لست مؤرخاً ولا حزبيا منحازاً إلى هذا أو ذاك، بل شاهد عيان على واحدة من أكبر وأبشع الجرائم في تاريخ العراق.
كانت مصادفة عجيبة تلك التي قادتني بحكم عملي، إلى حضور حوار سري جداً وخاص جداً ونادر جداً بين قادة عهد سقط وعهد آخر قام على جماجم قادته. وما سأرويه هنا بدقة ونزاهة كاملة لإرضاء ضميري والتاريخ، قد لا يتفق مع ما رواه الكثيرون غيري من أصحاب الغايات والأغراض المتنوعة عن تلك اللحظات التي مرت ثقيلة كالرصاص.
في التاسعة من صباح الجمعة 8 شباط/فبراير 1963 سمعت البيان الأول من الإذاعة بصوت غير إذاعي، علمت بعد ذلك أنه كان صوت أحد قادة الحزب: حازم جواد. وفي حدود التاسعة والنصف تبلغت من قبل الحزب بضرورة الحضور إلى الإذاعة.
لقد أرادت القيادة أن تستعين بمذيعين محترفين لإضفاء نوع من مظاهر الوضع الذي عاد طبيعيا، لتوحي باستتباب الأمور في العهد الجديد، وبالتالي لا فائدة من مواصلة المقاومة. هذه الرسالة كانت موجهة بالأساس إلى جماهير الحزب الشيوعي أكثر من غيرها. أقلتني سيارة عسكرية من منزلي في الجعيفر إلى الصالحية. وصلت في حوالي الساعة العاشرة أو قبل ذلك بقليل. دخلت، لكنني فوجئت أن كل شيء عادي في الإذاعة، ولا شيء في المبنى مما كنا نسمعه في الراديو. فعلمت ساعتها أن البث يجري من المرسلات في منطقة (أبو غريب) التي تبعد عن الصالحية حوالي 12 كيلو مترا. وقفت على سلم مدخل مبنى الأستوديوهات حيث تقع الغرفة التي يشغلها المذيعون والغرفة التي يشغلها النقيب جواد، آمر قوة الإذاعة، أترقب قدوم أي أحد لأفهم ما يدور. مرّت دقائق، ثم خرج النقيب جواد ووقف، مثلي، مضطرباً لا يعرف ماذا يجري. وفجأة أطلت دبابة، واتخذت موقعاً مواجهاً لنا تماما وأدارت ماسورتها نحونا. صرخ النقيب جواد: لا ترمِ لا ترم. وهنا نزل (ذياب العلكاوي) وهو يسأل: هل أنت ثائر معنا لإسقاط النظام؟ فقال جواد: أوامرك سيدي. قال له: أولاً، أصدر أوامرك بنزول الجنود المتمترسين على سطح المبنى. فرد النقيب جواد: أمرك سيدي. ودخل العلكاوي ودخل خلفه حميد التكريتي (ضابط بعثي، عمل مرافقا لطاهر يحيى رئيس الوزراء في عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف) إلى غرفة آمر القوة. وصل في هذه الأثناء كل من شفيق الكمالي وهناء العمري (زوجة علي صالح السعدي) والمذيعان عبد اللطيف السعدون وقاسم نعمان السعدي. وفور عودة البث إلى أستوديوهاتنا في الصالحية رحنا، الكمالي وهناء وأنا، نتبادل الجلوس خلف الميكروفون لإذاعة بيانات وبرقيات وشعارات كان بعضها يعطى لنا مكتوبا، وكنا نكتب نحن بعضها الآخر. ثم توالى وصول الـ (قادة)، عسكريين ومدنيين، نعرف بعضهم ولا نعرف بعضهم الآخر. رأيت أحمد حسن البكر وعبد السلام عارف وعلي صالح السعدي وحازم جواد وعبد الستار الدوري وطالب شبيب وصالح مهدي عماش. ولم أكن أعرف غيرهم. وفي اليوم التالي وصل حردان التكريتي وغيره، وامتلأ المبنى حتى كاد يضيق. بقينا نعمل طوال النهار والليل. لم نتوقف عن الإرسال، نتبادل الجلوس خلف الميكروفون، اثنين اثنين. وفي ضحى السبت علمنا باستسلام عبد الكريم وبعض أعوانه. وقيل إنهم سُيرحلون إلى الإذاعة بين وقت وآخر. وفي حوالي الساعة الثانية عشرة، أو بعد ذلك بقليل، وصلت ناقلة جنود نزل منها أولاً فاضل عباس المهداوي رئيس المحكمة الخاصة الشهير، واثنان لم أكن أعرفهما، علمت فيما بعد بأنهما عبد الكريم الجدة، قائد الانضباط العسكري، وكنعان خليل حداد أحد مرافقي الزعيم، وقيل إنه ابن أخته والذي اتهمه الحزب بقتل أحد ضباط الهجوم على وزارة الدفاع واسمه محمد علوان.
عند لحظة نزولهم من الناقلة هجم على المهداوي جمع غفير من العسكريين والمدنيين وانهالوا عليه بصاقاً وضرباً بالأيدي والأرجل والأحذية. ورأيت الدم يسيل على رقبته ويغطي وجهه، وتعثر مرتين وهو يصعد سلالم المبنى القلائل في طريقه إلى أستوديو الموسيقى، تحت وابل من الضرب والصياح رافقه إلى أن وصل إلى باب المبنى. ثم جاءوا بـوصفي طاهر، المرافق الأقدم للزعيم، وهو في أنفاسه الأخيرة، فألقوه في الممر الجانبي للمبنى. وما زلت أذكره وهو يلفظ آخر أنفاسه، وتلك أول وآخر مرة في حياتي أشاهد من كان قبل ساعات يستطيع أن يصنع مصير غيره، ملقى على تراب ممر ضيق في مبنى كبير. ثم هبط الزعيم.
وفجأة ساد هدوء وصمت غريب. كانت قد خُلعت عنه نجماته وأوسمته، وكان حاسر الرأس، شاحباً، نظراته تتنقل بسرعة بين وجوه الواقفين على جانبي مدخل المبنى. دخل، وعلى يساره أَجلس المنتصرون بعضَ مؤيديه الذين ألقوا القبض عليهم، في عملية خبيثة جداً تهدف إلى إفهامه أن هؤلاء الحفاة هم كل أتباعه من الشعب الذي كان فخوراً بحبه وإيمانه بزعامته.
فجأة حاول أحد الحاضرين أن يعتدي عليه فمنعه ضابط، عرفت فيما بعد أنه صبحي عبد الحميد. ثم تقدم حردان ووضع يديه فوق رأسه. وفي طريقه إلى أستوديو الموسيقى كان صالح مهدي عماش (أحد قادة الانقلاب) منتظراً على مدخل صالات التسجيل، فهنأه الزعيم على نجاحهم في الانقلاب عليه.
يبدأ المبنى بسلم مرمري عريض، ثم باب خشبي كبير، ثم بغرفتين متقابلتين، كما قلت سابقا، إحداهما لنا نحن المذيعين، والأخرى لآمر سرية حماية الإذاعة. بعد ذلك يأتي باب آخر ضخم يفصل الأستوديوهات عن الغرفتين. أي أن هذا الباب حين يقفل لا يصبح في إمكان أحد دخول منطقة الأستوديوهات أو الخروج منها. وعلى يسار الداخل غرفة البث الرئيسية التي تتم فيها عمليات تشغيل الأشرطة المسجلة، وإدارة العلاقة بين المذيع وبين الأشرطة. يليها، وعلى الاتجاه نفسه، أستوديو صغير مخصص للمذيع المناوب، ثم صالة الموسيقى الكبيرة. أما على يمين الداخل فيوجد أستوديو مهمل، وبعده ممر ضيق يؤدي إلى الغرفة التي تضم أجهزة التسجيل الخاصة بصالة الموسيقى، واللتين يفصل بينهما جدار زجاجي ضخم يرى الواقف وراءه ما يدور داخل الصالة، ولكنه لا يسمع ما يقال فيها، إلا إذا فتح أحد الميكروفونات المنتشرة فيها بكثرة، من جهاز التحكم الرئيسي في غرفة التشغيل.
عبرت الباب الفاصل بين غرفة المذيعين وغرفة آمر القوة وبين الأستوديوهات. وقد سمح لي الضباط الموكلون بالحراسة بالمرور، لكوني أحد المذيعين المناوبين. وفي لحظة وصولي خرج شفيق الكمالي من أستوديو البث ليستريح قليلاً من قراءة البرقيات والبيانات، وهو لا يعلم بمجيء الزعيم الذي أحضروه وأدخلوه صالة الموسيقى. طلب مني تسلم العمل عنه قليلا. لكنني تذرعت بالتعب، ووعدته بالعودة خلال ربع ساعة فقط، فاقتنع وعاد إلى أستوديو البث ليشارك هناء العمري الصياحَ من خلف الميكروفون. دلفت إلى غرفة تسجيلات صالة الموسيقى لأراقب من وراء زجاج سميك بيني وبينها ما يدور داخلها. وقد اختيرت هذه الصالة لأنها كانت الأكبر لدينا في مبنى الإذاعة في تلك الأيام. كان معي اثنان من مهندسي الصوت، هما جوزيف بصري ومدحت السامرائي، على ما أذكر. غامرت وفتحت من لوحة التحكم في غرفة التسجيل أحد الميكروفونات المنتشرة داخل قاعة الموسيقى لنسمع الحوار الذي كان يدور. كان الصوت غير واضح تماما في بعض أجزائه، لسببين، الأول ُبعد الميكروفون عن الجالسين في مؤخرة الصالة، وثانيا كون المحاورين يتكلمون جميعهم معا، بعصبية وتوتر. نظر إلينا العلكاوي من خلال الزجاج، فسألته بالإشارة: هل نسجل الحوار، فأجاب بالقبول. فمضى جوزيف بصري يسجل ما يدور. وعلمت بعد سنوات أن نسخة من ذلك التسجيل ما زالت مخبأة لديه.
سمعنا عبد السلام يخاطب المهداوي ويؤشر بعصا كان يحملها ويقول: قم وحاكم عبد السلام الآن. ثم سمعناه يلح على عبد الكريم بالإقرار بأنه هو الذي كتب البيان الأول لثورة تموز. كما سمعنا علي صالح السعدي يسأل عبد الكريم عن شخص، فهمنا بعد ذلك أنه كان يسأله عن شخص وشى بمحاولة انقلاب سابقة كان الحزب يخطط لها، طالباً منه أن يقول هل هو موجود بين الحاضرين أم لا. فرد عبد الكريم بإصرار قائلا إنه غير موجود، ثم أقسم بشرفه. وسمعنا عبد الستار الدوري (عضو فرع بغداد لحزب البعث في عام 1963، عين مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون عقب نجاح انقلاب شباط 1963) يقول: من أين لهذا شرف؟ فيرد عبد الكريم غاضباً: لك شرفك ولي شرفي الذي أعتز به. وسمعنا أيضاً حديثاً متقطعاً عن جهاز لاسلكي وضعه عبد السلام وعبد الكريم في مكتب رفعت الحاج سري، لكنه استخدم في المحاكمة كدليل إدانة بحق رفعت. وعموماً كان عبد الكريم متماسكاً، يحاور بكلمات موزونة، وبصوت هادئ وقور. وفي ظني أن ثلاثة أرباع رباطة جأش الزعيم وتماسكه تعود إلى قناعته بأن لقاءات أخرى، وربما جلسات ومحاكمة قادمة، على الطريق، وسيقول فيها ما لديه. كان مقتنعا كل القناعة بأنه خدم شعبه ووطنه بنزاهة واستقامة وإخلاص ولا شيء يدينه. فقد كان يطالب بالمحاكمة العلنية مثلما فعل هو مع الطبقجلي ورفعت الحاج سري وعبد السلام وغيرهم. وأكبر ظني أنه قرر أن يحتفظ برصانته وهدوء أعصابه وحججه للمواجهات العديدة القادمة. لم يكن يخطر على باله مطلقا أن تصبح هذه المحاورة الفوضوية والأسئلة السطحية المتناثرة، والأصوات المتشفية والشتائم الرخيصة هي المحكمة الأولى والأخيرة التي ما بعدها محكمة، وأن مصيره تقرر في تلك الجلسة العابرة، وأن رصاصهم ينتظره على الباب ليخترق جسده ويسكت أنفاسه في لحظات.
لا أذكر من أخرج قاسم الجنابي، مرافق الزعيم، وسلمه لنا طالبا منا أن نجد له مكانا مؤقتا إلى حين. لم يكن لدينا مكان سوى صالة صغيرة معدة لتسجيل الأحاديث. كان يرتجف من الخوف، ولن أنسى منظره ما حييت.
وقد زاد من ارتعاشه أن الصالات جميعها كانت مبردة كثيراً، حسب المتطلبات الفنية لصيانة الأجهزة. كنت أتأمله، وأنا أواسيه مع المهندس مدحت السامرائي، وأفكر في أمرنا نحن البشر. فهذا الذي كان بالأمس يصول ويجول تحول فجأة إلى إنسان ضعيف، عاجز، خائف، يتمنى أية خرقة مهملة تستر ضعفه بعد جبروته. ألقينا عليه ما كنا نستطيع التخلي عنه من ثيابنا لندفع عنه ذلك الارتعاش.
حين بدأ إطلاق الرصاص هتف عبد الكريم قائلا: (عاش الشعـ...) ولم تمهله الرصاصة ليكمل هتافه بحياة الشعب العراقي. وسقط الجميع عن كراسيهم، وعاد الصمت يجلل المكان، وتناثر دمه، هو وحده، وبضعة من شعر رأسه، على جدار صالة الموسيقى، وظل سنوات يراه الموسيقيون والمطربون وزوار الإذاعة كأثر من آثار الماضي السحيق.
لقد كتب وقيل الكثير عن تلك الدقائق الدامية التي شهدتها صالة موسيقى الإذاعة. وتراكمت عنها شهادات كان العديد منها كذباً وتزويراً وادعاءً. لكن أكبر الكاذبين، في نظري، ثلاثة:
1- أحمد حسن البكر الذي زعم أنه الوحيد الذي عارض قتل عبد الكريم قاسم، في حين أن كثيرين من رفاقه في القيادة أكدوا في شهاداتهم ومذكراتهم أنه كان أكثر المصرين على قتله إلحاحاً وعجلة.
2- طالب شبيب الذي زعم في مذكراته أنه صاح بالذي حاول الاعتداء على الزعيم:
quot;أيها الجبناء، قبل يوم واحد كان سيدكم وتقبلون يديه ورجليه والآن تريدون إهانته بعد أن انهزم في معركة لم يكن فيها متخاذلا، عيب عليكمquot;.لأن أحدا لم يتجرأ على مس الزعيم منذ نزوله من الناقلة العسكرية أمام باب الإذاعة وإلى لحظة اغتياله.
3- محمود شيت خطاب الذي ادعى ما يلي:
quot;وكان الموقف حرجاً جداً، إذ كان أنصار الطاغية يحتلون سطوح البيوت المحيطة بالإذاعة، وكانوا يرمون الإذاعة بوابل من النيران لا يكاد ينقطع، وكانت النيران تصيب من تصيب عشوائيا. وشكلت محكمة عسكرية برئاسة أحمد حسن البكر وعضوية ضباط آخرين، فقررت المحكمة إعدام عبد الكريم قاسمquot;.
quot;وحملت الجثة الهامدة إلى خارج بناية الإذاعة، ووضعت على الرصيف القريب من باب دار الإذاعة، فلما اطلع أنصار الطاغيـة على مصيره ومن معه تركوا أسلحتهم وهربوا بسرعةquot;(12).
إن هذا كذب كله. فلا أحد كان يحتل السطوح المحيطة بالإذاعة، ولم يكن هناك رصاص يصيب من يصيب. ولم تحمل جثة الزعيم لتلقى على الرصيف.
وكلنا يتذكر ذلك الجندي الذي رفع رأس الزعيم وبصق على وجهه وهو قتيل، مأخوذاً بحالة العنف والحقد والانفعال التي سادت المكان. لكن الذي سمح بعرض جثة الزعيم على شاشة التلفزيون هو البكر نفسه، ليسجل للتاريخ سابقة لا تغتفر، ظلت وسوف تظل وصمة عار في جبين الحزب الذي أعاد العراق والعراقيين عشرات السنين إلى الوراء. يكفي أن القادة الجدد أمروا بحمل جثة (قتيلهم) سراً وبعيداً عن العيون، وأمروا بدفنه في أقصى بقعة أرض ممكنة عن العاصمة. quot;لف الضباط البعثيون الجثة ببعض البطانيات، وأخذوها إلى منطقة معامل الطابوق الواقعة بين بغداد وبعقوبة. ودفن عبد الكريم قاسم في حفرة، بملابسه العسكرية التي قتل فيها. وقد اختيرت الحفرة في مكان بعيد عن رصد الناس، ثم هالت المفرزة العسكرية التراب عليه، وأخفت جميع المعالم التي تدل على قبره.
ولكن بعض العمال الذين كانوا يسكنون حول معامل الطأبيق ممن يحبون عبد الكريم قاسم شاهدوا ما جرى. فعندما ابتعدت المفرزة العسكرية، تسلل إلى المنطقة بعض هؤلاء العمال، واستخرجوا الجثة من الحفرة، وحملوها على أكتافهم إلى مكان يقع بين المجمعات السكنية للعمال، فحفروا لها قبراً جديدا ودفنوها فيه. وسرعان ما سرى الخبر بين العمال، وتسرب إلى سلطات الأمن التي داهمت العمال، وألقت القبض على المتهمين الذين تعرضوا لعقوبات صارمة. ثم قام رجال الأمن باستخراج الجثة، بحراسة ثلة من الجيش، ووضعوها في كيس من (الجنفاص) وأثقلوه بكتل من الحديد الصلب. وفي المساء ألقيت الجثة من على جسر نهر ديالى الذي يصل بغداد بسلمان باك لتكون طعاما للأسماك (كتـاب (سقوط عبد الكريـم قاســم)، العميـد المتقاعـد خليـل إبراهيـم حسـن، ص417.)
- آخر تحديث :
التعليقات