تشهد الساحة السياسية في العراق حراكا لبناء خريطة من التحالفات، استعدادا للانتخابات النيابية المقبلة المقرر إجراؤها قبل نهاية العام الحالي. وهو حراك تحاول من خلاله بعض الحركات والأحزاب ان تبني تحالفاتها، على وحدة البرنامج السياسي، كما يشاع حاليا، مستثمرة او آخذة العبرة من نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة.
ولان معظم الحركات على وفق التفوهات الصادرة من رموزها، تعلن نبذها للطائفية، فان البرنامج السياسي يتيح للاحزاب الخروج من اسار التخندق العقائدي والانتماء المذهبي، وهو امر متعذر اذا ما طرحت تلك الاحزاب رموزها للترشيح من دون تحالف مع تيارات مختلفة أيدلوجيا ومذهبيا.
لامناص هنا من الاشارة الى حقيقة ان الاحزاب الاسلامية في البلدان المتعددة دينيا ومذهبيا وقوميا ستصطبغ بصبغة طائفية شاءت ذلك ام أبت. فالحزب الاسلامي العراقي بالنسبة للشيعي هو حزب سني، لا يضم بين أنصاره أيا من الشيعة حتى لو كان من المتدينين، كما ان الاحزاب الاسلامية الشيعية تظل بالنسبة للسني العراقي احزابا شيعية فقط، بالدرجة نفسها. وهي تاسيسا على ذلك غير قادرة على انتاج رؤية جامعة لكل مكونات ابناء البلاد بمعظم اطيافهم، اذا تعذر القول كل اطيافهم.
ومن هنا لا يدخل في معنى التحالفات البقاء ضمن التحالفات القائمة او إبقائها، لان ذلك نقيض سافر لما يتنادى اليه الساسة من نبذ الطائفية والمحاصصة. وحتى اذا لم تنشأ تحالفات جديدة بالمعنى المراد، فان الحركات قد تفك ارتباطاها كما يبدو اليوم من تحالفاتها القديمة، في محاولة لخلق ثقوب تهرب من خلالها ما لصق بتلك التحالفات من تهم الولاء الطائفي والمناطقي.
يحدث كل ذلك في ظل نوع من خفوت نبرة الافكار العقائدية الحزبية، في مقابل تصاعد المطالب المرتبطة بحياة الناس وخدماتهم. فغني عن البيان ان فوز ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي في الانتخابات المحلية الاخيرة لم يتأت من اقتناع الناخب بعقيدة حزب الدعوة الايدلوجية، وإنما لان زعيمه قدم برنامجا يستجيب لتطلعات الناخبين في استتباب الامن والقضاء على المليشيات وكذلك دعوته الى سيادة القانون والنظام، معطوفة على ما حققه عمليا في هذا الصدد. وهو امر لا يعفي من القول انه لم يحصل على اصوات خارج دائرة انتمائه المذهبي.
وفي حالة حزب الدعوة العراقي بزعامة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي، والذي يُرشح ائتلافه لضم عناصر جديدة، او فك ارتباطه بتحالفاته القديمة، لابد من طرح سؤال مفاده هل بامكان الاخير ان يتخذ مسارا يقف على مبعدة من عقيدة حزب الدعوة التي تدعو إلى إقامة دولة إسلامية،(لابد وأنها ستكون شيعية الطابع)، مقابل خلق تيار أو تحالف يقوم على برنامج يتجاوز اطر العقيدة الحزبية؟
تجدر الاشارة هنا الى البرنامج السياسي للحزب، في نسخته التي صدرت بعد سقوط النظام السابق، كان يخلو من ذكر دولة اسلامية، وهو برنامج يبارك الديمقراطية، مع استدراك حول فحواها، فهي مقبولة quot;كآلية وليس كمبادئquot;، كما صرح بذلك علي الاديب احد قيادي الحزب.
ان الاحزاب التقليدية التي تأسست في القرن الماضي كانت تتسم بتلازم الايدولوجيا والتنظيم السياسي، فالقومية والماركسية والاسلامية، كان كل منها تشكل المرجعية العقائدية للأحزاب السياسية التي انبثقت عنها برغم اختلاف مسمياتها احيانا. وهي أيدلوجيات شمولية عابرة لأطر البلد والوطن الواحد، اذ يتشاطرها المسعى لقيام الامة سواء الاسلامية او العربية، او الاممية العالمية، بالنسبة للأحزاب الشيوعية.
لكن حالة التلازم هذه بين العقيدة النظرية والتنظيم تبدو في طور الانحسار، في نظر الناخب بحكم اشتداد مطالب الخدمات وتوفير فرص العمل واستتباب الامن، فضلا عن ان اجيالا بكاملها تقف على مبعدة من كل انتماء حزبي. فالناخب ليس معنيا، في الدرجة الأولى بالعقائد الأيدلوجية، قدر ما تعنيه الحلول التي ينتظرها من البرامج الانتخابية التي تطرحها الاحزاب والتحالفات السياسية المرشحة. وقد أفرزت الانتخابات المحلية الاخيرة ان الناخب متقلب كالسياسة، ولا تصمد معه العقائد اذا لم تقترن بتحقيق جانب عملي مما يبتغيه من الدولة، ناهيك عما كشفه الدخول في معترك السياسة، من أخطاء وفساد وعدم كفاءة لدى من نظر إليهم المواطن العراقي على انهم يحملون عقيدة دينية قد تعصمهم من الوقوع في براثن الفساد وإغراءات السلطة.
فالشيعي، كما السني في العراق انتخب أحزابه، في الانتخابات النيابية السابقة، من منطلق أنهم أبناء جلدته الذين سيرأفون بحاله ويتفانون في خدمته، مقتنعا أن عقيدة تلك الأحزاب ومنحاها الديني سيسهم في جعل رموزها نظيفة اليد متعففة عن التطاول على المال العام أو الانغماس في الفساد، ولكن الواقع كشف أن العقائد لا تعصم الممارسة السياسية من المفاسد. ناهيك عن الانتخابات جرت في لحظة استقطاب طائفي كان التنافر، خلالها، بين المكونات العراقية يدفع كل منها إلى التغني بليلاه المذهبية، وتفضيل مطربة حيه التي كانت تطرب حينها.. على عكس المثل المأثور.
وثمة مفارقة ضاغطة لا يستهان بمفاعيلها تتمثل في الافتقار الى قانون للأحزاب لحد الان يشرع تمويلها وتنظيمها، وهو أمر له محطة أخرى للحديث، ولكن ما يتصل بموضوعنا هنا ان معظم الأحزاب، ومنها الاحزاب ذات البعد الديني والمذهبي متهمة في العراق بالولاء لجهات خارجية، بل والتمويل من جهات خارجية. وهو ما اعترف به أكثر من سياسي عراقي.
وامر كهذا قد يحول دون قيام تحالفات بين الكتل والأحزاب السياسية، لان عصي الأجندات الاقليمية صاحبة الرعاية والتمويل لابد ان تدخل في عجلة التحالفات اذا كانت لا تنال عين رضاها، لكن الحس السليم يفترض ان مصاديق رفض الطائفية والمحاصصة لن تتحقق الا بتحالفات تتخطاههما.