هذه الأيام، في بريطانيا وكذلك أوربا، وسائل الإعلام تسترجع ذكريات من التاريخ البشري المؤلم والحزين بمناسبة اقتراب الذكرى السبعون لإندلاع الحرب العالمية الثانية من أوربا في 1/9/1939، بين ألمانيا وايطاليا من جهة ودول أوربية على رأسها بريطانيا وفرنسا من الجهة الأخرى،وقبل تلك الحرب بأسبوع واحد فقط أي في 23/8/1939 وقع في موسكو كل من( فون ريبنتروب) وزير خارجية ألمانيا النازية و(مولوتوف) وزير خارجية الإتحاد السوفيتي وبحضور الزعيم السوفيتي ستالين معاهدة عدم اعتداء بين الطرفين جرى بموجبها تقسيم اوربا لمناطق نفوذ بين القوتين الشموليتين النازية والشيوعية!!، وأول ضحايا تلك المعاهدة الشريرة كانت بولونيا حيث غزاها الحليفان الجديدان من الشرق الإتحاد السوفيتي ومن الغرب ألمانيا الهتلرية وتم سحق بولونيا في ظرف أيام وسط تصفيق الجنماهير الألمانية وتأييدها بحماس لأشهر وأقذر كذبة فبركتها وأطلقتها الدعاية الهتلرية حول (عدوان بولوني مزعوم!!) على اذاعة المانية كانت تبث عند الحدود بين الدولتين وأن البولونيين قد هاجموها وقتلوا حراسها ودمروها مما دعا الألمان بأن يردوا على هذا العدوان وتدخل قواتهم الى بولونيا وصولا الى العاصمة وارشو،ومن جانبهم هاجم السوفيت بولونيا وبموجب اتفاقهم المذكور مع المانيا واحتلوا نصيبهم من هذه البلاد،تلك الكذبة الألمانية على التاريخ كانت البداية لأن تدفع البشرية أكثر من خمسة وخمسين مليون قتيل على مدارالسنوات الست لتلك الحرب (39-1945) ولم تنته الا بدخول الرعب النووي ساحات تلك الحرب في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين على يد الأمريكان.


ليست تلك هي الكذبة الوحيدة اليتيمة في التاريخ لكنها الكذبة الأكثر دموية في تداعياتها بالقطع، حيث التاريخ الإنساني وعلى طوله يزخر بالأكاذيب والأساطير التي يسقط على طريقها ومن حولها بنو البشر ضحايا للجهل والغباء على طريق الديكتاتورية متخلفة كانت أم متقدمة!!


ونعود لتاريخنا العراقي مستعرضين وبعجالة واقع العلاقات العراقية السورية وعلى مدى يمتد لأكثر من نصف قرن مضى،منذ استقلال سوريا العام 1946 حيث شابها العديد من المواقف والإفتراءآت من قبل السلطات الحاكمة في كل من دمشق وبغداد وإدعاءآت ومؤامرات وتحركات عسكرية وشبه عسكرية وصلت لحد التصادم بين النظامين وأن يروح الشعبان الشقيقان العراقي والسوري ضحية لتلك السياسات الخاطئة والمفترية ويدفع ثمنها غاليا من أمنه واستقراره،ولعل ابرز ما نقوله في هذا الصدد هو الكذبة الدموية الكبيرة في معانيها وآثارها التي انطلقت في تموز/1979 من بغداد صوب دمشق واتهامها بالتآمر على العراق والنظامان كانا على طريق واحدة لإستكمال اللمسات الباقية لإكمال الوحدة الإندماجية بين سوريا والعراق!! وما رافق تلك الكذبة من مذابح وتصفيات نالت اعضاء في مجلس قيادة الثورة ببغداد آنذاك واعضاء قياديين في حزب البعث السلطوي الحاكم في العراق، وتعاقبت الكوارث على العراق بداية بالحرب مع ايران العام 1980 ومن ثم الكويت العام 1990 -1991 والحصار الإقتصادي الذي امتد لثلاثة عشرة سنة متصلة، فالحرب الأمريكية الأخيرة العام 2003 وسقوط الدولة العراقية الوطنية بيد المحتلين وعملائهم وليومنا المعاش حاليا..ولحد الآن لا نعرف بالضبط ماذا حدث العام 1979 فهل كان هناك ثمة مؤامرة مدبرة من سوريا ضد العراق؟ ولماذا؟ وكيف؟ مما يجعلنا هذه الأيام نقف مندهشين على هذا الهجوم الرسمي والإعلامي من جانب الوضع الراهن ورموزه في العراق على سوريا واتهامها بالأحداث الإرهابية التي حدثت يوم الأربعاء 19/8/2009 الدامي ببغداد بعد أن اختتم نوري المالكي رئيس وزراء الوضع العراقي الراهن زيارة رسمية لدمشق قبل يوم واحد فقط حيث قابل الرئيس السوري بشار الأسد وجرى إبرام العديد من الإتفاقات السياسية والأمنية والإقتصادية بين بغداد ودمشق!!


ولأن يوم الأربعاء الدامي لم تمض عليه لحد الآن أكثر من عشرة أيام حيث تفاصيل ما أعلن عنه وفي وقتها لا زالت حية في الذاكرة ويمكن مراجعتها على صفحات الأخبار في الإنترنيت فإن ما يلفت النظر والمنطق فيها هو تلك الإعلانات المستعجلة التي صدرت عن مسؤولين من موظفي مجلس وزراء المالكي وبعد أقل من ساعتين على تلك التفجيرات الإجرامية حيث أشار أولئك الموظفون ممن يطلق عليهم لقب مستشاريو رئيس الوزراء، سامي العسكري(أبو ياسر) وعلي الأديب وغيرهما من قيادي حزب الدعوة (الحاكم)!! أشاروا فيها مباشرة الى بعض الدول المجاورة للعراق كالأردن والسعودية وأمتدوا في تصريحاتهم الى مصر كذلك!!

ولم يجر ذكر لسوريا في تلك الساعات!! ومع توالي التصريحات من الناطق بإسم قوات بغداد (اللواء) قاسم عطا (الملقب بالموسوي مؤخرا!!) وجلب أحد الأشخاص المعتقلين الى التلفزيون وإدلائه بإعترافات كونه مسؤولا عن تلك التفجيرات على الرغم من إلقاء القبض عليه قبل أربعة أيام من تلك التفجيرات المشؤومة!! وأنه قد كلف بذلك من قبل بعثيين عراقيين مقيمين في سوريا أمدوه بالأموال والإمكانيات المادية الخ.. فقد تسارعت الأحداث كاشفة الوجه الآخر القبيح والإجرامي لتلك الجريمة النكراء حينما تفجرت يوم السبت 22/8/2009 قصة استقالة مدير المخابرات العراقية اللواء طيار محمد عبد الله الشهواني من منصبه ومغادرته العراق بعد أن واجه نوري المالكي والآخرين بما يملك من معلومات مؤكدة عن دور إيران وفيلق القدس الارهابي التابع لها في هذه العمليات الدموية مما أربك الحكم ببغداد وجعلته يتخبط ويتشدد في كذبته تجاه الشقيقة سوريا.


الملاحظ أنه وخلال السنوات السوداء الماضية من وقوع العراق تحت الإحتلال الأمريكي المباشر والإيراني شبه المباشر، لم يجرؤ أي مسؤول في السلطة ببغداد على الإشارة لأي دور ايراني تخريبي في العراق على الرغم من المئات وربما الألوف من الجرائم التي نفذت بحق العراقيين الذين ذهبوا ضحايا لهذا العنف والحقد المعادي وتصفية لحسابات الحرب العراقية الإيرانية من رموز ابطال الجيش العراقي الباسل الذي كسر شوكة الإيرانيين في صراع الثماني سنوات (80-1988) وأجبر الخميني على أن يصف موافقته على ايقاف تلك الحرب بتجرع كأس السم وذلك في رسالته العلنية المنشورة والموجهة الى هاشمي رفسنجاني في 1988.


ونتذكر بمسرح اللامعقول هذا قصة فيل ( إبرهة الحبشي ) الذي جلب غازيا مكة والكعبة في العام الذي سمي بإسم (عام الفيل) فقد كان ذلك الفيل يأبى التقدم ويبرك حينما يوجه الى الكعبة أثناء حصارمكة ويتحرك بأي إتجاه آخر يراد له!! والفئة الحاكمة ببغداد تشابه في تصرفاتها ذلك الفيل فهي مستعدة أن تنهش وتركض وتعربد على أي كان إلا أنها تقف خانعة خاضعة مزمومة الشفاه كسيرة العين تجاه إيران!!

لندن

E-mail: [email protected]