رجعت الى الواجهة مرة اخرى في العراق مسألة ازداوجية الجنسية عند المسؤول العراقي ، وهذه القضية اصبحت نوع من الابتزاز السياسي بين الاطراف المختلفة اكثر منها واقع وطني عراقي كما يروج لذلك البعض. في البداية لابد من الاشارة وبانصاف ان هولاء العراقيين من فئة quot; الجنسيات الاجنبية quot; لم يكن خروجهم من العراق قبل عدة عقود نزهة او سفرة سياحية بل كانت كرد فعل على السجون والاضطهاد والمطاردة التي مورست بحق الكثير منهم ، ولابد من الاخذ بنظر الاعتبار ان عوائل واولاد بل واحفاد واجيال كاملة ولدت في بلاد الاغتراب والمهاجر والكثير من هولاء درس وتعلم وحصل على فرص عمل مميزة في الغرب على وجه الخصوص ، لذلك المطالبة بالغاء كل ذلك مرة واحدة هو نوع من عدم التفهم وايضا نوع من quot; تعجيز quot; الاخرين ووضعهم امام امتحان صعب وغير مجدي لان هذه الجنسيات الاجنبية في النهاية لاتلغي عراقية هذا المواطن العراقي وفي كل الاحوال لايملك اي شخص ان يسحب وطنية وانتماء اي عراقي كان. الاجدر بالحكومة والبرلمان العراقي التحرك على الاقل على الاجيال التي ولدت او تربت في الغرب وحصلت على شهادات مميزة في اختصاصات مهمة لاجل جذبهم الى وطنهم والاستفادة منهم ، وشخصيا كنت قد طرحت هذه الفكرة وبشكل مباشر على السيد المالكي الذي ابدى تفهم وحماس كبيرين واقترحت عليه متابعة موضوع هولاء الشباب العراقيين والمجيء بهم الى بغداد على الاقل وفي خطوة اولى كمؤتمر يلتقون به مع اقرانهم في العراق والرجل أبدى موافقة صريحة وواضحة ( ولكن ما ان خرجت من السيد رئيس الوزراء وحتى يومنا هذا الكثير من العراقيل وضعت في دولاب هذه الخطوة الوطنية من قبل البعض ) ويبدو ان هذا البعض لايسعده ذلك ولايريد ان يرى اي خطوة متقدمة بهذا الاتجاه العراقي الذي يعيد ابناء الوطن للمساهمة في بناء بلدهم ووطنهم. هذا قد يكون الجانب الاجتماعي والمهني من الموضوع.

لكن الجانب الاخر والاهم في الموضوع ان أغلب الذي يطلق عليهم في عراق اليوم quot; جماعة الخارج quot; بعد سقوط الصنم ورجوعهم الى العراق استولوا بطريقة quot; النهش quot; على أغلب المناصب المهمة في الدولة العراقية. وفي عملية جرد بسيطة لحصاد اكثر من ستة اعوام سنرى ان كوارث سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى دينية ولدت على ايداي جماعة الخارج ، حتى اصبح المرء في كثير من الاحيان يشعر بالخجل والهوان ان يقال له quot; هل انت من جماعة الخارج!؟quot; فلم يرى العراقيون الاكارم من جماعة الخارج لاكهرباء ولاماء ولادواء ولامدرسة جديدة او دار جديدة او شارع جديد ولاحتى فرصة عمل حقيقة والاهم ان العراقيين لم يجدوا بجماعة الخارج تلك العدالة الوطنية والاجتماعية المفقودة في العراق منذ اكثر من ثمانية عقود وحتى يومنا هذا. فلقد اعجبت حياة صدام وازلامه وطريقة معيشته وبذخ قصوره جماعة الخارج ولم يقف الامر عند هذا الحد بل انهم سجلوا تفاعلهم الغريب مع الصنم بطريقة سرقة واختلاس ثروات العراقيين بل والتلذذ بعوزهم ومصائبهم. لذلك اي منصف يتفاعل وهو يرى هذه المراة الجنوبية وهي تصرخ من قناة الفيحاء الفضائية وكل حرف من كلامها يئن من وطئة الالم والحسرة وهي تصفهم quot; بالغمان quot;. فلقد ذهبت الاصنام وجاءت الغمان.

وحتى نكون اكثر انصاف فان فئة الغمان وحرامية اليوم ليس جميعهم من جماعة الخارج بل اشترك معهم وشجعهم وروج لهم الكثير ممن يطلق عليهم quot; عراقي الداخل quot; ، لذلك المشكلة ليس بالوثيقة او بالجنسية الاجنبية بل المشكلة بثقافة خاطئة تسود منذ عقود طويلة في العراق وتهيمن بشكل واضح على عقلية العراقي ، لان الكثيرين ينظرون الى الوطن كغنيمة والى المنصب الرسمي كفرصة يجب استغلالها باسرع و ابعد مدى للسرقة والاختلاس مع العلم ان المسؤول العراقي يحصل على امتيازات ورواتب ومخصصات هي الاعلى بكل الكرة الارضية وتلامس حدود السرقة القانونية. ان مجرد تقسيم الوطنية العراقية تحت عناوين غريبة مثل عراقي الخارج وعراقي الداخل هي سرقة اضافية تضاف الى سجل السرقات الاخرى.

وكان أهلنا العراقيون الاكارم يتصورن بان أبنائهم في الخارج سيعودون وفي حقائبهم خرائط المرور السريع ونظم المواصلات المتطورة في اوربا وكان يتصورون ان ابنائهم سيحملون معهم تصور لجامعات عراقية مثل اكسفورد في الناصرية وهارفود للفلوجة وجامعة امريكية للبصرة او معهد بروكنغز للموصل او جامعة جورج تون للعمارة او على الاقل في هذه الحقائب اسطوانات باخ وبتهوفن او صورة من لوحة الموناليزا او العشاء الاخير لاعظم فنان ايطالي في عصر النهضة الاوربية ليوناردو دافينشي او صور للوحات رامبرانت فان رين من هولندا او جوزيف تيرنر من المملكة المتحدة ، او افكار العمارة الراقية عند الفلندي فرانك لويد ريات او عند الدنماركي يورن اتزون مصمم دار الاوبرا الشهيرة في سدني ، و كان العراقييون يتصورون ان في تلك الحقائب العائدة اليهم بعد عقود من الغياب خطط ستراتجية كبرى اجتماعية واقتصادية وسياسية ورياضية وزراعية وحيوانية وعلمية وانسانية وغيرها الكثير ، لكن الصدمة الاولى كانت عندما عرف العراقيين ان كل ذلك حرام في فكر هولاء وان الحلال عندما فتحت تلك الحقائب واذا بها quot; كواني ام الخط الاحمر quot; كما كان يطلق في العراق على اكياس الرز الكبيرة وهذه الاكياس فارغة حتى من الرز لاجل تعبئتها بثروات العراقيين وتهربيها الى الخارج ، وقد ساهم بامتياز الكثير من ابناء العراق في الداخل مع رفاقهم من الخارج في التعبئة والتهريب. فالمشكلة ليست مشكلة وثيقة او جنسية اجنبية، فهل ينتظر العراقي من حرامي بعد ان يتنازل من جنسيته الاجنبية يصبح قديسا او نزيهآ!؟ والمشكلة ايضا ليس عراقي الداخل وعراقي الخارج قالاثنين مشتركين بالجريمة حتى ولو بمجرد السكوت وبدون مزايدات فارغة هولاء من كل القوميات والمذاهب والاديان في العراق. أن المشكلة الحقيقية هي سلوك و ثقافة وطنية وانسانية مفقودة عند الغالبية الساحقة من الواجهات السياسية في عراق اليوم. و بعد ان سيس الدين وخربت مفاهيم الوطنية مااحوجنا اليوم الى علي الوردي وامثاله أولئك الذين يؤشرون على خير العراقي وعلى شره ، فنحن بحاجة الى علماء اجتماع كبار وعظماء ليحلوا هذا اللغز العراقي ، وهذا قد يعطي تفسير لمحاربة الوردي حتى وهو في قبره من بعض الواجهات السياسية في عراق اليوم. مع ملاحظة ان العراق لم يخلوا يوما من ابنائه النجباء.