يبقى جسم الانسان العامل المهم والمصنع شديد التعقيد في التعامل مع عناصر وتفاعلات البيئة الخارجية المتباينة، وهذا يعني أن هناك سلوكيات جينية داخلية ارادية الفعل، تتعامل مع المحيط المتنوع الهائل بطرق وأساليب تفرضها الشفرة الجينية وذلك بما يتلائم مع المكونات المختلفة المؤثرة على الجسم، لتعطي نتائج مختلفة هي الأخرى متمظهرة في السلوكيات العامة. هذة السلوكيات الجينية تدعى الاستعداد الوراثي الجيني، لذا فسلوك الجينات يشبه سلوك البشر فهي تحب وتتجدد وتتفاعل أو تتحد وتقهر، أي انها تختلف بتعاطيها للمؤثرات الخارجية لتخلق سلوك ظاهري نتعامل نحن بموجبه مع مكونات محيطنا الخارجي. أتمنى أن لا يفهم من محاولتي هذه اننا خلقنا من مادة ثابتة لها سلوك جيني ثابت وعلينا أن نستسلم لقدرنا، أي لاستعداداتنا الوراثية ونهمل العامل الخارجي المهم هو الآخر في تجديد وخلق مورثات جديدة تتقبل الجديد من المؤثرات و تتعامل معه على أساس مكوناته الجديدة. أن ما يصح من كلمة ثقافة { تخلص من القديم }، يصح على جيناتنا أيضاً، انها { ثقفت } أي دخلت فيها عناصر جديدة تخلق مقدرة وكفاءة جديدة لخلق استعداد وراثي جديد وهكذا.

أن التغيرات في الاستعدادت الجينية تحتاج الى زمن حياتي طويل وتكثيف متواصل للمؤثرات الخارجية التي تغير من بنيوية الجين الذي يستعد لاداء أدوار وظيفية جديدة مختلفة كلية عن سابقاتها عبر مراحل انتقالية في التشكل الوظيفي. وهذه المراحل الانتقالية مراحل مضطربة تتميز بتيه من الأمنيات والرغبات التي تحاول الترشح أولاً لتصل الى مرحلة الترسب بمنظومة الوعي السلوكي، لتصبح قيمة فعلية جديدة ضمن اطار الوعي الاجتماعي الجديد، لذا فنحن لا نستغرب الصراع بين رغباتنا بتبني قيمة اجتماعية جديدة مثلاً وبين سلوكنا المغاير لهذه القيمة.

وهنا يطرح السؤال التالي: هل الانسان مخيّر أم مسيّر؟

من يسيّره ومن يخيّره؟

الانسان مسيّر ليس بارادة ربانية بل بارادة الطبيعة المذهلة التي شكلت مكنوناته وجعلته يسير بدوافع وميول رغباته واستعداداته الداخلية، وهذه الاستعدادات هي الأخرى غير ثابتة بل متحركة تعمل ضمن نظام دقيق لكتلة من العناصر التي تشكل خاصياتنا. وهذا ما يفسر اختلافاتنا رغم تعرضنا لظروف بيئية متشابهة أحيانا. فالأفراد الذين يتعرضون لظروف بيئية واحدة لا يعكسون تصرفاً واحداً أو سلوكاً احادي النزعة؟ لماذا؟ نجد مثلاً في العائلة الواحدة التي يتأثر أبناءها بظروف حياتية متشابهة نسبياً، أن هؤلاء يتميزون بسلوكيات حياتية مختلفة وميول شديدة الدهشة أحياناً، كالجريمة مثلاً، اذن، من يتحكم بالظاهرة السلوكية في النتيجة؟ هل هو العامل الخارجي أم الداخلي الجيني؟ أن المؤثر الخارجي هو الاخطبوط واضح المعالم الواقع على أجسادنا والممتد داخلياً عبر مختلف الموصلات، هو المرئي من الأشياء، أما التفاعل غير المرئي بترتيباته الهندسية بالغة التعقيد والدقة فهي تتحرك ضمن شفرات منتخبة تعطينا سلوكيات ظاهرية متميزة ومختلفة.

الاهتمام في الداخلي، هو المعرفة بهذه الخبايا وفي ايجاد مناخات جديدة مهمة تولد طاقات أخرى بعيدة عن التقليد والمسلكية التي تجتر أشياء الواقع وتجعله واقعاً غير مؤثر. واقع سلبي لا يشكل عامل صحي وانما عامل اعاقة واستسلام. وهنا يظهر هذا الشيء الذي { يسيّر } عملياً، وهو الذي { يخيّر } أيضاً بقيادة جديدة و{ مسيّر } آخر يطلق خياراتنا الجديدة، وهذه الخيارات هي الاضافة الجينية الجديدة، أي حالة تشكل لمورّث جديد، خيار آخر لنا في الحياة ليرجع مسلسل التفاعل من جديد. على الرغم من انني مقتنعة بأن السلوك الجيني له الغلبة بالتسيير والتخيير في آن واحد، لكن تثقيف هذا السلوك هو من مهماتنا الخارجية، الصدمة تخلق التغير. سياسياً نقول أن العامل الموضوعي يمكن أن يخلق العامل الذاتي الجديد الذي يقود الى التغيير حتماً.. العامل الموضوعي غير الصادم. الساكن السلبي والمستسلم لا يقود لتثقيف وتطوير القدرات، بل يمكن أن يخلق حالة فبركة جينية سلفية التمظهر، تضر بنا وتجعلنا ندور في حلقات التكون الاجتراري، لا خلق الاضافات المبدعة. بمعنى أن موروثاتنا تحتاج الى صدمة بيئية نوعية جديدة. لتشكل خياراتنا اللاحقة. وهذه الخيارات على الرغم من تنوعها هي خيارات نسبية ويسهل حدوثها لدى البعض، وعصية لدى البعض الآخر، وهنا يكمن الجدل في استعدادنا الوراثي. لنأخذ مثلاً الانسان الاوربي الذي تفاعل عضوياً مع التغيرات الحضارية التي تمس انسانيته، فهو يدافع عن حقوق الانسان باستماتة ويبقى متفاعلاً معها عندما تصبح جزءا كاملاً من وعيه الانساني، لكننا نجد آخرين ما أن تتغير موازين القوى السياسية عندهم مثلاً ويعتريهم العوز والفاقة في حاجاتهم الانسانية، نراهم يتراجعون عن تقبلهم للآخر وتصبح الأنا والانانية طاغية عندهم، وهذا يرتبط بالموروث والاستعداد للتقبل. ويفسر لنا هذا أن أكبر المؤسسات التعليمية التي تجهد نفسها لخلق وعي جديد في المجتمع، تحتاج الى زمن طويل جداً ليحدث هذا التراكم المعرفي الجديد، ومهما عملت هذه المؤسسات يبقى الانسان أسير مورثاته، فالذي تنجح لديه الاضافات الجديدة وتدخل كمادة في وعيه، يظهر بسلوك جديد يتقاطع مع السلوك القديم بكل تفاصيله، أما اذا دخل المؤثر ضمن آصرة فكرية فوقية هشة بعيدة عن أواصرها التكاملية، نرى أن هناك ارتدادات لاحقة تخلق لديه اضطرابات بين فكرة التبني والسلوك. هذه المراحل الانتقالية في عملية التغير الجيني تحتاج الى فترات زمنية تختلف من فرد الى آخر، وأكثر الصراعات الحادة هي تلك التي تتجلى في هذه الفترات التي لم تحدث التميز والتشكل النوعي الجديد، لذا نرى مواقف متضاربة ومتناقضة ومضطربة ومتقلبة، بدءاً من الفرد الى النظم السياسية والاجتماعية والمعرفية القائمة