطابق الثاني مستعملين كافة المصطلحات التي عفا عنها الزمن، تلك التي تحتاج إلى شروحات وتفاسير ليس لها وجود فعلي على أرض الواقع.
إذن، كفانا مصطلحات جامدة، كفانا لجوءاً إلى عدة ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولننطلق في دعوة مفتوحة للتفكير.. فلندرس واقعنا جيداً، إن أي انطلاقة في التفكير تحتاج إلى دراسة متأنية وعلمية للواقع الذي نعيشه، ولا يمكننا أن ندير ظهرنا لواقعنا عندما نفكر ونحاول تنظيم تفكيرنا لاستخراج الأدوات الفكرية الملائمة من المنطق الصوري السكوني ثم من خلال تحريكه، وهدمه، للوقوف على ما يصلح منه للبقاء في هذه المرحلة، ثم لبناء المنطق الحركي، ثم لبناء القواعد المؤسسة لنظرتنا نحو الآخر، الكون، المفاهيم بشكلها العام. المقترح اليوم منهجية جديدة بعيدة عن التلقين المباشر الذي دأبت عليه الأجيال السابقة، تبدأ بحوارات كثيرة غير منظمة لتلتقي أو لا تلتقي في حوار واحد. هذه الحركة لا تعتمد على ما ورثه الشباب من الأجيال السابقة، سواء في مراحل سميت بالذهبية، أو مراحل الفشل المتعامى عنه، إنها تعتمد على لغة شباب اليوم وحركيته، فإن كان ينبغي القيام بشيء ما فإنما على شباب اليوم القيام به، وإلا كذلك سننتظر جيلاً آخر.. وآخر.