من فجر التاريخ، أو من تأريخ بدء كتابته، على وجه التحديد، كانت الجماهير العريضة دائما مع (الواقف) المتوفر الذي اعتادت على ظلمه أو جهله أو سرقاته وفضائحه التي تزكم الأنوف، وتخشى الواقف القادم الجديد لأنها لم تعتد على رؤية طلعته البهية من قبل، وهي بالتالي لا تطمئن إلى قدرته على قيادتها، برغم أنها كافرة بقيادة الواقف نفسه، وتكره طلعته غير البهية، ولا تحترم حاشيته وزبانيته من الحرامية والقتلة والمنافقين والمزورين.

وعلى امتداد تاريخ الانتخابات الشعبية الديمقراطية، كانت الجماهير العريضة دائما مع الذي ينفق أكثر على مظاهره الانتخابية، حتى وهي تشك في أصل موارده، ومصدر أمواله التي ينثرها عليهم، قبيل كل انتخابات.

أما إذا كان المرشح ما زال يتقلد منصب الرئاسة أو الزعامة أثناء تلك الانتخبات فإن له من بريق المركز قوة مضافة تجذب إليه الجماهير العريضة، وخاصة منها تلك الجاهلة والغبية والأمية والانتهازية والمنافقة، أوالجبانة التي تخشى التغيير وتتهيبه.

ليس هذا ما يحدث في انتخابات رئاسة الدولة فقط، بل يحدث في الأحزاب والهيئات العلمية والأكاديمية، ويحدث أيضا في الدكاكين ومواخير الليلل.

وتحدث عن هذه الصفة من صفات الجماهير العريضة سقراط وأفلاطون وإبن خلدون والمتنبي وأبو العراء المعري والرصافي والسياب، وكثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء في كل آداب الكرة الأرضية الواسعة.

وقد ثبت، عبر النماذج السابقة واللاحقة، أنك لو وضعت (قردا بن قرد) على رأس سلطة أو حزب أو ماخور، ومنحته المال والشرطة وقوات الأمن الوطني والأمن الخاص، وأتخمت شوارع المدينة بصوره المتنوعة، ضاحكا أو عابسا، ممسكا بعصا أو بسيف، مرتديا عمامة بيضاء أو سوداء، عقالا أو سدارة، طربوشا أو قبعة كاوبوي، لأصبح غزالا في عيون الجماهير العريضة، وليس في عيون أمه وحدها.

مناسبة هذا الكلام هي إعلان فوز فخامة الرئيس (....) في أفغانستان بأغلبية أصوات الناخبين، ضد منافسه عبد الله. فقد نقلت رويتر عن مسؤولين أفغان قولهم إن الرئيس حامد (قرداي) يتقدم بنسبة 46.3 في المئة من الاصوات، مقابل 31.4 في المئة لعبد الله، بعد فرز اصوات الثلث فقط من مراكز الاقتراع تقريبا.

ويحتاج الرئيس (قرداي) الى 50 في المئة فقط من الاصوات ليتجنب خوض جولة اعادة.

ومؤكد أن فرز أصوات الثلثين الباقيين من الجماهير العريضة الأفغانية الجائعة والجاهلة سيمنح فخامة الرئيس ما يحتاجه بكل تأكيد. فهو الرئيس الحالي، وبين يديه سلطة رئاسية تكسر رأس ألف مرشح جديد، مثل عبد الله. فلدى فخامة الرئيس (قرداي) وظائف حكومية يسيل لها لعاب الكثير من الجماهير العريضة، وتحت تصرفه أموال هائلة في بلد المجاعات. وليس مهما مصدر تلك الأموال. فلا أحد، إلا قلة، سيخطر على باله أنها ثمن عمالة، أو أنها أموال مختلسة من تبرعات أمريكا ودول أوربا (الديمقراطية العادلة المنصفة) التي لا تدعم، ماليا وعسكريا ومخابراتيا وسياسيا ودعائيا، إلا زعماء شرفاء نزيهين وصادقين وغير مرتشين وغير حرامية، وولا تنصب رئيسا في بلد محتل، كأفغانستان وعراقستان، إلا إذا كان مدافعا عن مصالح أهله ووطنه، بصلابة وشهامة، ولا يساوم عليها، ولا يخونها، حتى لو خسر الدنيا وما فيها.

والمنافس عبد الله الذي حصل على 31 بالمئة من أصوات ثلث الجماهير العريضة التي فرزت أصواتها لحد الآن، مغامر أحمق وساذج وغبي، لأنه صدق وعود الأمريكان والأوربيين بدعمه ليفوز على رئيس جربوه وعرفوه. و(قرد تعرفه أفضل من غزال لا تعرفه). لم يخطر بباله أنه استخدم في فترة الانتخابات عصا، وليس أكثر من عصا، توكأت عليها أمريكا وأوربا، وهشت بها على غنمها، ولها فيها مآرب أَخرى.

وعندنا في العراق، قبل خمس سنوات، فاز أياد علاوي بـ 45 صوتا وهو رئيس وزراء، في حين لم يستطع، هو ومحالفوه الشيوعيون والجنابيون والباجه جيون والياوريون في الانتخابات التي أجريت بعدها إلا بـ 24 مقعدا. أي أن الـ 20 مقعدا التي خسرها كانت مقاعد لم تمنحها الجماهير العريضة لسواد عينيه، ولا لبرنامجه الانتخابي، سواء كان تقدميا أو رجعيا، صادقا أو كاذبا، مبدأيا أو انتهازيا، أبدأ، بل منتحتها لكرسي رئاسة الوزارة الذي كان يجلس عليه. ونفس الشيء حدث مع فخامة الرئيس مام جلال والرئيس كاكا مسعود والرئيس أبو إسراء قائد دولة القانون والناي والكمنجة أيضا.

وهذا ما سوف يحدث في الانتخابات القادمة، في عراقنا (الديمقراطي) الجديد الذي لا تمنح جماهيره العريضة أصواتها إلا على أساس البرنامج الانتخابي للمرشح فقط، وليس كما يروج الكتاب المزورون، أمثالي وأمثال إبراهيم أحمد وحسن العلوي وداود البصري وعزيز الحاج، فيزعمون بأن الجماهير العريضة في العراق تسوقها عصا الطائفة والعشيرة والحزب وبريق الكراسي الرئاسية المذهبة.

والدليل على ذلك أن زعماءنا السياسيين المعاصرين والسابقين يخوضون الانتخابات دائما معتمدين على علمهم وخبراتهم ونزاهتهم واستقامتهم وصدقهم وشجاعتهم، ولا ينفقون أيام الانتخابات إلا من أموالهم الحلال، مما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، أو مما ادخروه في غربتهم في دمشق وطهران ولندن والرياض وعمان وواشنطن، من عرق جباههم، وسهر الليالي في غسل صحون المطاعم، وكنس الشوارع، أو غسيل السيارات.

لا يمد أحد منهم يده إلى المال العام أبدا، ولا يرشو ناخبا بوظيفة حكومية أو مناقصة، ولا يعين أيٌ منهم أخاه أو ابنه أو خادمه سفيرا أو وكيل وزارة أو مديرا عاما، وهو أمي لا يستطيع كتابة جملة مفيدة صحيحة، ويحمل شهادة دكتوراه بالفن الشعبي العراقي من رومانيا، أو عن فقه اللغة العربية من جامعة (أهل خير) في زنجبار.

إنني أستطيع أن أحدد نتائج الانتخابات العراقية القادمة من اليوم. فهذا القرد وذاك الحرامي وذلك الدجال سيكتسحون أهل العلم والخلق والشهامة والنزاهة، وسيبقى الوطن خروفا مشويا على موائد اللئام، ما دامت جماهيره العريضة لا تفرق بين الألف وكوز الذرة.